رأس الرمح دوماً
بقلم : د. صادق إطيمش
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

حينما يتصدر المرء ليس طلباً للظهور او حباً بالوجاهة او طمعاً في القيادة او حتى كدليل لطريق او مرشداً لوِجهة معينة ولا يرجو من كل ذلك جزاءً ولا شكورا، بل أن كل ما يرجوه تحقيق رغبة ذاتية في عمل الخير وخدمة بني قومه وإرضاء ما يجول في ضميره من فكر انساني وانتماءٍ لقوم لا يرى نفسه إلا واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم.

موقف الصدارة هذا الذي قد يشار له احياناً برأس الرمح حينما تكون المواجهة الأمامية امراً محتوماً قد يتخلى عنه البعض لسبب ما. إلا أن الذي يشكل رأس الرمح هذا لا طاقة له ولا رغبة بالتفتيش عن التأخر خطوتين إلى الوراء ليتجه بخطوة واحدة إلى الأمام، حتى وإن التبست خطى الأمام لفترة قد تقصر او تطول.

وما ينطبق على الأشخاص ومواقفهم هذه يمكن عكسه ايضاً على مجموعة بشرية تنتظم في اطارها الاجتماعي وتضع كل ما تملكه من خصوصية لكل من يضمه هذا الإطار لتحقيق امر ما عام او امور كثيرة مختلفة اخرى في مواجهات يومية او لفترات زمنية تحددها طبيعة واهمية هذه المواجهات التي تصب في التوجه الاجتماعي العام.

وحينما نختصر هذه التنظيمات الاجتماعية على المنظمات السياسية العاملة ضمن إطارات الدولة التي تتشكل فيها، كالدولة العراقية مثلاً، فسنجد بما لا يقبل الشك وجود احزاب سياسية مثلت هذا الدور في مواجهة كثيراً من المشاكل التي مر بها البلد سياسية كانت هذه المشاكل او اجتماعية او ثقافية او اقتصادية.

لقد كان كثير من الأحزاب الوطنية العراقية التي تشكلت في ادوار مختلفة من نشوء الدولة العراقية راصداً جيداً للمناخ السياسي العراقي وللإجراءات التي رافقت الحكومات المتعاقبة ومدى تأثير هذه الإجراءات، سلباً او ايجاباً، على حياة الإنسان العراقي الذي ظل، ولفترات زمنية طويلة، يعيش حياة بسيطة يغلب عليها الطابع الريفي وتوجهها العادات والتقاليد التي لم تنسجم وتطورات الحداثة التي نشأت في ظلها الدولة العراقية الجديدة على اعقاب انهيار الدولة العثمانية المتخلفة. واستمرت هذه الأحزاب والتجمعات الوطنية في نشاطاتها هذه بالقدر الذي استطاعت الاستمرار به في هذا المجال، لتختفي كلاً او جزءً من الساحة السياسية العراقية ولتأخذ مكانها احزاب او تجمعات مدنية وطنية اخرى لمواصلة النشاط السياسي الذي تفاوت هو الآخر في درجة تفاعله ونشاط فعالياته المراقبة للوضع السياسي العراقي، وهكذا استمر الأمر منذ قيام الدولة العراقية الحديثة وحتى يومنا هذا.

وهنا نستطيع القول ان التوجه الوطني العراقي الشامل قد عاش مراحله المختلفة ضمن نشاطات مختلفة لقوى وطنية عراقية رافقته لحقبة معينة من الزمن لتختفي بعدئذ ولفسح المجال لقوى اخرى وهكذا.

