وإنْ ظهرت بعض التصريحات المهدئة من قبل المتحمسين لمقترح التعديل الجائر بحق العائلة والمرأة العراقية والمواطن العراقي نتيجة الجهد الثقافي والأدبي والاعلامي العراقي المعارض الذي اشتركت به أكثرية من النساء والرجال المنصفين تبقى الحاجة قائمة لمزيد من العمل لتسليط الضوء على آثاره البعيدة على حاضر ومستقبل ملايين العراقيين. ومهما يكن من أمر فقد كان لحملة الاعتراض على مقترح التعديل المزعوم التي ظهرت بجهود طوعية من قبل فئات اجتماعية متنوعة دور مهم بإثارة نقاشات تناولت جوانب متعددة فيه. ويبدو أنّ من قدم مقترح التعديل اضطر للخروج عن عزلته بدعوة بعض المختصين للتشاور معهم واستشارتهم والاستماع إلى آرائهم وقناعاتهم. مع ذلك، لا زال الوقت مبكراً لنهنئ المعترضين من مختصين ومثقفين واعلاميين وناشطين على ما بذلوا من جهد من حيث أنّ الطريق لا تزال طويلة، ومحطة الوصول بعيدة.
فقد أثار مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959 منذ تقديمه بتاريخ 23 تموز الماضي موجة من الجدالات الحامية سرعان ما ساهمت باستحداث خندقان يقف فيهما جمهوران متضادان ومتخالفان. فهذا يدعم ويدافع ويعتقد أنه مقترح تعديل طال انتظاره، وذاك يعارض وينتقد ويحذر من المرامي المعلنة والخفية في منطوق المقترح. وانشغلت وسائل الاعلام باستضافة مختصين جادلوا مقترح التعديل باستفاضة بيد إنّ هؤلاء المختصين كانوا في الغالب من المشتغلين في مجالات القانون أو الفقه، والدين والمذهب. ولوحظ غياب المشتغلين في مجال علم الاجتماع، وعلم النفس، والأطباء على وجه التعيين ممن كان يمكن أنْ يضيئوا على ما يترتب عليه من نتائج تؤثر على صحة الأفراد، وبخاصة النساء المعنيات به بما يمتلكونه من معلومات وخبرة ميدانية مهمة.
تمثلت أولى التداعيات التي ظهرت على الصعيد الاجتماعي بحملة سب وشتم وتجاوز وانكار غير مسبوق لدور المرأة العراقية في المجتمع حتى اعترت الكثيرات منهن مشاعر الاغتراب من بيئة أظهرت أنيابها على نحو مفاجئ. ويبدو أنه لهذا السبب لا بد من التوقف قليلاً عند الدور المهم والحيوي الذي تؤديه المرأة على مستوى مؤسسات العمل على سبيل التذكير، والتذكر. حسب الإحصاءات الرسمية المحدثة الصادرة عن وزارة التخطيط العراقية تنهض بالحضانات ورياض الأطفال بالعراق المربيات من النساء بنسبة 100٪. وتتولى 65٪ من المعلمات مهام القيام بالتعليم الابتدائي لأطفال العراق. وتشكل المدرسات المشتغلات في المدارس المتوسطة والثانوية 53٪ من مجموع المشتغلين. وتمثل الطالبات في مرحلة الدراسات العليا في مختلف الاختصاصات العلمية والإنسانية 51٪ من مجموع الطلبة الدارسين. وتشكل النساء اللواتي يعملن بصفة طبيب عام غير مختص 52٪ من مجموع الأطباء، فيما تعمل 58٪ منهن في مجال طب الأسنان، و59٪ في مجال الخدمة التمريضية و60٪ منهن في مجال الصيدلة. هذه مسحة سريعة لحجم مساهمة المرأة العراقية على صعيد الحياة العامة.
