لينا أواندجيلي
ترجمة :عدوية الهلالي
منذ عام 2003، شهد العراق أحداثاً محورية تشكل مشهده السياسي،فقد فرض الاحتلال الأمريكي عملية اجتثاث البعث وأدخل الديمقراطية التوافقية، ووزع السلطة على أسس عرقية وطائفية. وفي الوقت نفسه، أدى صعود تنظيم القاعدة في العراق وجيش المهدي التابع لحركة الصدر إلى تغذية الفصائل المتطرفة السنية والشيعية،على التوالي.وقدساهمت الصراعات الطائفية في الفترة من 2006 إلى 2008، واحتجاجات الأنبار في 2012-2013، وهجوم داعش في عام 2014، في تشكيل مسار العراق. وساهم تشكيل قوات الحشد الشعبي في عام 2014 في هزيمة الجماعة الإرهابية بحلول عام 2017، في حين أدى استفتاء الاستقلال الكردي عام 2017 إلى تكثيف التوترات العرقية. وطوال هذه الأحداث، لعب التدخل الأجنبي دورًا ثابتًا، حيث اعتبره البعض تدخليًا، بينما اعتبره البعض الآخر ضروريًا للأمن كما استخدمت القوى الإقليمية وكلاء لتحقيق أجنداتها. لذا سلطت هذه الأحداث الضوء على تسييس الخطاب الطائفي في السياسة العراقية. وشكلت حركة تشرين نقطة تحول في عراق ما بعد العام 2003، حيث ميزت نفسها عن الحملات الشعبية السابقة وجهود المجتمع المدني من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي.
واندلعت انتفاضة تشرين في تشرين الأول 2019 في بغداد وجنوب العراق. وكانت هذه الحركة، التي قادها الشباب في المقام الأول وتفتقر إلى زعيم مركزي، هي الأبرز منذ غزو عام 2003،إذ طالب المتظاهرون بإنهاء نظام المحاصصة الطائفية والفساد المستشري، إلى جانب إنشاء الخدمات العامة الأساسية، بما في ذلك الكهرباء والماء. ومع ذلك، تطورت هذه الاحتجاجات السلمية إلى دعوات ثورية لتغيير النظام. ورداً على محنة الشعب، اختارت الحكومة قمع المتظاهرين بعنف من خلال قوات أمن الدولة والجماعات شبه العسكرية، مما أدى إلى الوفاة المأساوية لحوالي 600إلى 800 شاب عراقي بين تشرين الأول 2019 وكانون الثاني 2020. بعدها استقال عادل المهدي في تشرين الثاني 2019. وجاء خلفا له رئيس المخابرات السابق مصطفى الكاظمي،ووعد بمعالجة الاحتجاجات السلمية ومطالبها، لكن ذلك لم يتحقق.
كانت الحركة الاحتجاجية 2019-2020 جديرة بالملاحظة لعدة أسباب. أولاً، تفاقمت أزمة الشرعية في النظام السياسي العراقي بعد عام 2003 مع الحرب ضد داعش، مما أدى إلى زيادة التعاون بين قوات أمن الدولة والوحدات شبه العسكرية ضد الجماعات الاحتجاجات. بالإضافة إلى ذلك، كشفت حركة تشرين عن صراع شيعي داخلي غير عادي ، وخلافاً لأعمال العنف التي اندلعت بعد عام 2003 والتي كثيراً ما كانت تضع السنة ضد الشيعة، أو العرب ضد الأكراد، أو الدولة ضد المتمردين، اشتبكت أجهزة الدولة التي يقودها الشيعة هذه المرة مع السكان من نفس الطائفة الدينية من بغداد إلى جنوب العراق، وتضمنت المواجهات منذ فترة طويلة الخصومات القائمة بين الأحزاب السياسية الشيعية والقوات شبه العسكرية والجماعات المسلحة، وأدت التأثيرات الخارجية إلى تفاقم الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن. وأخيراً، استخفت الطبقة السياسية العراقية بتصميم الحركة الجماهيرية التي يقودها الشباب، والتي رفضت التفاوض على حل.
بالإضافة إلى ذلك، لعب الفن والثقافة دورًا مهمًا في عام 2019، حيث استخدم المتظاهرون الموسيقى والشعر والكتابة على الجدران والأناشيد الإبداعية للتعبير عن رؤيتهم لمستقبل أفضل للعراق.وعلى الرغم من انخفاض التظاهرات العامة بسبب أعمال العنف وجائحة كوفيد-19 والضغوط الاقتصادية، ظلت الحركة الاحتجاجية في العراق نشطة حتى عام 2021، ولا تزال قادرة على حشد مظاهرات كبيرة. وتركز الحركة، التي لا تزال تتمتع بدعم شعبي واسع، على المطالبة بالمحاسبة على العنف ضد النشطاء. فقد كشف استطلاع أجرته EPIC في حزيران 2021 أن أكثر من 70٪ من العراقيين يدعمون المتظاهرين، مع مشاركة 31٪ في مظاهرة واحدة على الأقل منذ تشرين الأول 2019.وتتميز الحركة الإصلاحية في العراق بتصميمها ونهجها الاستراتيجي. ويدرك الناشطون الالتزام طويل الأمد المطلوب للدفع نحو الإصلاحات، ويؤكدون على أهمية الحفاظ على النزاهة الأخلاقية، وتثقيف الجمهور، والدفاع عن حقوق الإنسان، والحفاظ على الهوية الشاملة للحركة. وتسلط التحديات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب الضوء على الحاجة الملحة للإصلاحات. ويعترف الناشطون البارزون بأن تحقيق تغيير كبير سيتطلب جهوداً متواصلة على مدى عدة دورات انتخابية. وقد طغت أهمية الحركة وبروزها وتأثيرها الدائم على مبادرات التغيير الأخرى. وفي الواقع، كانت نهاية نظام عادل عبد المهدي رمزية إلى حد كبير، حيث لم يتم التعامل مع المطالب الأخرى بالتغيير التي أطلقتها الانتفاضة. ومع ذلك، أدت حركة تشرين بشكل مباشر إلى قرار إجراء انتخابات مبكرة في العراق عام 2021.