إلا ان الملاحظ لكل مراقب سياسي فطِن ومؤرخ منصف أن الحزب الشيوعي العراقي رافق هذه المسيرة منذ بداياتها من خلال التنظيمات الاجتماعية والسياسية التي بدأ بها عمله على الساحة السياسية العراقية الجديدة قبل أن تتطور هذه التنظيمات إلى حزب سياسي في الحادي والثلاثين من آذار عام 1934، اي بعد اربعة عشر عاماً تقريباً من نشوء الدولة العراقية الحديثة. من الطبيعي ان تشكل هذه الحقيقة مفخرة لكل وطني عراقي يشعر بالسعادة والرضى بوجود قوة سياسية عراقية تتبنى الشأن الوطني العراقي، بالرغم من عدم ادعائها، وهذا ما يؤكده تاريخ الدولة العراقية وبرنامج وتوجهات الحزب الشيوعي العراقي، بانها الجهة الوحيدة التي تعكس واقع المجتمع العراقي وتتبنى طموحات اهله.

لقد ظل الحزب الشيوعي العراقي يشكل رأس الرمح حقاً من خلال مرافقته لتاريخ الدولة العراقية الحديثة ليتعامل مع التطور السياسي والاجتماعي والثقافي لهذه الدولة التي فرضت عليها حداثة تكوينها من جهة، كإرث للدولة العثمانية، وخضوعها لأطروحات خارجية، بريطانية خاصة، من جهة اخرى، تبعات كان لابد للحزب الشيوعي العراقي ان يتعامل معها والتي ارتبطت بما قدمه هذا الحزب من خسائر جسيمة على مختلف الأصعدة وعلى كل المستويات.

لم يجعل الحزب الشيوعي العراقي من مواقفه الوطنية هذه مادة للانفراد بالعمل الوطني الذي بلور سياسته حول التحالفات التي تأسست على فكرة المشاركة في العمل الوطني والمشاركة في تقديم المزيد من الدعم الشعبي لمطالب الشعب العراقي عموماً.

وعلى هذا الأساس تعرضت سياسة التحالفات التي مارسها الحزب الشيوعي العراقي لكثير من النقد الغير منطلق من تقييم الحزب الذي اعتبر مثل هذه التحالفات شكلاً من اشكال القناعة بوطنية العمل السياسي ايضاً وليس بحزبية هذا العمل فقط.

لم يمر الحزب الشيوعي العراقي بأية مرحلة من مراحل نشاطه في العراق دون ان يمارس تقييم هذا العمل لكل فترة تسمح بها ظروف العمل السري او العلني لممارسة هذا التقييم. ولم يقم اي حزب سياسي عراقي بنشر غسيله على الشارع العراقي بكل ما فيه من سلب او ايجاب كما مارس الحزب الشيوعي العراقي ذلك في فترات مختلفة من نشاطه. وظل الحزب الشيوعي العراقي يمارس نشاطه، حتى وإن تلكأ احياناً، كأقدم حزب سياسي شهده العراق الحديث. لقد راهنت كثير من القوى السوداء على القضاء على هذا الحزب ووظفت مختلف وسائل القمع والمطاردة والإرهاب والتنكيل بأعضاء وأصدقاء ومناصري الحزب الشيوعي العراقي وعلى مر العقود التسعة الأخيرة من تاريخ العراق الجديد. فلم تستطع الإجراءات القمعية الملكية وأجهزتها الأمنية ، ولا التكتل الرجعي الذي لجأ إلى الفتاوى الدينية ضد الحزب الشيوعي العراقي أيام الحكم الوطني بعد ثورة الرابع عشر من تموز ، ولا جرائم البعثفاشية ضد الشيوعيين العراقيين واصدقائهم خلال وبعد انقلابها في شباط الأسود بكل ما تميزت به من وحشية خلال عقود سيطرتها على سياسة الوطن لما يقارب الأربعة عقود من الزمن ، ولا الحملات الدعائية التي كثرت ضد الحزب الشيوعي العراقي بعد سقوط النظام الدكتاتوري والتي جاء قسم منها على شكل فتاوى دينية مرة أخرى ، لم تستطع كل هذه الإجراءات القمعية ان تنال من وجود هذا الحزب العتيد الذي اثبت بأن جذوره تمتد عميقاً في المجتمع العراقي بكل أطيافه وقومياته ، حتى بات الجو السياسي العراقي لا يكتمل دون ان يكون لهذا الحزب دور على الساحة السياسية العراقية كبُر هذا الدور أو صغر . بعبارة اخرى يمكننا القول ان الحزب الشيوعي العراقي لم يكن رأس الرمح في النضال الوطني فقط، بل شكل ايضاً رأس رمح العداء والضغينة للقوى المتخلفة التي لم تترك وسيلة من وساءل القمع إلا واستعملتها ضد الحزب بغية انهاءه وشل عمله والتي باءت جميعها بالفشل الذي يبرهن عليه استمرار وجود الحزب الشيوعي العراقي على الساحة السياسية العراقية واتساع مجالات عمله على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية.

