بالغ آباؤنا الأوّلون من الشعراء في وصف كتابة الشعر، وتصويره على أنه فعل صعبٌ ومعجزٌ، لكنَّني أرى أنَّ جملة الفرزدق الشهيرة " إن خلع ضرس أهون عليَّ من قول بيت من الشعر" تُحمل على دلالتين: إحداهما الصعوبة في الاختيار ، والتي تعنى وجوب الإجادة، والثانية العزوف عن قول الرديء ، وتوخي الحذر من الوقوع فيه، وهذه وجهة نظر نقدية وواعية، أكثر مما هي عرض حال الشاعر، أثناء كتابة أو قول الشعر.
نحن نقول بأنَّ العرب أمّةُ قول، وهم صناّع كلام، والشعر ديوانهم، وهو يجري على ألسنتهم مجرى الماء، تُرى لماذا يلجأ شاعر كبير مثل الفرزدق الى تشبيه قول الشعر مثل خلع الضرس؟ ثم إذا كانت الفطرة والموهبة محركين أساسيين في القول والكتابة، وهي هبة الآلهة أو الجِّن، بحسب آراء الأقدمين، فعلام يشقى الشاعرُ في قوله، وقد نفثت الملائكة في فيه ونطقت بلسانه؟
ما يهمنا في ثقافتنا اليوم، هو إعادة قراءة الكثير من المقولات والمسلمات ثانية وثالثة، وتوخي التسليم بالرأي السائد، ففيه ما ينطوي على أخطاء، بتنا نردّدها بوصفها خلاصات، دونما تفكّر وتدبّر ، وهنا أرى أنَّ الكثير من شعرائنا وكتابنا ما زالوا ينظرون لها بقدسية مطلقة. الشعر فعل إنساني مثل معظم الأفعال، يستطيعه صاحب الموهبة، ويتطور بالمران والجد والقراءة والحفظ، ويخبو بالاهمال والكسل والاستسهال، وإلا ما معنى قولنا عن موريتانيا بانها بلد المليون شاعر؟ ونحن لا نذكر لهم شاعراً واحداً، وتبدو جملة محمود درويش :" إن الشِّعْرَ يُولَدُ في العراقِ، فكُنْ عراقيّاً لتصبح شاعراً ...رومانسة ومجاملة لا أكثر.
بفعل بدا أنه لم يدرس بعناية، وجدنا أننا نجلس في قاعة كبيرة، لنستمع الى عشرات الشعراء العراقيين، وهم يقرأون قصائد مختلفة في مهرجان اسمه (قصيدة الهايكو والنص الوجيز) مع أننا نقرُّ بانَّ النمط هذا لم يُعرف جيداً في منجزنا الشعري العراقي تحديداً. وهنا لا نريد أن نقلل من إمكانية الشاعر العربي على كتابته، إنما نرى بانَّ معظم ما كان يقرأ لا ينتمي في شكله الى الهايكو، الذي عرفناه وقرأناه مترجماً عن لغات أخر، ذلك لأن المتلقي يجد صعوبة بالغة في إيصال فكرة القصيدة، الهايكو، لأنَّ الصورة أو اللقطة تلك إنما تتشكل ذهنياً، وتُستجمع في خيال اعتاد النمط هذا من الكتابة.
مثل الفعل هذا نقرأ ونسمع عن العشرات من المؤتمرات والمهرجانات التي تقام في طول وعرض الوطن العربي، في القاعات الجميلة، حيث يحتشد الجمهور، أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث ينحسر، ونجد عشرات الجهات الحاضنة، والجاهزة لتوزيع الشهادت على من هبَّ ودبَّ، وخلع الالقاب الكبيرة على هذا وذاك، ضمن أفعال مماثلة، لا تقدم للثقافة شيئاً، بل ونرى بأنها لا تصبُّ في مصلحة الثقافة، فهي(الثقافة)مسؤولية أكبر من أن يتاجر بها، أو تتبناها جهات لا علاقة لها بها، فيما ينظر البعض الآخر، على أنها ممارسة عادية، لا تضر ولا تنفع. نقول بأن جملة الفرزدق لم تكن عابرة، أبداً، كانت واعية لما يجب أن تكون الثقافة عليه.