اجتماعياً، تنتشر أفكار غير ممحصة تحمّل النساء أعباءً نتيجة ادعاءات كاذبة لا أساس لها من الصحة. من هذه الأكاذيب قيام البعض بإشاعة فكرة أن ارتفاع معدلات الطلاق في العراق سببها تساهل القانون الساري في منح الأم المطلقة حق الحضانة. يذكر إنّ القانون يمنح الأم حق الحضانة للأطفال بالتساوي بين الذكور والإناث حتى عمر عشر سنوات، يمكن أنْ تمدد إلى سن 15 سنة ليخيّر الولد أو البنت حينها بين أنْ يعيش مع أمه أو أبيه. فات مدعو هذه الفكرة أنّ القانون لا يمنح الأم المطلقة حق الحضانة هكذا بلا شروط، وبخاصة من حيث التأكد من أهليتها الاجتماعية والاقتصادية الأمر الذي يخضعها لسلسلة من المراجعات لمحاكم الأحوال الشخصية والتحقيقات من قبل الباحث الاجتماعي وهي مراجعات وتحقيقات لا تخلو من الإهانة والاذلال. جوهرياً وأخلاقياً تغافل مطلقو هذا الادعاء أنه لا وجود لأم وزوجة مستعدة للتضحية بحياتها الزوجية، وبالتالي أبناءها واستقرارها. الحقيقة، فإنّ الزوجات والأمهات يتحملن الويل في سبيل الاستمرار بالحياة الزوجية حمايةً للسمعة، وخوفاً على مستقبل الأولاد حتى بلوغهم سن الزواج. تدرك هؤلاء الأمهات أنّ فتياتهن سيتعرضن لمخاطر عدم الحصول على فرصة زواج مناسبة بسبب الموقف الاجتماعي من مكانة الأم المطلقة وتحميلها عبء ذلك بسبب التصورات النمطية التي تميل إلى إلقاء اللوم عليها، وتحميلها تبعة الفشل في الحياة الزوجية. يتبع ذلك الاعتقاد النمطي السائد في أنّ الفتيات يتطبعن بطبع أمهاتهن، وأنهن سيكررن نفس الأخطاء المفترضة التي وقعن بها. ولا يقل القلق بشأن ابن المطلقة الذي يفترض المجتمع أنه عاش في أجواء تفكك عائلي ستنعكس على سلوكه، حتماً. هكذا يجري ديدن الفهم الاجتماعي السائد بعيداً عن أي محاولة لإعادة النظر أو التماس هامش التبرئة والإعفاء من مثل هذه الافتراضات المجردة من الحجة والدليل.
أضف إلى ذلك أنّ معدلات الطلاق في العراق تعتبر ثاني أوطأ المعدلات بعد المملكة العربية السعودية التي يبلغ معدل الطلاق فيها 14٪، يليها العراق بمعدل 23٪. هذا فيما تشهد دول المنطقة تصاعداً كبيراً في معدلات الطلاق تصل إلى 50٪ في اليمن، 46٪ في الكويت، 40٪ في سوريا، 32٪ في إيران، 30٪ في تركيا ودولة الامارات العربية المتحدة على التوالي، و27٪ في البحرين ولبنان، على التوالي أيضاً. يمكن للمقاربة التقليدية أنْ تقودنا إلى النظر إلى الظروف الخاصة في أي من هذه المجتمعات فنقول إنه الفقر والتفاوت الطبقي في العراق. وأنها الحرب والاضطرابات المستمرة في اليمن وسوريا. بيد إن هذه التفسيرات تقف عاجزة أمام ما يحدث في دول الخليج العربي كالكويت والامارات العربية المتحدة والبحرين اللواتي لا يعانين من ضائقة اقتصادية، ولا يعتبر العامل الاقتصادي أو الأمني من بين العوامل المؤثرة فيها على هذا الصعيد. وهذا ما يؤدي بنا إلى التأمل بسبب أكثر أهمية ويشمل أوضاع النساء في كل هذه البلدان مجتمعة ويتمثل بالتغير الذي حققته المرأة مقابل تمسك الرجل بالصيغ والتوقعات التقليدية التي تظهر في ظل الحياة الزوجية وتحت سقفها، وتقود بالتالي إلى تفككها وفشلها. لا يملك كثير من الرجال شجاعة التسليم بهذه الحقيقة، والاعتراف بعدم اللحاق بالمرأة لخلق حالة من الانسجام والتوافق التي تسمح ببناء علاقة إنسانية ناجحة. المرأة اليوم تطالب بالاحترام والثقة المتبادلة، وبأنْ تكون الحياة الزوجية نقلة تعزز حقها في الحياة كإنسان ولا تخفضه إلى مستوى خادم وآلة إنجاب. وهذا ما يؤدي بالبعض منهم ممن يفشل في إدراك هذه الحقوق المستحقة إلى خلق مبررات من شأنها أنْ تعزز تصوراتهم الجامدة عن أنفسهم، والبحث عن شريك بديل يتطابق في سلوكياته مع توقعاتهم. يقع أمثال هؤلاء الرجال بفخ الإيهام بالتوافق والتطابق بالتصورات والتوقعات قبل الزواج، ولكن ما أنْ تدخل الحياة الزوجية مرحلة الرفقة والشراكة الروتينية فإنّهم يرون وجوهاً مختلفة ساهموا بصنعها من حيث يعلمون أو لا يعلمون.
من جانب آخر فات دعاة "الزواج هو الحل"، وإنْ كان بعمر مبكر ما يترتب على ذلك من مخاطر صحية على المرأة. فالمرأة لا تستطيع أنْ تحمل حملاً سليماً قبل بلوغ سن العشرين من عمرها لضعفها، وعدم تحمل بنيتها الجسدية لأعباء الحمل والولادة. أما الإصرار على تزويج الفتيات صغيرات السن فإنه يعرضهن لا محالة لمخاطر الأمراض الملازمة للحمل كالسكري وارتفاع ضغط الدم والنزيف بل قد تتأثر الأعضاء المجاورة كالمثانة وتتسبب في التهابات خطيرة حتى وإنْ بدت الفتاة بالغة، شكلاً. هذا إلى جانب أمراض الشيخوخة المبكرة مثل هشاشة العظام ووجع المفاصل، وما إليها. يذكر إنّ محاكم الأحوال الشخصية في العراق تطلب تقريراً بفحص طبي خاص لاستكمال تصديق عقد الزواج من قبلها بالنسبة إلى الفتيات القاصرات دون سن الرشد (18 سنة). يختلف هذا الفحص عن الفحص الذي يخضع له البالغون من النساء والرجال والذي يتضمن التأكد من السلامة من أمراض العوز المناعي (الإيدز) والتهاب الكبد الفيروسي والأمراض القابلة للانتقال جنسياً. تحال حالات الفحص الطبي للقاصرات والذي يركز على تكامل بنيتهن الجسدية والتناسلية على وجه الخصوص إلى الطبيبات عادة ممن يجدن أنفسهن في أوضاع لا يحسدن عليها بسبب التدخلات العائلية والعشائرية التي تطالب بالحصول على تقارير مقبولة، وغير قابلة للطعن بافتراض تأهل الفتاة للزواج، واستكمال نموها الجسدي. تضطر هؤلاء الطبيبات، وأحياناً الأطباء إلى التوقيع على تقارير غير صحيحة لتفادي التهديدات والمخاطر الحقيقية التي يمكن أنْ يتعرضوا لها في حال توصلوا إلى أنّ هناك حالة اعتداء أو انتهاك من نوع ما أو لمجرد التصريح بأنّ البنت غير جاهزة جسدياً للزواج. ولنا أنْ نتوقع الإشكالات التي تترتب على قبول عقود الزواج خارج المحكمة التي لا تضع ضوابط من أي نوع كان، وتتجاوز نتائج العلم الحديث الذي يحدد البلوغ والعقل عند سن الـ 18 وترفعه بعض المجتمعات إلى 21 سنة. ويرتبط بالزواج المبكر زيادة في معدل وفيات الأطفال الرضع في الفئة العمرية سنتين فما دون والتي تبلغ في العراق 22 لكل ألف من السكان حسب أحدث الإحصاءات الصادرة عن وزارة التخطيط. وكذلك الحال في ارتفاع معدل وفيات الأمهات الذي يبلغ 46 لكل 100 ألف ولادة حية، وهو الآخر معدل مروع وخطير وتبتلى به في الغالب الأمهات صغيرات السن. هذا إلى جانب زيادة ملحوظة في حالات الإسقاط وعدم الاحتفاظ بالجنين حتى الولادة وما يرتبط بذلك من حالات نفسية تتمثل بالكآبة والقلق والتوتر بسبب عدم الاستعداد لكل هذه التغيرات الغامرة لحياتهن. يضاف إلى ذلك حقيقة معروفة طبياً وهي أنّ المرأة لا تتحمل أكثر من أربع ولادات خلال فترة حياتها الإنجابية التي تتحدد بالفئة العمرية 15-45 سنة من العمر إذ ستنال أي حالة ولادة إضافية للنيل من صحتهن. سيؤدي الزواج بعمر مبكر إلى زيادة حالات الحمل عن أربعة المحددة طبياً مما يعرضهن ومواليدهن إلى مخاطر صحية جدية.
أما الاعتراف بالزواج المؤقت والمنقطع فهو دعوة مفتوحة للانهيار الأخلاقي من حيث أنّ الناس يقولون ما لا يفعلون. فمن ذا الذي يضمن أنْ يلتزم الأزواج بمسؤولياتهم الأخلاقية والأدبية تجاه شركائهم حيث تكثر حالات التخلي والهجر والغدر في ظل انعدام الضوابط القانونية التي تنظم الحياة الزوجية، وتحد من تجاوزات الشريك بحق الشريك الآخر. أضف إلى ذلك أنّ الاعتراف بالزواج المؤقت والمنقطع سيعرّض ملايين الرجال العراقيين إلى القلق على أحوال بناتهم وزوجاتهم وأخواتهم بسبب شيوع حالات الابتزاز والتحرش الجنسي التي يُكشف عن بعضها بين فترة وأخرى في مؤسسات العمل والدراسة. وفي ضوء إحصاءات وزارة التخطيط التي تشهد بزيادة أعداد المواليد غير الشرعيين سنوياً في العراق لا يستبعد أنْ تؤدي مثل هذه التعديلات المقترحة إلى مزيد منهم الأمر الذي ينذر بنشوء طبقة من الأشخاص مجهولي النسب ممن يواجهون صعوبات في التأقلم في مجتمع يهتم بالأصل، والفصل، وصحة النسب. وليس هذا فقط بل إنّ أصول الناس وانتماءاتهم التقليدية حق من حقوق الإنسان يطالبون بها ويهمهم المحافظة عليها، وحري بالقائمين على إدارة شؤون المجتمع أنْ يحافظوا على هذا الحق ويساهموا في حمايته. من جانب آخر، لا يستبعد أنْ تمتنع الكثير من الفتيات والنساء في العراق عن الزواج بإرادتهن كرد على مقترح التعديل هذا الذي يعرضهن إلى زيجة غير آمنة، وغير مستقرة، ولا يعد بضمانات تحمي حقوقهن كزوجات وأمهات.
هناك الكثير مما يستطيع مجلس النواب العراقي العمل لتمتين اللحمة الاجتماعية والمساعدة على بناء مجتمع آمن ومستقر بما في ذلك العمل على إحياء قوانين سابقة خدمت المجتمع العراقي. ومن هذه القوانين قانون التعليم الالزامي رقم 118 لسنة 1976 الذي شرع لدفع كل أطفال العراق في الفئة العمرية 6-11 سنة للالتحاق بالمدارس الابتدائية. تضمن القانون عقوبات على أولياء الأمور في حال تخلفوا عن دفع أبنائهم للدراسة. وكلفت إدارات المدارس في حينها في الأحياء السكنية التي يعملون فيها بمتابعة كل الأطفال في الفئة العمرية المحددة للتأكد من التحاقهم بالمدارس. وكان مخططاً للقانون أنْ يمتد ليشمل الأطفال في مرحلة الدراسة المتوسطة في الفئة العمرية 12-15 لولا اندلاع الحرب العراقية الإيرانية 1980 والتي أدخلت العراق في دهليز التخلف الاجتماعي، ونالت من رصيده البشري في الأعمار الشابة على وجه التعيين، وساهمت بتعطيله.