وحينما نتطرق إلى هذه الحرب الظالمة التي يشنها البعض على الحزب الشيوعي العراقي، فإننا نميز هنا بين تلك الحرب التي يستعمل فيها اصحابها كل ما بجعبتهم من اكاذيب وكل ما يحملونه من تخلف فكري معاد لكل ما يشير إلى الحداثة والسير في ركب الحضارة العلمية لهذه المسيرة التي يدعو الحزب الشيوعي لها وينَظِر لأطروحاتها ويحاول ان يساهم بها بكل ما يخطط له من نشاط وطني واممي في هذا المجال. إن مثل هذه الحرب مفهومة الدوافع ومعلومة الأهداف ولا يحتاج المرء إلى علم واسع ليكتشف كنهها ونوايا اصحابها الذين لا يعكسون بهجماتهم على الحزب الشيوعي العراقي والفكر الشيوعي عموماً إلا عداءً تاريخياً متوارثاً يشير إلى عمق جهلهم المطبق بالتاريخ وحركته الدائمة وصيرورة احداثه وتبلور واقعه، يتمسكون بفكر متخلف يفتش في مقابر اسلافهم عن حلول لمشكلات يومهم، يرافقه العجز عن التطلع إلى المستقبل الذي لا وجود له في تفكيرهم والذي لا يتجاوز غير " لا تفكر لها مدبر ". مثل هذه الحرب من مثل هذه الجماعات قد لا يشكل هاجساً أكثر ما يشكل استهزاءً قد يقود إلى الشفقة على جهلة لا يحتاجون إلا إلى قليل من العلم وبعض المعارف الإنسانية، لا ليكفوا عن لغة الشتيمة فقط، بل ليتمكنوا من التعامل مع مجتمعهم تعاملاً يوحي بانتمائهم إلى المجتمع الإنساني لا إلى شتامين لكل مَن حولهم.

إلا ان المؤسف حقاً هو ان يعيش المرء عصر التنكر الذي يمارسه بعض اصدقاء او رفاق الحزب الشيوعي العراقي بالأمس لكل ما عاشوه او تعايشوا معه او اكتسبوه في مسيرة حياتهم السياسية التي لم تكن بعيدة عن مسار النضال الوطني للحزب الشيوعي العراقي.

لا شك ابداً في مجمل التوجهات الوطنية لهؤلاء الاصدقاء الذين جعلوا من ابتعادهم التنظيمي عن الحزب، مع الحفاظ على مسيرتهم الفكرية التقدمية، معولاً يهدمون به جزءً من تاريخهم الذي مارسوه يوماً ما مع هذا الحزب العراقي العريق سواءً بعمل مباشر او غير مباشر عبر العائلة الواسعة او الضيقة. إنه امر مؤسف حقاً ان يجعل هؤلاء الأصدقاء الذين يشكلون صفاً في خطوط المواجهة مع قوى التخلف والظلام التي يحاول الإسلاميون ورهطهم لعب الدور القيادي فيها ، ان يجعلوا من الحزب الشيوعي العراقي ، وفي هذه الظروف التي تتكالب فيها قوى التخلف للنيل منهم ايضاً ، عدوهم الرئيسي وهدف مواجهتهم في العمل السياسي على الساحة السياسية العراقية التي هي احوج ما تكون اليوم إلى وحدة قوى اليسار ، القوى التقدمية احزاباً ومنظمات ، الساعية للتواصل الحضاري والتطور العلمي في كافة المجالات التي انتهكها الإسلاميون ونشروا فيها كل انواع الفساد والجريمة والانحطاط الأخلاقي والفقر والجهل والتدهور الشامل في كل مجالات حياة الإنسان العراقي.

