لا أحد يضيّق عليك بفكرة الهناءة أيها لتجدها على أريكة وثيرة في قصر منيف، مع نساء حسان وأنبذة مختلفة، أبدًا، الغَرَبُ والطرفاءُ والنهرُ المندرسُ مع أجنحة الطير المغادر في الغروب قد تشعرك بها،أيضًا.
فالطبيعة ببدئيتها، والبحارة الغرباء، الذين قدموا قبل علي بن محمد من ساحل القراصنة وملقة وزنجبار، المدن التي تنبت في افئدتهم مثل العوسج المرِّ والحلفاء، هنا، في أقيانوس الملح، وفي الجنوب الذي ينسرح انهارًا تتآكل، ونخلًا مريضًا ثمة ما تطيب نفسك به، معنى أثير من معاني الحياة، يتحسسه المرءُ دونما إشارة أو تعريف وتسمية، إذ، نحن بحاجة دائمة لتعطيل الفلسفة، ولنبذ الاسئلة الكبرى.
قبيل ظهر أمس، كنت مع الكتبي الشاب حمزة العبد الله، صاحب مكتبة الصحراء نتحدث عن الحقيقة وما عليها، ولما انقضى ما بيننا من النهار، اتفقنا على أن لا وجود للحقيقة، هناك وهم اسمه الحقيقة. قلت له إذن: سأمضي يوم الغد وبعده وما بعد بعده ربما الى هناك، وكنت أشير الى الجنوب، وسأكون بلا هاتف وكتاب، بلا راديو وتلفزيون، بلا انترنيت، وبلا قلم وورقة أيضًا. أريد انْ أتحرر من كل قيد أدمنته، هذه الاشياء تسلبنا حقنا في الحياة. غدًا سأقول لي، لروحي المكبلة بالاشياء: ياه، يا للحرية. منذ نصف قرن ويزيد، ونحن نراكم القيود على القيود، ولا نعي ثمن الحرية في ان نكون مجردين من كل شيء، بما فيه الثياب.
ما زال مضيّفي يحذرني من الافاعي في المكان، حيث أقمت، فأقول: يا سلام، أين هي؟ منذ امد بعيد لم أر أفعى، أريدها، أريد ثعلبًا يسرق إوز روحي، وأريد قنفذًا تنتصبُ أشواكه فأخشاه حافيًا على الطريق، أريدُ أرنبًا بريًّا يهرب مني الى الاحراش، وأريد ابن عرس، ذاك الذي كان يلجأ الى أنبوب ماكنة السقي، كلما رآني ماشيًا في بستان ابي. منذ امد بعيد لم أر خنزير القصب الوحشي، الذي اعتاد ان يقضي ليلته عائمًا، بين الضفة التي نحن عليها بالدواسر والضفة التي عليها ابناء العم في عبادان وبهمشير والمحرزي، في الرحلة الابدية، التي ابتدأها منذ ان كان شط العرب بابًا الى الخليج، وحتى سقوط إمارة الشيخ خزعل في المحمرة، والى نهاية حرب السنوات الثمان. هذه الارض وان كانت ساحة معركة ما تزال، لكنها اليوم مفازة طمأنينة وامن، ديار نخل وسمك وبطيخ، المخلوقات هذه تعيدني انسانًا، تستنفر طفولتي التي أضعتها في المدينة.
إذا كنا نتحدث عن الهناءة في الامكنة تلك، هناك ما يدعونا لنتحدث عن الذين ما زالوا الى اليوم يضعون الراديو على رف، قرب أسرتهم، ويصغون للصوت القادم من اعماق سحيقة في ارواحهم، يستمعون الى أغاني حسن خيوكه ورشيد القندرجي وفلفل كورجي وسليمة مراد ومائدة نزهت، أولئك هم الذين يبحثون في مؤشر الراديو عن ما أضاعوه من هناءة في منقلبات السياسة وافتقاد العملات المعدنية، وانهيار أناقة بغداد والبصرة، يبحثون عن غربتهم وخيبتهم في ما لم يتحقق لهم، منذ سقوط الملكية الى اليوم.
اليهود العراقيون الذين غادروا سنة 1948 واستوطنوا إسرائيل ولندن ونيوروك وبرلين، وسواهم من طبقة الملاكين والتجار، الذين تفرقوا في البلدان بعد سقوط الملكية، وكذلك نخب البرجوازية السياسية، الذين تبعوهم بعد سقوط جمهورية عبد الكريم قاسم، وسكنوا الخليج ولندن وبيروت، وصولا الى أقرانهم من الشيوعيين، الذين أجبروا على مغادرة العراق بعد العام 1978 الىى شرقي وغربي اوروبا وغيرها، وليس آخرهم الذين تفرقوا في امصار الدنيا عقيب ربيع 2003 من الذين طالت اقامتهم في عمان والقاهرة واسطنبول ودبي. هؤلاء، كلهم لم تحتوهم المدن باذخة الجمال هناك، ولم تكن منازلهم مزينةً بالجسور الجميلة والغابات وصور الحسناوات، أبدًا، ظلوا قابعين في أغنية، ما زالت تتردد في مذياع، لا أحد يحرك مؤشره. قد تقبع الهناءة في اغنية؟
منذ أيام ثلاثة وانا أتردد على المكان ذاته، اسميه منقلب الطبيعة الاولى، على ضفة النهر الصغير، ليس بعيدًا عن الشط، اسمع خوار أبقار أتوهمها، اتطلع في وجوه فلاحين غابوا، اتفقد أشرعة بحارة وصيادين صاروا هباء على الموج. كنت احتميت من الشمس بخيمة صغيرة، لم يكن الصيد وفيرًا، لكن الصمت ظل رائنًا، والماء بترداده في المد والجزر لا يني خِلًا وصاحبًا، وصوت طيور لم يسمها أحدٌ لي، وأشياء أخر جعلت المكان فردوسًا.