ولم يكتف الحراك بانتظار قيام الحكومة بمنح حقوق للشعب العراقي أو قصر مطالبها على الاحتياجات الأساسية مثل الكهرباء والماء والخدمات العامة. بل أعلنت بجرأة بدلا من ذلك : "أنا خارج للمطالبة بحقوقي". وتبرز "تشرين" من بين ثورات الربيع العربي، والثورة الإيرانية ضد الشاه، وغيرها من الحركات الشعبية التي أطاحت بأنظمة مختلفة حول العالم. ورغم أن المطالب كانت تهدف إلى إسقاط النظام السياسي العراقي، إلا أن حركة تشرين لم تسع إلى تفكيك البنية السياسية برمتها. وبدلاً من ذلك، ركز نشطاء تشرين على كيفية إصلاح وتحديث النظام السياسي الحالي مع السعي للحفاظ على أسسه الديمقراطية. وتكمن قوة الحركة في قدرتها على كسر الخوف من السلطة وبث الخوف في نفوس السلطات من الشعب. بالإضافة إلى ذلك، كان دور الشتات العراقي على وسائل التواصل الاجتماعي حاسما. وكان لانتفاضة تشرين صدى عميق لدى المغتربين، الذين تعرضوا في البداية للاحتجاجات من خلال منصات مثل فيسبوك، وتويتر، وتيليغرام، وكلوب هاوس، وإنستغرام، وواتساب، للتواصل مع الأصدقاء والعائلة في العراق ، إذ لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً حيوياً في رفع مستوى الوعي وتنظيم الاحتجاجات وتضخيم المظالم التي غذت تشرين. لقد كانت بمثابة ساحة معركة افتراضية حيث تحدى النشطاء الروايات الرسمية وتبادلوا الروايات المباشرة عن الاضطرابات، وسد الفجوات الجغرافية وتعزيز جهود التضامن العالمي. كما استخدموا المنصات الرقمية لرفع مستوى الوعي بالأهداف السياسية لتشرين، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الميليشيات والقوات الحكومية، وحشد الدعم من خلال جمع التبرعات ومظاهرات التضامن.وأصبحت وسائل الإعلام المستقلة مثل shakomako.net ومنظمات مثل العمل الجماعي من أجل العراق (CAFI) أصواتًا مؤثرة ضد الدعاية الحكومية وسلطت الضوء على الظلم الذي تسببه بغداد. بالإضافة إلى ذلك، لعب الفن والثقافة دورًا مهمًا في عام 2019، حيث استخدم المتظاهرون الموسيقى والشعر والكتابة على الجدران والأناشيد الإبداعية للتعبير عن رؤيتهم لمستقبل أفضل للعراق. وكانت هذه المقاومة الثقافية مؤثرة بشكل خاص نظراً لتجربة الجيل مع الحرب والفساد والطائفية.
وعلى الرغم من تأثيره التحويلي، واجه النشاط الرقمي خلال تشرين تحديات، بما في ذلك حملات التضليل التي تهدف إلى تشويه سمعة المتظاهرين على منصات مثل تيليغرام وتويتر. وقد تصدى نشطاء الشتات لهذه الجهود من خلال التحقق من الحقائق والمشاركة، وتسليط الضوء على تعقيدات المناصرة الرقمية في مناطق النزاع. علاوة على ذلك، ردت الحكومة العراقية والميليشيات على الاحتجاجات بالقمع الوحشي، بما في ذلك الاعتقالات والتعذيب والقتل المستهدف.وأصبحت المنصات الإعلامية حاسمة لنشر الأدلة على هذا القمع، وبالتالي تعزيز الدعم العالمي للحركة. وبشكل عام، توضح حركة تشرين الطبيعة المزدوجة للنشاط الرقمي، وذلك باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لحشد التضامن العالمي مع مواجهة مخاطر المعلومات المضللة وقمع الدولة. وهو يسلط الضوء على قدرة مجتمعات الشتات العراقي على الصمود والتزامها المستمر بالعدالة وحقوق الإنسان والتغيير الديمقراطي، سواء في العراق أو خارج حدوده.
متخصصة في العلاقات الدولية والقانون