لم تنقطع يوماً اخبار هروب وتهريب العراقيين بهدف اللجوء للتخلص من الواقع المأساة التي ألمت بالعراقيين والعراق، وبهذه المناسبة فقد أعلنت وزارة الخارجية العراقية يوم الجمعة المصادف ( 6 / 8 / 2021 ) إن الحكومة بصدد اتخاذ " إجراءات تحدَّ من استغلال المهاجرين العراقيين " وهي دليل على أن هناك تدفق مستمر للمهاجرين العراقيين على الرغم من مرور حوالي 18 عاماً على اسقاط الدكتاتورية التي كانت السبب في الهجرة والخروج بهدف اللجوء السياسي أو سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية وقالت الوزارة بالنص " نتابع باهتمام موضوعة المهاجرين العراقيين وما يتفرّعُ عنها من مخاطرَ كانت ولاتزال هدفاً لشبكات التهريب والإتجار بالبشر" وتؤكد الوزارة بهدف تحذير العراقيين عدم الوقوع في شراك مافيا التهريب، أننا في الوقت نفسه نجد أن التحذير والمعالجات الوقتية لن تجدي نفعاً ولن تحل المشكلة لأنها لا تركز على العلة التي تدفع العراقيين إلى السفر واللجوء والابتعاد عن العراق، الحقيقة المرة أن العراق وبعد 18 عام ازدادت فيه كل البلاوي والاحوال السيئة لا بل اصبح العيش جحيماً تحت ظل المحاصصة والميليشيات الطائفية والإرهاب وتدخل دول الجوار وأصبح عبارة عن سجن لا يطاق ( لا نريد الحديث عن الفساد والحرامية وعن الخدمات والكهرباء والماء والبطالة والفقر وتفشي الجريمة وسوء أحوال قطاع الصحة والتعليم ...الخ ) .
اعلان وزارة الخارجية العراقية المتأخر جداً حفزنا للحديث عن الهروب واللجوء أو الهجرة وهو ذو شجون يمتد حوالي ( 60 ) عاماً تقريباً، بداية هذا الهروب من العراق بعد انقلاب شباط 1963 حيث الإرهاب والقتل والاعدام والاعتقال الكيفي الذي اصبح قانون البعث القادم من وحشية العقل التعصبي الفاشي تحت حجة نقاوة القومية والحفاظ على الأمة العربية، كانت موجات الخروج قد توالت إلى الدول الاشتراكية ( هكذا كان يطلق على دول اوربا الشرقية) والاتحاد السوفيتي السابق بحكم العلاقات الحزبية كما أن البعض هاجر أو التجأ الى اوربا الغربية إنكلترا، فرنسا، المانيا الاتحادية والبعض من دول أوروبا وحتى أمريكا وأستراليا وكنداً تحت طائلة الاحداث والتغيرات السياسية وانقلاب 1963 بهدف الدراسة أو الهجرة التي فتحت آفاقاً واسعة امام المكون المسيحي والكرد، فترة الأخوين عارف لم يشهد العراق نزوحاً بالجملة أو الخروج من أجل اللجوء وإن كان بحجج كثيرة ، لكن الموضوع تطور بعد انقلاب 17 / تموز / 1968 الثاني للبعث بمباركة ( المخابرات الامريكية والبريطانية من خلال اشخاص وضباط تعاونوا معهم) وتصاعدت عمليات الخروج بعد عام ( 1977 –1979 ) بعودة سياسة الإرهاب البعثي بصفة الدولة وظهور آفاق صعود صدام حسين ليحتل موقع رئيس الجمهورية بعد أن ازاح حسن البكر عام 1979 وأجلسه في داره من خلال كذبة مرضه كي يرتاح القائد الأب في الإقامة شبه الجبرية!! تزامن معها جملة من الاعدامات للكوادر المتقدمة البعثية المشكوك بولائها للقائد الملهم الضرورة صدام حسين وفي مقدمتهم عدنان الحمداني ومحمد عايش وعبد الخالق السامرائي ومحجوب وغيرهم وأصبح صدام حسين رئيس الجمهورية ورئيس ما يسمى بمجلس قيادة الثورة ورئيس الوزراء والأمين العام للقيادة القطرية.
