اللوحة الاجتماعية في المجتمع العراقي . الجذور والواقع الراهن والافاق
بقلم : فرحان قاسم
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

اولا : مقدمة

في نيسان عام 2003 انهار النظام الدكتاتوري ، وحل محله نظام جديد ، و لا اريد الخوض في الاسباب والنتائج التي طبعت النظام الجديد . ما يهمني في هذه المساهمة هو التغييرات التي طرات على اللوحة الاقتصادية - الاجتماعية في المجتمع العراقي بعد التغيير .

اصدر الحزب الشيوعي العراقي في اب 2015 وثيقة " رؤى في تحديات واقع الاقتصاد العراقي الراهن " ، واظن انها من انضج الدراسات الاقتصادية التي حللت المتغيرات في الازمة الراهنة بناء على معطيات حكومية ودولية ، و توصلت الوثيقة الى استنتاج تزكيه الوقائع التي نعيشها " ان العراق واقتصاده يقف على مفترق طرق ، وانه في حال استمرار الاوضاع ومسارات السياسة الاقتصادية وتوجهاتها على ما هي عليها ، فان العطل في الاطار الاقتصادي العام للبلاد سيتعمق ، وستكون لذلك تداعيات سلبية ثقيلة على حياة المواطنين وعملية الاعمار والتنمية ، وستشتد مظاهر التفاوت والاختلال في البنية الاقتصادية – الاجتماعية " . ولم تكتف الوثيقة بالتحليل والتوصيف وانما اعطت بدائل واقعية للخروج من الازمة من خلال " الاسراع في اجراء المراجعات والاصلاحات الادارية والمالية

اذا كانت المعطيات الدولية والحكومية والخطط والستراتيجيات التي توفرت ، ساعدت في انجاز وثيقة " رؤى في تحديات واقع الاقتصاد العراقي الراهن " فانني اجد الحاجة ماسة لدراسة وتحليل اللوحة الاجتماعية في العراق بعد 2003 ، اذ وجدت الكثير من التخبط في استخدام المفاهيم وقسم منها تسلل الى ادبياتنا ومقالاتنا ، رغم تقاطعه مع مفاهيمنا الماركسية عن الطبقات والفئات الاجتماعية ، اضافة الى ان اللوحة الاجتماعية بعد 2003 انتجت فئات لم تكن معروفة للباحثين ، مثل"الحواسم " وغيرها ساتناولها بالتفصيل .

ثانيا : الجذور

ذهب احد الباحثين الى انتقاد الراحل عزيز سباهي في ثلاثيته " عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي " الى ان سباهي " توقف عند تاريخ العراق الذي ليس له علاقة مباشرة بتاريخ الحزب ومقدمات نشوئه وهو ليس مهمة كتاب يحمل عنوان عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي " واذا ما رجعنا الى طريقة الديالكتيك المادية في دراسة الظاهرة بحركتها وعلاقتها مع الظواهر الاخرى وبافاقها ، فانني اعتقد ان عزيز سباهي كان منسجما مع متطلبات ذلك المنهج في البحث ، وذهب الدكتور كاظم حبيب ابعد مما ذهب اليه سباهي ، فقد درس الحضارة العربية الاسلامية وتاثيراتها على المجتمع العراقي ، ثم تناول بالتفصيل الاحتلالين العثماني والبريطاني . وكما هو معروف فان الدكتور علي الوردي ربط بين الازدواجية والتناشز في الشخصية العراقية وبين الحضارة والبداوة ، والدكتور عبد الجليل الطاهر الذي وصف الشخصية العراقية بانها متقوقعة و قلقة في ان واحد بسبب الانتماءات الفرعية التي تعكس مظهرا تاريخيا ، والدكتور حاتم الكعبي الذي حدد ثلاثة أنواع من التفاعلات الصراعية داخل الشخصية العراقية " التفاعل التنازعي الذاتي ، والاسري ، والثوري ، وربط بين تلك التنازعات وبين قيم المجتمع التراثية .

ثالثا : إشكالية المفهوم

مفهوم الطبقة :

ان " مفهوم الطبقة لم تبتدعه الماركسية فقد اصبح متداولا منذ ان ظهر القانون الروماني " وقال ماركس " لا فضل يرجع لي في اكتشاف وجود الطبقات في المجتمع ، ولا في وجود الصراع بينها ، فقبلي بزمن طويل وصف المؤرخون البرجوازيون التطور التاريخي للصراع بين الطبقات " و رغم ذلك فان تعريفها يعتبر إشكالية كبرى ، اذ ذكر معجم الماركسية النقدي انه " هل يعقل ان يحبر ماركس 2500 صفحة عن صراع الطبقات بدون ان ينبس ببنت شفة حول تعريف الطبقات ويبدو ان هذا الاستغراب منطقي ولكن تطور هذا المفهوم المتسارع والمتنوع والمتحرك تبعا للتطورات الاقتصادية والاجتماعية دوما ، يجعل حذر ماركس منطقيا جدا ولا يدعو للغرابة ، والمفكر الوحيد الذي وضع تعريفا شاملا للطبقة ، و يكاد يكون عرضا و شرحا اكثرمنه تعريفا ، هو لينين حيث قال " الطبقات هي جماعات واسعة من الناس ، تمتاز بالمكان الذي تشغله في نظام الإنتاج الاجتماعي ، محدد تاريخيا بوسائل الإنتاج ، وبدورها في التنظيم الاجتماعي للعمل ، و بطرق الحصول على الثروات الاجتماعية ، وبمقدار حصتها من هذه الثروات "  وذكر احد الباحثين ان لينين في تعريفه اغفل الحديث عن الوعي  ، وما جلب انتباهي في هذا التعريف أيضا هو عبارة ( جماعات واسعة ) ، اذ اصبح شائعا في الادب الماركسي منذ بداياته عبارات " اقلية تملك وسائل الإنتاج واكثرية تبيع قوة العمل " و " كلما تطورت الراسمالية وخصوصا في مرحلة الامبريالية ازدادت القلة غنى وازدادت الأكثرية فقرا" ولا ادري اذا كان لينين يعني باتساع الطبقة البرجوازية النسبي او شيء اخر . فتعريف لينين مترابط اذ ان تجزئته بانتقائية تؤدي الى تشويهه ، فالاتساع الكمي هو احد المعايير في التعريف ، لان هناك فئات أوسع عددا من الطبقة العاملة و البرجوازية لكنها لاتتمتع بمواصفات الطبقة .

على العكس من بعض الاراء فانني وجدت تعريف لينين هو المعين الأفضل على الأقل في تحديد الطبقات الرئيسية التي يحتويها الصراع التناحري والطبقات والفئات التي تقف على حافتي ذلك الصراع .

مفهوم " الطبقة الوسطى

بدءا هذا المفهوم يتقاطع كلية مع التحليل الماركسي للوحة الاجتماعية ، لانه يعتمد مقياس الدخل والانفاق عند بعض الباحثين ومقياس التعليم عند البعض الاخر وليس مقياس الموقع في العلاقات فهو مفهوم ملتبس و " مشحون سياسيا ومثير للجدل تاريخيا وغامض اجتماعيا وغير مفهوم بما يكفي " ، اذ يوحي بوجود طبقة غنية واخرى فقيرة وهي تقع بينهما ، فهو يضم فئات وشرائح لا يجمعها جامع ، ولو طبقنا المعايير التي حددها الباحثون في هذا المفهوم على اللوحة الاجتماعية في العراق بعد و قبل 2003 ، لوجدناها فضاء مفتوحا يضم البرجوازية المحلية و وشريحة الفلاحين الغنية والمتوسطة والتجار والضباط وقسما واسعا من الحرفيين و فئات من العمال وجميع المثقفين ( الانتلجينيسيا ) . كما وجدت من يتحدث عن الطبقة السياسية او طبقة السياسيين او طبقة رجال الدين في العراق .

الانتلجينسيا " المثقفون "

هي فئة قديمة ارتبط ظهورها بانفصال العمل الفكري عن العمل العضلي ، وبعد ظهور الراسمالية أصبحت الحاجة ماسة لهم ، بسبب نمو الإنتاج والتبادل التجاري وازدياد دور النقود . وقسمهم غرامشي الى مثقف عضوي و مثقف تقليدي . وفي بلدنا فان الباحثين يكاد يجمعون على انهم شريحة واسعة من المجتمع العراقي لعبت دورا رائدا ومميزا في حركة التنوير منذ تاسيس الدولة العراقية ، وتعرضوا لسلسلة من عمليات القمع والتهميش خلال تعاقب الدكتاتوريات على الحكم ، بلغت قمتها ايام الحصار خلال التسعينات من القرن الماضي . وبعد الاحتلال الامريكي لبلدنا انقسم المثقفون الى ثلاث فئات ؛ الفئة الاولى تلفعت برداء القوى السياسية المهيمنة سواء قوى الاسلام السياسي او بعض القوى " العلمانية " ، وتحولت الى سلاح ايديولوجي لتلك القوى ، لتابيد سطوة تلك القوى المهيمنة على السلطة ، والفئة الثانية تبنت مشروع اللبرالية الجديدة ودخلت في لعبة الفساد المالي والصفقات والتسلق الى سلطة القرار من خلال مافيات راس المال المالي ، وفئة ثالثة حافظت على دورها التنويري في ظل الاجواء القاتمة التي تخيم على بلدنا .

هذه الفئة يكون موقعها عادة في البناء الفوقي ، لانها تختص بالعمل الفكري اصلا ، مما يجعل تاثيرها سلاحا ذا حدين ، فقد انحازت غالبية هذه الفئة منذ بداية تاسيس الدولة العراقية الى قضايا الشعب ، ولعبت دورا اساسيا في رفع مستوى وعي المواطنين باتجاه معاداة الاستعمار و دافعة باتجاه الاستقلال والسيادة الحقيقيين ، ولكنها تعرضت وما زالت لقمع وتطويق وتهميش مخطط من قبل اغلب الحكومات المتعاقبة ، لغرض تحويلها الى اداة بيد تلك الحكومات تستخدمها لحرف الصراع وتزييف الوعي . وهي في النهاية تنضوي تحت مفهوم فئة من فئات البرجوازية الصغيرة الواسعة في لوحتنا الاجتماعية .

مفهوم " الحواسم "   سراق المال العام

وهو مفهوم لا يمت بصلة الى المفاهيم الاقتصادية او الاجتماعية ، وليس لديه جذور لغوية او اصطلاحية اكاديمية ، واصبح مفهوما اجتماعيا شائعا فرضته احداث ما بعد الاحتلال ويعني " سراق المال العام " واذا ما اعممنا هذا المفهوم فانه سيشمل قطاعا واسعا من اللوحة الاجتماعية الراهنة وينضوي تحته عدد من السجناء العاديين الذين اطلق سراحهم قبيل الاحتلال ، واعداد من الفقراء والمهمشين ، وقسم من عصابات الجريمة الموجودة أصلا في عهد الدكتاتورية ، وعصابات مدفوعة لأغراض سياسية من قوى داخلية وخارجية لتدمير ما تبقى من مؤسسات الدولة العراقية ، وجميعهم اغتنوا عن طريق سرقة البنوك ومؤسسات الدولة ، ويتحمل هذا المفهوم إضافة جميع الفاسدين من موظفي الدولة صغارا وكبارا منذ الاحتلال حتى اللحظة الراهنة ، لان اغلبهم انتقلوا من مواقعهم الطبقية السابقة وانضموا بقوة الى راس المال المالي والتجاري والصناعي بنسبة بسيطة ، وتوزعوا ضمن شرائح البيروقراطية والطفيلية والكومبرادور ، وشكلوا مافيات تحت مظلة الأحزاب المهيمنة تتحكم بمسارات السياسة الاقتصادية في العراق .

مفهوم اشباه البروليتاريا :

هم جمهرة واسعة جدا من السكان ، هامشية ورثة في مستوى معيشتها ، وهم ضحية مشروع الاحتلال الذي انتج نسبا عالية من البطالة والفقر . قسم منهم عاطلون واخرون عمال موسميون وباعة مفرد و متجولون و " عتاكه " وجمهرة الحمالين والكناسين والشحاذين واعداد من المتسربين والمتسربات من التعليم ، إضافة الى اعداد من الارامل والايتام الذين خلفتهم الحروب والاحتراب الطائفي من الأطفال والنساء والشباب والرجال . انهم يعانون من الفقر المالي والفكري ويعيشون تحت خط الفقر ، ويندفعون امام أي فرصة يعتبرونها انقاذا لهم من الوضع الشائن الذي هم فيه ويكونون عرضة للانحراف بمختلف يافطاته .