ولو تقصينا اسباب هذه الهجمة من قوى لم تزل تحتل المواقع اليسارية في مسيرة النضال الوطني وتتناغم نظرياً، على الأقل، مع افكار الحزب الشيوعي العراقي الذي تتربص به الدوائر في كل صغيرة وكبيرة، لوجدنا انها اسباب لا يمكن تصنيفها ضمن التناقضات العدائية التي يناقشها الفكر اليساري التقدمي حينما يتخذ المواقف المبدئية تجاه هذه التناقضات. بمعنى ان الخلافات التي يطرحها هؤلاء الأصدقاء يمكنها ان تناقش في حوارات فكرية تؤطرها نفس المبادئ التي يتبناها المتحاورون، وإن مشتركات هذه الحوارات كثيرة وكثيرة جداً. وهذا يشير بكل وضوح إلى ان قوى اليسار هذه مجتمعة ترى تناقضها الرئيسي ليس فيما بينها، بل بينها وبين الفكر الشوفيني المتخلف الذي تنشره قوى الإسلام السياسي ومَن يسير في ركاب محاصصاته السياسية واساليب عمل عصاباته المسلحة وكل ما جرَّت اليه وطننا من مآسي وآلام وكوارث يعاني منها شعبنا كامتداد لسياسة البعثفاشية المقيتة ونظامها الإجرامي.

وفي اسوأ الحالات يتجه هذا الهجوم على الحزب الشيوعي العراقي من قِبل مَن عاشوا في بيئته يوماً ما نحو النفور الشخصي، خاصة فيما يتعلق بقيادة الحزب، الذي يتجسد من خلال الموقف الشخصي من هذا الكادر الحزبي او ذاك، وجعل كل التنظيم الحزبي، من خلال ذلك، رهيناً بالعواطف أكثر مما هو عليه بالمبادئ. وهذه لعمري كارثة الكوارث التي تؤطر نشاط انسان يساري التوجه تقدمي الأفكار.

جل ما نستطيع قوله إلى كافة الأصدقاء الأحبة الذين يعون ، بدون ادنى شك ، طبيعة الكوارث التي يمر بها وطننا اليوم بسبب سياسة احزاب التخلف الفكري والجريمة المنظمة والانفلات الأمني والانهيار الاقتصادي والتدهور الثقافي والتمزق الطائفي والتوجهات العنصرية والمناطقية والعشائرية التي اوجدتها الاحزاب الحاكمة ومن يسير في ركابها ، يتعلق بالدعوة الصادقة للتخلي عن وضع الحزب الشيوعي العراقي ، حزبهم او حزب آبائهم بالأمس ، على راس رمح هجماتهم التي لا يستفيد منها إلا الإعلام الرجعي الشوفيني الطائفي المتخلف الذي يوظف هجماتهم هذه لا لانسجامه مع توجهاتهم السياسية ، بل بالعكس فإن عداءه لهم لا يقل عن عداءه للحزب الشيوعي العراقي وكل توجهاته الفكرية، بل لتعميق شقة الخلاف بين القوى المؤهلة فعلاً لإبعاده عن الساحة السياسية العراقية بطروحاتها العلمية الحديثة ومناهجها التنويرية  وافكارها الإنسانية لتحقيق الدولة المدنية الديمقراطية ، دولة السلام الاجتماعي والرفاه الاقتصادي والتلاحم الحضاري مع مجتمعات العالم اجمع .

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 11-05-2021     عدد القراء :  1371       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced