قد لا نتخذ من خلاصات علي الوردي في رؤيته للمجتمع العراقي، وتركيزه على قضية انتقاله من البداوة الى التحضر باباً لمعاينة أوضاعنا الحالية، لكننا، وهذه حقيقة مزعجة سنصطدم بجملة تصورات عن حياته، هي غريبة الى حدٍّ ما، فالعراقي بعامة،
ما زال يحتفظ بالكثير من قيم البداوة، ولا يريد مغادرتها، وهي ليست محط نفور وازدراء، إذ لكل مجتمع قيمه وطبائعه وسلوكه، لكنَّ المثير في ذلك، أننا نجده يحرص على الاحتفاظ بسنن وقواعد القبيلة، والدفاع حدَّ الموت عن بدويته، الى جانب نزوعه (المصطنع) الى التمدن والتحضر، واستعمال قيم المدنية كوسيلة فضلى للحياة، وهذا واضح من خلال طريقة عيشه والسكن واللبس والسلوك الحضري بعامة.
ومع أن الدين الاسلامي عاب على المسلم العربي سلوك الأعراب، إلا أننا نجد أنه(العربي) يصرُّ على استلال الكثير من سلوكياتهم، مع إصراره على أن يبدو مسلماً، متخلصاً من بدويته وإنساناً غير ذلك في زاوية ما من حياته، وهذا ما يجعل أي فكرة عنه منقوصة، ومربكة أحياناً. ولاحظنا كيف شاعت في أيام النظام السابق ظاهرة استعارة بعض المسؤولين الحزبيين، من أهل الجنوب، مفردات من سكان تكريت والمنطقة الغربية(يولْ وعجل يابه وخللينه..) في استقواء مريض على بني جلدتهم، وكثيراً ما نجد بيننا اليوم من يستقوي بلفظ سكان الأهوار، في محاولة إذلال الآخر، ونشاهد ذلك في النزاع المسلح بين العشائر، حتى بات اللفط هذا جزءاً من منظومة تخويف ووعيد.
هذا المنطق وبكل رداءته، يحملنا الى القول بأنَّ ما يحدث أمامنا في النزاعات المسلحة وغيرها لا يمثل حقيقة الشخص العراقي، فهو منقسم على ذاته، غير مستقر الى انتماء بعينه، وقادر على الانحراف بولائه إذا ما وجد طريق خلاصه ضيقة أمامه، والأغرب من ذلك كله، هو محاولته في ممارسته لحياته التقليدية في الأماكن العامة الجميلة، مثل المول والسوق العصري والنادي الاجتماعي والحزب السياسي أيضاً، لكنها تتضح عند أول اختبار له، إذ سرعان ما يستل بداوته، ولعل ما يحدث في مناطق الغربية من صراع سياسي قبلي خير دليل على ذلك. العشيرة وقوانينها ساكنة ومتحركة عنده دائماً .
يتحدث زائرو معرض العراق للكتاب، المقام في بغداد عن ظاهرة بغدادية- عراقية، ثقافية فيها من الرقي والرفعة والجمال الكثير، في التعامل مع الكتاب، الذي أصبح عنوان المدنية، أبرزها حضور الأسرة هناك، وهذا فعل حضاري، جدير بالتوقف والتأمل، لكنني، أسأل كم من الذين زاروا المعرض قادرين على تجاوز بداوتهم المضمرة، والانصراف بكليته الى قيم المدنية والتحضر، ومراعاة حقوق الإنسان، والصفح، والتسامح، وصون الحريات، ولست هنا في معرض وجود الدولة من عدمه، فالإنسان الحر المتحضر متجاوز بطبيعيته الى وجود كهذا.
لا أعرف كيف أقرأ وأفهم آلية حضور البغداديين وأسرهم معرض الكتاب، بوجود العديد من الأحزاب والمليشيات المسلحة، التي تفجّر محلات بيع الخمور وقاعات المساج وأماكن الترفيه الأخرى؟ هنا، حيث تصطرع البداوة كلها مع التحضر كله داخل الأسرة الواحدة.
*- الجملة لأدونيس