مفهوم الطلاب :

من المعروف ان علماء الاقتصاد والاجتماع يعتبرون الطلاب احدى فئات البرجوازية الصغيرة في ظل الظروف الاعتيادية للبلدان المستقرة اقتصاديا وامنيا ، و لكنهم في العراق فئة سريعة الحركة والانتقال ، بسبب الظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد ، فالتسرب من التعليم ظاهرة تتصاعد كل سنة ، والخريجون يواجهون غالبا البطالة . والامر الذي يستدعي التوقف عنده هو نسبتهم بين سكان العراق ودورهم في اللوحة الاجتماعية الراهنة ، فهم بمجموعهم يشكلون ثلث سكان العراق تقريبا . هناك اشكاليتان تواجه هؤلاء من ناحية الدور الذي يلعبونه : الأولى هي النظام التعليمي الذي يعتمد التلقين أساسا في بناء شخصية المتلقي إضافة الى عوامل الانحطاط الأخرى التي تطبع النظام التعليمي كله ، والثانية الاسرة التعليمية التي ارتفع مستواها المعيشي عما كانت عليه في زمن النظام الدكتاتوري ، لكنها فقدت الكثير من مهمتها التنويرية بفعل انغماس جزء من أعضائها مع الطائفية والبراغماتية ، الامر الذي انعكس على مستوى وعي الطلاب ، ودورهم السلبي غالبا في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلد .

مفهوم الطبقة العاملة :  

بدات البروليتاريا في البلدان المستعمرة بالتكون في ظروف الاحتلال الاستعماري .وهي طبقة ترتبط اصلا بالقرية مما يضفي عليها طابعا نصف فلاحي ، ان ضعف البروليتاريا لا ياتي فقط من اصولها الفلاحية و لا من ضالة عددها فحسب ، وانما هي الى جانب هذا مبعثرة وضعيفة التنظيم والوعي ، وهذا ما يجعلها تتارجح ايديولوجيا ، ويؤدي الى وقوع اجزاء منها تحت تاثير الايديولوجية والاحزاب البرجوازية وانخراطها احيانا في تنظيمات رجعية وشوفينية او طائفية .

تتشكل نواة البروليتاريا من العمال الدائميين . ان بروليتاريا الانتاج الكبير تشكل العمود الفقري لجيش العمل الماجور وهي في البلدان المتخلفة قليلة العدد ، وتضم عمال المصانع والمناجم والنقل والمواصلات وجزءا من عمال البناء وبعض عمال الزراعة . ويشكل عمال الانتاج الصغير المجموعة التي تلي البروليتاريا الحديثة مباشرة ، وهي تشمل عمال المانيفاكتورة      والورشات الحرفية والمؤسسات الصغيرة العاملة في مجالات النقل والتجارة والخدمات .

نمت الطبقة العاملة في العراق مع المشاريع التي انشاها الاحتلال البريطاني ، لحاجات موضوعية ارتبطت بادامة وجوده وتعميق سيطرته على العراق ، من خلال علاقات انتاجية شبه اقطاعية شبه راسمالية تعبد الطريق امام نشوء قاعدة اجتماعية محلية ساندة له ، من اقطاعيين و كومبرادور و بيروقراطيين . ان هذه النشاة منحت الطبقة العاملة واحدة من اهم خصائصها ، وهي انها ربطت كفاحها من اجل مصالحها الطبقية مع نضال الشعب العراقي باغلبية فئاته الاجتماعية الاخرى ضد الاحتلال الاجنبي . ورغم محدودية وعيهم في بداية نشاتهم ، فانهم شاركوا بقية قطاعات الشعب النضال ضد الاحتلال البريطاني . وكان اول شهيد عشية ثورة العشرين نجارا. وبسبب طبيعة نشاتها تلك ، تعرضت الى سلسلة متواصلة من الاجراءات القمعية  و التهميش ووصلت تلك الاجراءات بالقانون رقم ( 50 ) لسنة 1987 الذي حول العمال الى  موظفين في الدولة كما سعت الحكومات المتعاقبة على انشاء نقابات صفراء بدلا من النقابات الحقيقية الممثلة لمصالح العمال .  

