ظلت المقبرة مكاناً ملحقاً بجغرافية المدينة ؟ مع أنَّ الأحياء -وعبر متوالية الحياة والموت- دأبوا على دفن موتاهم بعيداً، إلا أنَّ أحياء المدينة لا يفتأوا يتبعونهم، يلاحقونهم في ما ضّيق من التراب والرمل عليهم، هذه الملاحقة الكريهة راحت تتكرر في أماكن كثيرة، فأم البروم،
الساحة التي تقع وسط البصرة كانت مقبرة ضايقها الأحياء فالحقوها بالمدينة، وكذلك حال مقبرة محمد الجواد بمحلة الخليلية، ومثلها مقبرة الأسرة العباسية (الكواوزة) المحاصرة اليوم داخل جامع الكواز، وصار مآل العشرات من المقابرغيرها على الحال البشع هذا.
معلوم أنَّ مقبرة الحسن البصري في الزبير بالبصرة ثاني أقدم مقبرة للمسلمين بعد مقبرة البقيع في المدينة، وبذلك تكون أكبر مثوى لجيل المهاجرين والأنصار من البدريين والاحديين وسواهم، الذين دخلوا البصرة واتخذوها مقاما وسكناً بعد سنة 14للهجرة. اليوم يثار موضوع تحويلها الى جزء من المدينة وفتح باب للاستثمار على أرضها، وبما يعني إزاحتها من الوجود، هي التي تشكل علامة فارقة في التاريخ العربي الإسلامي والبصري بخاصة. وإذا كانت الجهات المسؤولة في الوقف السنّي متهمة ببيع مئات الأراضي الزراعية الموقوفة منذ مئات السنين بسبب الفساد والأهمال مرة وبضغوط الجهات الحزبية والعشائرية المسلحة مرة أخرى فقد بات من الواضح أن الحكومة المحلية وعلى تعاقبها غير معنية بالقضية أيضاً، وهي بتركيبتها، أحادية الطائفة متناغمة مع التخريب هذا.
يمكننا القول بأن المقبرة بحاجة ماسة الى عناية اليونسكو، ذلك، لأنها واحدة من أعرق معالم المدينة، ففيها قبور جمهرة كبيرة من الصحابة والتابعين والأدباء والمفكرين والسياسيين البصريين، الذين امتلأت بشهرتهم بطون كتب التواريخ، إذ ليس بعيداً عنها يقع قبر وضريح ومسجد الزبير بن العوام، ابن صفية عمة النبي الملقبة بذات النطاقين، وعلى مقربة منه هناك ضريح طلحة بن عبيد الله، احد العشرة المبشرين بالجنة، وفيها قبر سيد التابعين الحسن البصري، والى جواره ضريح مفسر الاحلام محمد بن سيرين، وبكل تأكيد هناك قبرا التميميين الشاعرين جرير والفرزدق.
ولا يمكن إحصاء عدد العلماء والكتاب المدفونين فيها في ورقة صغيرة كهذه إنما يكفي أن نشير الى أنَّ شهيدة العشق الإلهي أم الخير رابعة العدوية تثوي فيها. ومعها السيدة أم الصهباء معاذة العدوية، وإمام الحديث أبو سطام شعبة بن الحجاج بن الورد، وعلم العلماء ابن يحيى مالك بن دينار، وعالم التصوف الإسلامي أبو محمد سهل بن عبد الله التستري، والشاعر والخطيب العباسي خالد بن صفوان، ومن المحدثين فيها أيضا السيد محمود باشا آل عبد الواحد، شيخ أبي الخصيب، ولي أملاك والدة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وهو شخصية بصرية تولت مراكز مهمة بوﻻية البصرة العثمانية. وأيضاً فيها قبرا وزيرين عراقيين في أول حكومة عراقية انتقالية هي حكومة عبدالرحمن الكيلاني، نقيب أشراف بغداد وهما السيد عبداللطيف باشا المنديل أول وزير للتجارة في تاريخ العراق الحديث .. والسيد طالب باشا النقيب مرشح أهل البصرة لعرش العراق، وأول وزير للداخلية بتاريخ العراق الحديث..
وكذلك فيها النائب عن البصرة في المجلس النيابي العراقي في العهد الملكي سليمان فيضي صاحب كتاب البصرة العظمى. ومن الشعراء عبدالغفار الأخرس الموصلي المتوفى عام ١٨٨٤م ، الذي جدد ضريحه مطرب المقام العراقي الأول محمد القبانجي عام ١٩٤٥م. وقبر الشاعر الكبير بدر شاكر السياب المتوفي عام ١٩٦٤م. وشاعر الزهيريات الفطري أبو معيشي المولود في نجد ١٨٦٦م والذي عاش نحو المائة عام وتوفي في العام ١٩٧٨م.والشاعر الكبير المقتول محمود البريكان عام ٢٠٠٢م .
في مدينة ليس فيها رصيف نظيف لسير المارة أو لراكبي الدراجات الهوائية يكون الحديث عن إزالة مقبرة مادة للتندر وانتفاض الضمير، ما يحدث في مدننا استهتار بمعنى الكلمة. الذين زاروا اسطنبول على سبيل المثال شاهدوا المقبرة الجميلة، الواقعة بالقرب من ضريح أبي أيوب الأنصاري، حيث التلفريك والبحر والغابة والمقهى. القبور المسورة والشواهد الرخامية والأشجار والورود التي بين القبور واحدة من أجمل ما تقع عليه العين السائحة. رفاة وعظام ومآثر المدفونين في باطن مقبرة الحسن البصري أكثر أهمية من بيوت الأحياء القائمين على أمر المدينة، الذين شوهوا صورتها بالعشوائيات والسكن القبيح، هؤلاء أحق بالإزالة من الإثر التاريخي هذا.