في السراء والضراء كانت قمرا لا يغيب
بقلم : جاسم المطير
العودة الى صفحة المقالات

ما تعرفتُ عليها حين كنا طلابا أو عمالا ، إذ لم تجمعنا مدرسة ولا جامعة ولا عمل مشترك في معمل أو مزرعة ،  بل تعرفتُ عليها حين كانت مناضلة وطنية  تعي جيدا ما كان يحيط زمن خمسينات القرن الماضي من أحداث ٍ داخل الوطن وفي المسرح العالمي كله . عرفتها منذ البداية مدافعة عن الحقيقة أينما كانت ، بكل جسارة . سمعتُ باسمها ثم عرفت مسارها واتجاهها بجانب الحزب الشيوعي أولا ومن ثم في داخله حيث وجدت نفسها داخل مروج الدفاع عن حقوق المرأة تنهمر منها لآليء النضال السحري من اجل إنسانية المرأة العراقية لتكون أساورها وقلائدها عِلما ، وفنا ، ومعرفة ، وتقدما ، ومنارا  . امتلكتْ منذ شبابها خبرة التاريخ الإنساني وفكرة الماركسيين لكشف أغوار الأحداث السياسية والصراعات الطبقية . عرفتها قادرة على قراءة مستقبل الوطن بعينين خبيرتين . عرفتها وعرفت ُ ولعها بقيمة الوطن والحرية والإبداع رغم اختلاف وجهات نظرنا أحيانا ، فكريا وسياسيا ، تجاه تقييم قضية من القضايا أو عند تحليل حدث من الأحداث لكنني بقيت عقودا طويلة من السنين مؤمنا أن المناضلة (زكية خليفة) تملك قدرها بيديها وأنها قادرة على صنع ما تريد ، كجزء مما يريده الشعب العراقي، وقد ظلت مثالا زكيا للإصرار على مواصلة النضال الطويل  والتمسك بطيب المعشر مع حزبها الشيوعي ومع جميع أصدقائها ومعارفها مثلما ظلت متمسكة بأفكار الماركسية حتى يوم رحيلها .

من خلال نور المناضلة زكية خليفة تترقرق ، في هذه اللحظات ، داخل قلبي ذكريات كثيرة عزيزة عليّ ، ليس فقط عن زكية ، بل أن كثيرا من حكايات النضال والصداقة ترغي وتزبد في بحار ذاكرتي عن كاظم خليفة وعن عبد الحسين خليفة وعن زكية خليفة وعن سعدية خليفة وعن أمهم جميعا . كان مرشدنا جميعا في صداقتنا هو الحزب الشيوعي العراقي بفرعيه في البصرة وبغداد .

أول معرفة بآل خليفة كانت مع عبد الحسين إذ كثيرا ما كان يحدثني عن ضجيج السجون وهدوئها ، عن علومها وعذابها ،  وآخر معرفة كانت مع كاظم خليفة في أوائل سبعينات القرن الماضي حين قــُتلتْ زوجته تزجية لفراغ ودكتاتورية حزب البعث حين مر زمن إرهابي اسمه زمان ( ابو طبر ) فكانت هي أول ضحية من ضحايا ذلك الوحش الذي ابتكره عقل صدام حسين البوليسي .

ما بين هذا الخليفي وذاك تعرفتُ إلى زكية خليفة أولا ومن ثم إلى سعدية  . كان عالم الفن والنضال العراقيين سخيا معي بصداقة عدة نجوم ترفّ بالنور في عائلة واحدة .

مع عبد الحسين خليفة شدّتني رابطة العمل الحزبي والنضال المشترك لسنوات طويلة وقد شاهدنا معا حياة خريفية طويلة في العمل السري وفي الاختفاء ببيوت سرية لم نجد فيهما غير بحيرات صافية المياه في النضال الشيوعي الذي ما ارتجف لحظة واحدة خلال 76 عاما من عمره المجيد  .

مع سعدية خليفة شدتني رابطة العمل الفني المشارك حين صارت بطلة فيلم ( بيوت في ذلك الزقاق ) . كان السيناريو مأخوذا من روايتي المعنونة (زقاق الاقنان ) التي كتبتها معبرا فيها وكاشفا عن معاناة الفقراء الكادحين في منطقة شعبية بغدادية كانت فيها سيوف الأغنياء من أصحاب المعامل مشرّعة على أعناق العمال المنحنية كي يتحدون الموت جوعا .

مع كاظم خليفة شدّني العمل التجاري حين عاونني ، موظفا ، في مكتب مؤسستي التي تخصصت بالدراسات والنشر والطباعة والتوزيع إذ عمل معي مديرا للحسابات ، عصر كل يوم ،  بعد انتهاء دوامه في وزارة النفط  حيث كان مديرا لحساباتها .

كان التعارف بيني وكاظم خليفة قد جرى بواسطة زكية التي عرفتُ اسمها منذ أوائل خمسينات القرن العشرين حين أصبحتْ اسما شيوعيا شهيرا يشار إليها بالمثال الطيب حين تزوجت منفيا شيوعيا في ناحية ( بدرة ) النائية  بمهر معجل قدره (مائة فلس) ونفس المائة من الافلاس سجلت كمهر معجل فقد صارت مثالا ايجابيا بين كثير من الناس والعائلات ، حين يختلف اهل العروس مع اهل العريس على مقدار المهرين ، فأن اهل العريس يذكرون اهل العروس باسم ٍ نسائي ٍ لامع ٍ بالقول :( قابل ابنتكم أحسن من زكية خليفة المتزوجة بمهر المائة فلس ) .