يكثر الحديث بين اوساط من الماركسيين واليسار واوساط اخرى معادية للماركسية عن الطبقة العاملة في العراق ودورها في الفترة الراهنة ، والسبب وراء اللغط الحاصل يعود الى عاملين اساسيين الاول هو عدم توافر قاعدة معلومات دقيقة عن المتغيرات في اللوحة الاجتماعية بشكل عام و الطبقة العاملة بشكل خاص ، والعامل الثاني هو المواقف الايديولوجية المتشنجة مسبقا تجاه الكلاسيكيات الماركسية تصدر عن محسوبين على اليسار او عن قوى دينية وشوفينية وليبرالية جديدة تسعى على الدوام الى الحط من المفاهيم الماركسية ، وعجزها عن تحليل ظواهر البلدان المتخلفة . وتتعدد منظورات تلك الطروحات بين من ينفي وجود طبقة عاملة بالمطلق في بلدنا او ينفي وجود بروليتاريا بمعناها الاصطلاحي او من يقصر وجود العمال على القطاعات . الخدمية . ان انهيار القطاعات الانتاجية في الزراعة والصناعة بعد 2003 خصوصا ، وفر لتلك الطروحات الارضية لتجد من يسمعها ويقتنع بها .  

ان واقع الطبقة العاملة الراهن يشير الى وجود البروليتاريا في عدد من القطاعات الانتاجية الاستخراجية والتحويلية في القطاع العام والخاص مثل شركات النفط وغيرها والصناعات التحويلية المتواجدة في عدد من المحافظات . وكذلك نجد قطاعا واسعا من العمال سواء في قطاع الخدمات العام والخاص او القطاعات الحرفية والمعامل الصغيرة . اضافة الى ما يطلق عليها البروليتاريا الزراعية ، وهم العمال الزراعيون الذين يعملون باجر .

مفهوم الفلاحين :

يشكل الفلاحون في البلدان المتخلفة نسبة مهمة من السكان ، ولعب انتشار العلاقات السلعية – النقدية وتطور العلاقات الراسمالية دورا في حدوث تمايز طبقي بين الفلاحين ، واصبح هناك فائض سكان نسبي ادى الى انضمام جزء من الفلاحين الى العمل الماجور ، وقسم اخر ابتعد عن الاشكال التقليدية للانتاج ، وتزايد عدد الفلاحين الذين لا يملكون ارضا او اقتصرت ملكيتهم على رقع صغيرة او يبيعون قوة عملهم التي اصبحت المصدر الاساسي لعيشهم . و هذا التمايز في الريف العراقي فرز ثلاث شرائح توزعت على الفلاحين الاغنياء والفلاحين المتوسطين والفلاحين الفقراء .  

بعد 2003 عانى الفلاحون من شحة الماء و تدهور خصوبة الارض و عودة المشيخات والمشايخ والاقطاع وتقاليده البالية واساليب توزيع المحصول الزراعي الى الواقع العراقي في الزراعة. كما تراجعت اعداد نفوس سكان الريف لصالح سكان المدينة الفقراء والمعوزين والعاطلين ولصالح القوات العسكرية. وتواجه اي باحث في دراسة وضع الريف العراقي والتغيرات التي حصلت عليه - وهي كثيرة جدا - شحة المعلومات الاحصائية التي تساعد على التوصل الى استنتاجات سليمة .  

ان فتح الحدود العراقية امام المنتوجات الزراعية لدول الجوار وغيرها بدون ضوابط والتجميد العملي لقانون حماية المنتج الوطني ادى الى عزوف الكثير من الفلاحين عن الزراعة لعدم قدرتهم على المنافسة في السوق مع المنتوجات المستوردة واللجوء الى مصادر عيش خارج القرية ، و ما اتساع العشوائيات حول المدن العراقية ، وانتشار العمال المياومين القادمين من الريف للعمل في القطاعات الخدمية ، اضافة الى تطوع ابناء الفلاحين في القوات المسلحة ، وبيع اراضيهم لمجاميع مافيات العقارات في الاراضي الزراعية الا مظهر من مظاهر تفاقم الفقر في الريف العراقي .  

