هل يكفي ان يكون منتج الثقافة في الشعر والرواية وفنون الابداع الاخرى كتابًا مرصوفًا في مكتبة؟ وهل هذا مآل مقنع للذين افنوا أعمارَهم في الصنعة المربكة هذه؟
أقول هذا وانا أقلّبُ وأتصفح المئات والمئات من الخطاطات والقصاصات المقتطعة من المجلات والصحف، التي ما زلت احتفظُ بها في الارفف السرية لمكتبتي منذ عقود، مع اوراق مكتوبة، ومطبوعة، ورسائل شخصية، وبعضها شخصي جدًا، ونماذج لقصائد لم تكتمل، وهوامش على كتب، وتصويبات واشياء أخر، كانت قوام تجربتي في الكتابة، أعرفها واتذكرها ولعلها شكلت في الزمن صورة ما انا عليه، بجمالها وتعقيدها وقبحها أحيانًا.
إذا كانت أسرة أستاذنا القاص والروائي محمود عبد الوهاب (1929-2011) قد تبرعت بمكتبته الى جامعة البصرة، وانتهى مصيرها هناك، دونما بحث وتقليب وترتيب فقد بقيت مكتبات الشاعر حسين عبد اللطيف (1945-2014) والشاعر عبد الخالق محمود (1945-2001) والشاعر مجيد الموسوي (1945-2018) والقاص والروائي كاظم الاحمدي (1940-2008) وغيرهم في البصرة وبغداد وباقي المدن مؤمّنة في بيوتهم، لم يكشف أحدٌ أسرارها، وهنا، أجدني غير معني بالكتب المطبوعة، التي غالبًا ما تتكرر في المكتبة هذه أو تلك، إنما أتحدث عن آلاف الخطاطات والقصاصات والهوامش والتعليقات التي احتفظ بها هؤلاء طوال حياتهم، ترى ما مصيرها، والى مَ ستبقى ميتةً، أسيرة غبار الزمن؟ هلّا حدثنا أحدٌ عن صورهم وكتابتهم التي لم يتسن لهم إخراجها، وما النهاية الافتراضية لرسائلهم التي اخفوها في الدُّرج السرية بمكتباتهم، وماذا عن المصائر التي تقاطعت هنا وهناك؟ بصراحة يربكني المشهد حدَّ الشعور بالخذلان والخيبة من جدوى ما كتبوا وكتبتُ وسأكتب.
لا أريدُ أن أنتهي كتابًا في مكتبة، أي مكتبة، يسوطني غبارها برحمته، وتمتد يدٌ زاهدة بي، تأخذني أو تهجرني، هذا مآل حقير جدًا، لا أحبّهُ ولا أرتضيه، فقد عشت حياةً لا أظنها تافهةً، حياة مختلفة عن حياة كثيرين، خسرت فيها، نعم، لكنني ربحت نفسي في حوارها معي في القليل، ثم أنني ما زلت احتفظ بمئات الصفحات التي دونتها، كتبتها على مدى أربعين سنة وأكثر ربما، وعندي من الرسائل والصور والقصائد غير المكتملة الكثير، الذي لم يتسن الوقت لي بمراجعته وإخراجه، وأمامي، على واجهة اللابتوب أكثر من كتاب مخطوط، انتقيت لها أجملَ الفونتات- أحبُّ Traditional Arabic- هذه الانسيابية في الاحرف تغريني بالكتابة.
اليوم، وفي كآبة ما أفكر فيه واعاني منه، سألت أحدَ أبنائي ما إذا كان للمكتبة من جدوى، بعد مغادرتي النهائية للبيت، لم أشأ إحراجه، فسؤال مثل هذا فيه من القسوة الكثير، لكنني، بينت له بانني احتفظ بمئات الاوراق، التي لم أطلع أحدًا عليها، هي خاصتي، وتشكل الجزء الاهم من حياتي، أعلم أنها لن تحظى بعناية احدٍ، وانَّ مصيرها الحرق أو مكب النفايات، فانا ومنذ سنوات ما عدت أتبرم من ضياع ورقة هنا ومثلها هناك، ولطالما افترشت إحداهن (زوجات أبنائي) صحيفة لي فيها مادة منشورة او حديث عني وجعلتها سفرة للطعام، وهكذا، أصبحت زاهدًا بالكثير الذي كنت اجدني فيه.
قبل أن يُطبع أولُ كتاب بالعربية لبورخيس (تقرير برودي- بترجمة نهاد الحايك صدر عن دار الشؤون الثقافية ببغداد) كنت قد جمعت قصصًا وقصائد ومقالات له في دفتر كبير، اقتطعتها من مجلات وصحف عربية وعراقية، أذكر منها قصة بعنوان (كتابة الله) كانت منشورة في مجلة الفباء. وفي مقهى بالبصرة القديمة كنت قد أطلعت الشاعر حسين عبد اللطيف عليه، وتحدثت عن أهميته، فما كان منه إلا أن طلبه مني، لكنه لم يرجعه الى اليوم، ظل عنده، في غيابة الغبار وسوء التذكر. الغريب انَّ عبد اللطيف ظل يجيبني كلما سألته عنه: بأنه موجود في المكتبة، مع الكتب والاحذية.