أن اشتداد الحملة الإرهابية الدموية الجديدة دشنت في أواخر زمن القائد الأب حسن البكر ففي ( 17 و 18 / 5 / 1978 ) جرى إعدام " 31 " مواطن هم نخبة من الاوفياء الشيوعيين واصدقائهم وللحقيقة ان المجرم الملهم صدام حسين كان وراء الاعدامات بحجة التنظيم العسكري والاتهام الكاذب بمحاولة التحضير لانقلاب عسكري وكانت من تدبير صدام حسين ونظامه ومخابراته التي كانت تقوم بتصفية أي معارضة حتى وإن كانت كلامية، لقد كانت ماكنة إرهاب الدولة ومخابراتها وأمنها العام إضافة إلى الأمن الخاص والمنظمات الحزبية والجيش الشعبي وشبكات الوكلاء الأمنيين قد وضعت خطط خاصة لملاحقة الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين المخلصين وكان قول القائد الضرورة صدام حسين " كل العراقيين بعثيين وإن لم ينتموا " عبارة عن إعلان الحرب الضروس وفيها ابتدع النظام طريق البراءة القديم بطريقة أخرى " التعهد بعدم العمل في السياسة والانتماء لأي حزب ما عدا حزب البعث العراقي "وبدأت أفواج الذين عارضوا هذه السياسية بالخروج والهروب بطرق شتى من العراق إلى سوريا ثم عن طريق الكويت وبلدان أخرى وكانت الوجبات الأولى اكثرها من السياسيين والحزبيين المعروفين بينما توجه البعض من الشيوعيين إلى كردستان حيث تم تأسيس حركة الأنصار لمقاتلة النظام بالسلاح دفاعاً بعد أن اغلقت جميع طرق النضال السلمي، وباشتداد الحملة القمعية الإرهابية من قبل النظام الدكتاتوري بادر البعض للالتحاق على شكل جماعات وافراد إلى كردستان العراق وبدأوا بتشكيل النواة لحركة الأنصار في منطقة قرية نوزنك في محافظة السليمانية على الحدود العراقية الايرانية .
هذه النبذة القصيرة في مسألة الهروب أو الخروج من العراق لأسباب عديدة في مقدمتها الأوضاع الإرهابية والقمعية ومصادرة الحريات التي سادت في فترة ما بعد انقلاب 1963 وضعفت أبان حكم الاخوين عارف ثم تطورت ما بعد الانقلاب الثاني 17 / 7 / 1968 وبالذات عندما تولى صدام حسين رئاسة الحكم ، ولعل الحرب العراقية الإيرانية كانت قد سجلت اعداداً كبيرة من الهروب والخروج من العراق إلى إيران وسوريا واليمن الديمقراطية " حينذاك" والجزائر، أو ما قام به النظام الدكتاتوري من تهجير الآلاف من الكرد الفيليين وغيرهم ، ثم ما تلاه من احداث التي أدت إلى النزوح من ايران وسوريا والأردن وتركيا نحو الدول الاوربية بمساعدة الأمم المتحدة حيث أنتقل آلاف العراقيين كلاجئين لأكثرية الدول في العالم والدول الاسكندنافية واوربا وصولاً إلى أمريكا وكندا واستراليا و اشارت البعض من المصادر عن وجود حينذاك حوالي (4) ملايين بين لاجئ ومهاجر في انحاء العالم ومنها إيران وتركيا، وبسب الهاجس السياسي المركب من عنف وتسلط الدكتاتورية وسبب الحرب العراقية الإيرانية والحروب التي تلتها ثم الحصار الاقتصادي والأوضاع الاقتصادية والمعيشية السيئة، وقد تكلل ذلك خلال تحرير الكويت وهزيمة الجيش العراقي توجه الآلاف من مناطق الجنوب والوسط نحو السعودية واستقروا بشكل وقتي في رفحاء والارطاوية وبادرت بعثات الأمم المتحدة في اجراء لقاءات لدراسة ترحيل من تتوفر فيه الشروط أو من يرغب إلى بلدان اللجوء، وهكذا اصبح الوضع أكثر وضوحاً بالنسبة للذين وصلوا إلى بلدان اللجوء وقبلوا كلاجئين أو الذين قدموا طلبات للهجرة وبخاصة كندا وأستراليا بينما بقت مئات الطلبات بين الرفض والانتظار.