كانت شابة في أجمل العمر حين خضّت حياتها في أجواء الفن المسرحي بلمعان استشرافها الفني خلال هناءتها الصافية في تمثيل دورها بمسرحية النخلة والجيران حتى أصبحت مرة أخرى اسما يشار له بالبنان والاحترام كممثلة يغالى في رفع اسمها كلما جرى حديث بين أية مجموعة فنية .

حققنا امرأ رائعا ، ذات يوم ،  حين تلونا معا رباعيات خطوبة المناضل الشهيد شاكر محمد البصري فقد اتخذنا أكثر من جلسة ومجلس مع شاكر لكي تظفر زكية خليفة بدور المشاركة في وفد الخطوبة النسائي مثلما شاركت أنا بوفد الخطوبة الرجالي . وقد  كانت زكية خليفة هي التي استلمت ، من طائرة عراقية في مطار بغداد ، جثمان شقيقته سميرة محمود التي توفيت بالسرطان في إحدى مستشفيات براغ .

في السراء والضراء كنت أجد زكية خليفة إلى جانبي ثم حملتها غيوم الفرقة بعيدا عني في بداية ثمانينات القرن العشرين حين فضلتْ أن تلعب لعبة العزلة وهيام الجلوس في البيت لقضاء غالب ساعات عمرها  خلال فترة من تاريخ العراق حملت أمواج الفاشية البعثية إلى كل مكان في بلادنا وصارت رقيبا على كل من يبتسم .

مضى الزمان طويلا حتى فاجأني صوتها ذات يوم بعد سقوط الفاشية وهي تناديني :

ــ هل عرفتني هل عرفت صوتي ..؟ 

قلت لها :

ــ  لقد جعلتني غيوم الغربة والمنفى بوجيبٍ قلق ٍ لا يعرف الأصوات التلفونية  فأرجو أن تسامحيني .

قالت زكية خليفة :

ــ أنا  اعرف وخز آلام البعد عن الأهل والوطن .

ثم أضافت بكلام سريع:

ــ  أنا أختك الكبيرة  زكية خليفة .. أنا الآن  في باريس  ضمن وفد نسائي ارفع يدي تحية إليك من قرب قوس النصر الفرنسي بعد أن صار في العراق نصر بلا قوس  .

استمر حديثنا طويلا لم يخلو من إصراري على ضرورة المجيء إلى هولندا القريبة خاصة وقد تحركت عندي في تلك اللحظات روح القلق الأخوي الكامنة في نفسي تحت ظل ظروف الإرهاب والاختطاف والاغتيال المتزايدة آنذاك في بلادنا  .

مرة ثانية مثلت زكية خليفة  دور القمر الذي يطلع سريعا بين الغيوم المظلمة ويغيب سريعا أيضا  حين كانت تتناول وجبة غداء في دار الصديق الدكتور سعد الموسوي على مائدة زوجته الكريمة بشرى الجاف حيث لا يبعد بيتهما عن بيتي أكثر من 18 كيلومترا لكنني لا أستطيع اللحاق بمائدة كريمة لأن جياد قدميّ مقيدتان بمرض لا يسمح لهما بالحركة . كما كانت زكية على عجلة من أمرها لضمان عودتها السريعة إلى الوطن حيث  شعرت أنه كان يتناثر مع كلامها التلفوني زبد أمواج شوقها إلى بغداد .

تحدثنا طويلا حديثا تلفونيا مؤكدة أنها تمر مرور الكرام على هولندا لزيارة شقيقها عبد الحسين المقيم في مدينة(  ألميرا ) قرب أمستردام ، ثم أكدت كيف تقوى على  مغادرة هولندا دون زيارة تلفونية لأخيها الآخر جاسم المطير . أرسلت لها فرحتي التي لا يمكن لإنسان في الأرض  أن يعلم حجم هذه الفرحة وقدرها .

حين انقلب بها المرض أقامت في مملكة السويد ، لاجئة ومريضة ،  كلمتني مرة واحدة وهي تبكي قائلة : سأموت في الغربة ،  يا أخي ، بعيدة عن الوطن .

كان كلامها قد هزني لعلها كانت تناديني بالقول كما في كل مرة نلتقي فيها : يا أخي الصغير . لكن أخاها الصغير لا يستطيع أن يعدو هائجا بوجه مرضها لأن رباعيات حركته مطعونة بالمرض أيضا .

توقفت عن مكالمتي وصارت تحياتها وأخبارها تأتيني بواسطة عبد الواحد كرم ( أبو سلام ) وجبار خضير ( أبو ظافر ) .

ثم ، في لحظة من ارتعاش غابة الزمن السويدي الغريب اربد نور الذكريات بارما لي خبر رحيلها الأبدي .

ما حزنت ُ لأن موجة ً هادرة ً تظل في ذهني تؤكد أنها لن ترحل من ذاكرتي فزكية خليفة هبة رائعة من صداقات النضال تجرف كل الأخبار المعتمة السوداء . 

  كتب بتأريخ :  الأحد 28-02-2010     عدد القراء :  2217       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced