ثلاثة آلاف كلمة في اليوم. تسعون ألف كلمة في الشهر. هذا هو الحد الذي تاق إليه هاروكي موراكامي وجعله نسقاً كتابياً له لا يريد له مساساً أو تعديلاً أو مراجعة. حصل هذا الامر معه قبل عقود عدّة وبعد أن ذاع صيته وصارت الكتابة تدرُّ عليه مالاً وفيراً.
هل بقي موراكامي وفياً لقاعدة الثلاثة آلاف كلمة في اليوم؟ لستُ أدري؛ لكنّ كتبه البدينة (تتجاوز أحياناً حدّ الالف صفحة) تشي بممارسة كتابية يومية منتظمة بآلاف الكلمات في اليوم الواحد. هل أنّ موراكامي لو بقي كاتباً مغموراً بالكاد يقيتُ نفسه من عائد كتابته كان سيعتمد ذات الوصفة السحرية له: 3000 كلمة يومياً؟ لا أدري أيضاً. من العسير أن نعرف ما بمكنون قلب الكاتب، وهل أنّ دوافعه المصرّح بها يغذيها حب المال والشهرة أم هي دوافع داخلية حقيقية مبعثُها شغف لا ينتهي.
عندما أتذكرُ موراكامي تحضر أمامي على الفور صورة نقيضة له: جون ناش الذي كان موضوعاً للفلم السينمائي عقل جميل. كتب ناش رسالته للدكتوراه في بضع صفحات ضمّت مصدرين فقط؛ لكنها إنطوت على فكرة أصيلة في نظرية الالعاب. لم يكتب بعدها ناش أي كتاب بل اكتفى بنشر بضع مساهمات بحثية. بالطبع ثمة فرق جوهري بين ما يكتبه العلماء والكتّاب. لا أحد من العلماء سيجلس لطاولة الكتابة ويكتب بحثاً علمياً كل أسبوع أو شهر أو شهرين. لا يحصل الامر مع العلماء بهذه الطريقة. ربما من المفيد الاشارة هنا إلى تزايد حالة الامتعاض العالمي من كيفية النشر في الدوريات العلمية الرصينة؛ إذ يرى كثيرون من الثقاة والخبراء أنّ العديد من هذه المنشورات تكتبُ لأغراض نفعية مباشرة ولا تنطوي على قيمة بحثية حقيقية.
تنتمي رؤية موراكامي في ضرورة أن يكتب ثلاثة آلاف كلمة في اليوم إلى ما يسمّى تقاليد الكتابة التي هي فرع من التقاليد الثقافية. الكتابة ملاعبة مع الأفكار، وتدريبٌ على العمل الجاد والمنظّم والمنضبط. من غير هذه المعالم لن نحصل على نتيجة مؤثرة. لكن من أين يتحصّلُ الكاتب على الدافعية اللازمة لإدامة زخم هذه العوامل الثلاثة؟ يتحصلها من مصادر ثلاثة أيضاً: شعوره الطاغي بأنّ لديه ما يقوله، وأنّ ما يقوله ينطوي على أهمية وخبرة من المفيد (والاخلاقي كذلك) نقلها للآخرين لإثراء حياتهم، وأنّ عمله مدفوع بشغف لا يمكن ردّه أو كبحه أو التعتيم عليه أو مراوغته. الشغف هو المثابة العليا التي تتوّجُ الفعالية الكتابية أو أية فعالية أخرى في الحياة؛ فهو ما سيجعلك تنهض ليلاً وتفتح حاسوبك لتتاكّد هل أنهيت العبارة (الفلانية) بمفردة محدّدة رسمتها في عقلك قبل أيام؟ وهل أنّ الفكرة (الفلانية) إحتوت على ترتيب بنسق محدّد أم جاءت بغير هذا الترتيب؟ بل قد تصل الامور مبلغ التأكّد من وضع فارزة منقوطة بدل الفارزة العادية في موضع بعينه. يبدو الامر نوعاً من الممارسة الهَوَسية المقلقة؛ لكنّ مَنْ يكتب بشغف حقيقي يعرف أنّ هذه الامور وسواها تحصل، وتحصل كثيراً. الشغف وحده هو ما يعينُ الكاتب على تحمّل مثل هذه المشقات؛ لذا إذا فُقِد الشغف في أي طور من أطوار الكتابة فالافضل شطب المشروع وإسدالُ الستار عليه. لا فائدة من نفخ الروح في جثة ميتة.
فضلاً عن الشغف توجد حقيقة إستثنائية يمتاز بها بعضُ الكُتّاب وهي الجَلَد والمطاولة الجسدية التي تنعكس في النهاية مطاولة ذهنية ورغبة في الكتابة اليومية بمواصفات صارمة. العقل والجسد مترابطان على نحو عجيب، وكلٌّ منهما يؤثرُ في الآخر بطريقة عضوية واسترجاعية مشتبكة. موراكامي عدّاء ماراثوني ماهر منذ سنوات بعيدة، وقد كتب كتاباً كاملاً حول ممارسته الماراثونية وجريه لمسافات طويلة كلّ صباح. جويس كارول أوتس تشارك موراكامي هذا العشق الماراثوني، ولو نظرت إليها لظهرت لك حقيقة السعرات الحرارية الكثيرة التي أحرقتها في جولاتها الماراثونية حتى لكأنها تبدو جسداً عظمياً مكسواً بجلد بشري. يبدو أنّ الماراثون الذي يمكن وصفه بجري مفتوح النهايات هو ما يكرّسُ شغف الكتابة اليومية المنضبطة. لن نتوقّع أبداً أن يُبدي إنسانٌ خامل الجسد والروح نمطاً من الانضباط اليومي في كتابة المطوّلات الروائية أو غير الروائية.
يعاني الكثيرون من قراءة موضوع ربما لا تزيد كلماته عن بضع مئات، ولو طلبت إليهم قراءة ثلاثة آلاف كلمة فكأنّك توقِعُ عليهم عقوبة الاشغال الشاقة. هذا هو الفرق بين حياة يتوّجها الشغف، وحياة لا شغف فيها تجاه أي شيء في الحياة.