مفهوم البرجوازية الكومبرادورية

هي الفئة العليا من البرجوازية في البلدان المتخلفة ، وتشمل التجار الوسطاء واصحاب المصارف والمرابين وجزءا من البرجوازية الصناعية ، وهي مرتبطة بشكل وثيق بالراسمالية الدولية ، و هناك قسم اخر جلبهم المحتلون الامريكان معهم ، عراقيون وعرب ، ومنحوهم مقاولات لمشاريع كثيرة ، وخلقوا منهم قاعدة اجتماعية لتوسيع صلاتهم بشرائح مختلفة انضمت الى حلقاتهم ، واصبحوا قوة اقتصادية تفرض سيطرتها عبر عمولات واغراءات أخرى على صناع القرار العراقي .

مفهوم البرجوازية البيروقراطية

وهي الفئة الغنية من الموظفين ، وهي طفيلية بطبيعتها ، وتنمو بسرعة كبيرة ويزداد تاثيرها في كل مكان ، وان راس المال البيروقراطي ليس مرتبطا بشكل مباشر بشروط الانتاج المادي ، وتتالف مصادره من الرواتب وبقية الامتيازات للشخصيات الحكومية والسياسية التي تشكل النخبة الحاكمة . ومن خلال الفساد يجمع هؤلاء ثروات طائلة ، وكلما كان البلد اكثر تخلفا كانت هذه الفئة اقوى ، لان نشاطها يتسم بالطابع غير الاقتصادي ، وهو يقتصر على الرشوة والعمولات والكسب عبر المضاربات ، وان الوظيفة الحكومية في بعض البلدان المتخلفة كانت مصدرا من مصادر التراكم الابتدائي عبر انواع النهب . ومن ابرز ميزات هذه الشريحة هي التداخل بين هذه الشرائح والفئات حيث تجد الوزير يصبح جزءا من الكومبرادور والطفيليين وقد يرتقي الوزارة من كان يحتل موقعا مؤثرا بين الطفيليين والكومبرادور ، إضافة الى ان هؤلاء استطاعوا عبر العلاقات المافيوية والرشى من الوصول الى البرلمان من خلال أسماء أخرى لا تنضوي تحت توصيفاتهم الطبقية . كما استطاعت البيروقراطية والطفيلية ان تجر الكثير من شيوخ العشائر والشخصيات المؤثرة الى صفوفها ، عبر منحهم مقاولات ومشاريع تدر عليهم اكبر الأرباح ، وغالبا ماشاب تلك المشاريع الفساد ، واستثمروا تلك العلاقات مع المشايخ لتحقيق مكاسب انتخابية لكتل سياسية ينتمون اليها .

الحرفيون :

يشكل الحرفيون وصغار التجار الفئة الاكبر عددا في مدن البلدان المتخلفة لغلبة الانتاج السلعي الصغير والاشكال الدنيا من الانتاج الراسمالي مع ما يلازمها من علاقات سوقية قديمة .

ولعب هذا القطاع دورا كبيرا خلال الثمانينات و فترة الحصار بعد التسعين من القرن الماضي ، وازدادت نسبة مساهمته في الناتج المحلي ، لانه ساهم في سد احتياجات السوق المحلية نتيجة محدودية الاستيراد خلال فترة الحصار ، ولكنه هو الاخر تعرض لانهيار كبير بعد عام 2003 ، بسبب البضائع المستوردة التي اغرقت الاسواق وباسعار لا يستطيع هذا القطاع منافستها ، فانهار القطاع الحرفي في انتاج الاحذية والجلود والملابس والغزول وبقية قطاعاته الاخرى . ولجا الكثير من العاملين فيه اما للعمل الماجور او الهجرة الى الخارج .

رابعا : الخاتمة

بعد اثني عشر عاما التي اعقبت الاطاحة بنظام الدكتاتورية البغيض ، اصبحت اللوحة الاجتماعية والسياسية رغم تعقيدها واضحة المعالم وخلاصة ما توصلت اليه من العرض السابق ان اللوحة الاجتماعية للواقع العراقي الراهن تقسم الى :  

البرجوازية الكبيرة : وتضم تحالفا اتسعت اطرافه لتشمل الفئات البيروقراطية والكومبرادورية والطفيلية بمسمياتها المختلفة وهي من الناحية السياسية تتمثل بالكتل السياسية المهيمنة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، والتي اعتمدت المحاصصة بانواعها شكلا للنظام السياسي ، والفساد المالي والاداري اداة للاستحواذ على المال العام . وتضم هذه الطبقة ايضا فئة صغيرة من البرجوازية المحلية الصناعية التي دفعتها مصالحها المتضررة ووعيها االوطني ايضا ان تكون خارج ذلك التحالف .