أن توجه العراقيين المستمر للهروب من العراق باي وسيلة حتى اللجوء إلى شبكات مافيا التهريب الخطرة وتعرضهم لمخاطر جمة مازال يحتل الأولويات في اذهانهم لعدم الاستقرار وسوء الأوضاع الأمنية والقضايا الاقتصادية والمعيشية وتفشي الفقر والعاهات الاجتماعية وازدياد اعداد العاطلين عن العمل أمام الغنى الفاحش للفاسدين والمهيمنين الذين سرقوا أموال العراق وجعلوه في أدنى سلالم البؤس والشقاء وتمكين الميليشيات الطائفية التابعة والمسلحة من فرض مخططاتها الاجرامية وتمكين ماكنة الرعب والإرهاب من خنق أي صوت يعارض هذا الفساد واكبر مثال الضحايا بين الاغتيال والقتل والاعاقة والاعتقال الموجه من قبل الميليشيات والبعض من الأجهزة الأمنية الحكومية ضد انتفاضة تشرين المجيدة او أي احتجاج آخر، ومثلما اشرنا كان الامل بالعودة بعد سقوط الدكتاتورية لمئات الآلاف من العراقيين إلى ديارهم ليتمتعوا بالاستقرار والأمان والعيش الرغيد لكن العكس من ذلك اصبح الرجوع الدائم عبارة عن هاجس الخوف والقلق مما وصلت إليه البلاد من تردي وانحدار نحو الهاوية، ، وبدلاً من الرجوع صار الهروب كحالة انقاذ من الواقع المرير هو الفكرة السائدة للخلاص من جحيم حكم الميليشيات وسياسة الحكومات العراقية المتتابعة الطائفية التي تحمل الفكر المعادي لتطلعات العراقيين السلمية.
أن الكلام مثلما اسلفنا له شجون وحكايات وقصص وحوادث لا يمكن لمقال أو حتى عشرة الالمام بجميع المآسي والكوارث التي حدثت ومازالت تحدث في البلاد، حتى حقوق الانسان النيابية قامت بكشف البعض من أسباب هجرة العراقيين المستمرة وقول قصي الشبكي عضو اللجنة دليل على تأكيدنا عليه حيث أشار " إننا نتابع بقلق هجرة الشباب إلى أوروبا وغيرها من الدول، وبالأخص ما يجري للعراقيين على الحدود بين بيلاروسيا وليتوانيا " وواصل قصي الشبكي القول أن "السبب الرئيسي لهجرة الشباب هي البطالة وعدم وجود فرص عمل لذلك يضطرون إلى البحث على من يؤمن معيشتهم خارج العراق" وعلى الرغم من مأخذه على الحكومة العراقية إلا أنه لم يتطرق مع شديد الأسف إلى الوضع السياسي المعقد والأوضاع الأمنية والميليشيات التابعة المسلحة وسياسات الحكومات المتعاقبة والفساد وما جرى من نتائج الحرب مع داعش الإرهاب أما الأوضاع الاقتصادية والمعيشية فقد اختصرها فقط على " البطالة وعدم وجود فرص عمل " وبتصوره أن استمرار تدفق الهاربين من البلاد هو رغبتهم لتحسين وضعهم المعيشي وهو استنتاج خاطئ على الرغم من أهميته، فلا أمان ولا سلام ولا استقرار ولا آفاق لتحسين الأوضاع في المستقبل، ولا نرغب بتذكيره حول الخدمات التي تدمرت ودمرت حياة الملايين .
لقد مر العراق بظروف ومراحل قاسية اثرت على حياة أكثرية الشعب العراقي بشكل سلبي، ومن هذه الظروف القاسية قضية الخروج من الإرهاب وتكميم الافواه وحجب الحريات العامة والخاصة إضافة إلى تدني في جميع المرافق الحياتية وفي مقدمتها الازمات الاقتصادية والمعيشية والحروب ، واليوم بعد هذه المراحل والفترات حوالي ( 58 ) عاماً مازال العراق يعيش المأساة ومازالت الملايين تسعى للهروب ومازالت البعض من الدول الخارجية تستغل تدفقهم وغيرهم، وتستخدم دولة بيلاروسيا ورقة اللاجئين مثلما استخدمتها سابقا تركيا دوراً معادياً للعقوبات الاوربية وسلاحاً للضغط على البعض لغاية في نفس يعقوب ـــ متى يستقر العراق ؟ ـــ ومتى تنتهي محنة العراقيين لكي يشعروا أنهم في بلد آ من ممكن العيش فيه بدلاً من الهروب منهُ. ـــ متى تستيقظ الحكومة وتعالج هذه القضية معالجة علمية وحضارية وتنهي سطوة الميليشيات وتتخلص من المحاصصة!!