البرجوازية الصغيرة : و تضم طيفا واسعا من الفئات الاجتماعية ، قديمة وجديدة التشكيل بمسمياتها المختلفة ، وتتمثل بالقطاع الحرفي والانتاج الصغير في المجالين الزراعي والصناعي ، والمثقفين من شغيلة الفكر في كافة المجالات ، سواء العاملين في قطاع الدولة ام القطاع الخاص ، عدا الذين وظفوا قدراتهم وطاقاتهم الفكرية لخدمة التحالف المسيطر ، و التجار الصغار من اصحاب المحلات او الوسطاء في العمليات التجارية الصغيرة ، و الطلاب .

شغيلة اليد : وتضم الطبقة العاملة بفئاتها المختلفة ، والفلاحين الفقراء ، والمهمشين بمختلف مسمياتهم وتصنيفاتهم .

ومن خلال التقسيم السابق يمكن الحديث عن التحالف المسيطر الذي يضم البيروقراطيين والكومبرادور والطفيليين وفئات اخرى وظفت قدراتها لخدمة هذا التحالف من مثقفين ومشايخ و رجال دين من طوائف مختلفة ، يحظى مشروعها بدعم من قوى دولية واقليمية تحولت يوما بعد يوم لتصبح عاملا داخليا مؤثرا ومقررا في احيان كثيرة . ان هذا التحالف الاجتماعي والمعبر عنه عبر احزاب سياسية داخلية وقوى دولية يتوحد من جهة الاهداف الاقتصادية الكبرى لمشروعه ويختلف ويتصارع عبر مظهر الطائفية والمحاصصة للحصول على المكاسب السياسية والاقتصادية المؤثرة في مشهد مشروع الدولة العراقية الموعودة الذي لم يكتمل بعد، وتتوزع هذه القوى على أحزاب وتيارات الإسلام السياسي الشيعي والسني ، والأحزاب ذات التوجه القومي العربي والكردي وبعض الأحزاب من مكونات أخرى  ، وأحزاب وشخصيات تتبنى الليبرالية الجديدة .  

اما القوى الاجتماعية الاخرى والاحزاب التي تمثلها ، المكونة من البرجوازية الصغيرة وشغيلة اليد اضافة الى منظمات المجتمع المدني و البرجوازية الصناعية المحلية المتضررة من المشروع الاقتصادي بعد الاحتلال ، فيفترض انها تشكل التحالف الواسع المقابل الذي من مصلحته بناء دولة مدنية ديمقراطية معاصرة . لكن تجربة السنوات الاثنتي عشرة الماضية اثبتت ان تحقيق مثل هذا التحالف الواسع ، يواجه عقبات كثيرة وجدية ابرزها تدني الوعي و امتداد النزعات الطائفية والشوفينية الضيقة الى قطاعات شعبية واسعة ، التي ابعدت تلك القوى عن الصراع الحقيقي ، الامر الذي يجعل مهمة اقامة التحالف الواسع ما زالت هي المهمة الاراس التي تواجه شعبنا من اجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية .

المصادر

رؤى في تحديات واقع الاقتصاد العراقي الراهن منشورات الحزب الشيوعي

لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي جاسم الحلوائي

لمحات من عراق القرن العشرين د . كاظم حبيب

رواد علم الاجتماع في العراق د . معن خليل عمر

تاريخ العراق القديم فاضل عبد الواحد

معجم الماركسية النقدي جورج لابيكا

محاضرة في الفلسفة منشورات لجنة العمل الفكري

المفهوم الماركسي للطبقة تاج السر عثمان

بحث عن الربيع العربي اعدته اللجنة الاقتصادية لغرب اسيا في الامم المتحدة

صفحات من تاريخ العراق المعاصر د. كمال مظهر احمد

مقالة عن الطبقة الوسطى د.كاظم حبيب

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 11-01-2022     عدد القراء :  1110       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced