لسنا نعرف على وجه الدقة من ابتكر اسلوب تقديم النساء شهاداتهن حول تجاربهن الابداعية ضمن الندوات التي تتناول ابداع المرأة .هذه الشهادات التي راحت النساء تتسابق الى تقديمها بطلب من منظمي الندوات أو بإيعاز غير مباشر منهم، حين تثير شهادة من كاتبة معروفة مثلا جوا من التصفيق والاستحسان.الامر الذي يخلق حالة من وهم بالاهمية ترغب كل من تكتب أن تحظى بها ،كما لو أنها صك غفران على زلة الكتابة! فكتابة المرأة ما زالت تثير الجدل والغضب ،وما زالت تناقش بخطاب يستند على الموروث التاريخي في علاقة المرأة بالرجل،ويمتد في اتجاهات متباينة ،متلفعة بالحيرة حينا والاعتراض احيانا،لكن بالدهشة الخفية والغضب المكبوت أكثر الاحيان،على هذا الكائن البشري الذي سنت من أجل شل حركته الفاعلة ،المبدعة،كل التحريمات عبر العصور، ليبقى قيد ترسيمات الخدمة الالزامية المجانية والاعتبار المتدني في سلم القيم الاجتماعية والوجودية بصفة عامة .
هذا الكائن البشري الذي نذر للصمت،راح ينفض جناحيه من غبار التراكمات السلبية ليجرب الطيران-وإن في فضاء مسقوف بانسلاب الذات-شأن صغار الطيور تتعثر لتنهض، تسقط لتعلو.وبين التعثر والنهوض يتم الرصد والتعجب والغضب باسم قوانين الكتابة وتقاليد الادب واحكام اللغة ومواضعاتها التي لا مكان لهذا الكائن فيها إلا صيغة الموصوف،ووفق منظور الواصف ومقاييس ضميره الاجتماعي والثقافي. هذا الكائن إذن ينهض ليتلمس ملامحه ،ليعيد صياغة سماته الروحية والانسانية بمعطيات وإن كانت جاهزة ولغير قياسه،ألا أنها تشي بنية خلخلتها واختراقها. وهذه الوشاية الصغيرة في كتابة النساء المنبثة في هذا الرواية وتلك القصيدة،هي ما يثير الجدل والتساؤلات والغضب المكبوت عند المتحضر،والسافر عند من لا يتحرج من إعلان ثباته على القديم والسالف.
هذا الغضب المكبوت هو الذي يتماهى باسئلة تتدور وتتمحور ضمن ندوات تقام هنا وهناك،تماشيا مع العصر،أو تنويعا في الانشطة الثقافية ،رسمية كانت ام اجتماعية.
ماذا تقول المرأة في كتابتها؟ هل توجد كتابة نسائية؟ وإذا وجدت ،فما هي أسبابها،سماتها،خصوصيتها، موضوعاتها ،وحساسيتها الفنية؟وهل تختلف عن الكتابة السائدة؟وإذا لم تختلف ،فهل من داع لكتابة المرأة،أو من ضرورة للمرأة الكاتبة؟ وإذا كانت كتابات النساء تدور حول مشاكل المرأة وعالمها الذاتي فأي معنى لخوضها مجال الكتابة إذا كان الادب السائد(أدب الرجل) قد سبقها الى طرح تلك المشكلات وقدم عرائض مطولة للمطالبة بحقوقها؟بل أن الادب السائد قد عبر عن طموحاتها واحلامها وصفاتها وكينونتها ورغباتها،فهل من جديد لدى المرأة كي تقول ما لم يقل بعد؟وبصيغة أخرى،لقد أنجز الادب السائد (الانساني ) كل ملامح النساء وتفاصيلهن وقضاياهن،فأي عبث أن تخسر المرأة مملكتها المتوجة بأنوثتها، أو لتفتح ثغرة في جدار هذه المملكة التي توجت عليها ربة وسيدة وحارسة،لتكسب شبرا في صحراء المنفى!
هذا ما تشي به الندوات التي تقام في مناطق مختلفة من الجغرافية العربية على مدار السنوات الاخيرة،وتدعى لها النساء الكاتبات لتقديم شهاداتهن ،كما يدعى لها النقاد للتحكيم،والمعنيون بالاستطلاع والتغطية الاعلامية للاشهار،واما القليل المعني بالمرأة لذاتها ككائن انساني يحاول ويتطاول فإنهم يأتون دون دعوة من احد…
في مشهد الندوات التي تعقد حول إبداع المرأة يتبدى للمتأمل أن مشهدا قضائيا يقوم بكل حيثياته وتفاصيله ومراسيمه :القاعة ،المنصة،القضاة ،وشهود النفي والاثبات ومدع عام. وهناك قبل كل هذا ،تهمة ومتهمة. لكن بدون محام .فإذا أخذ هذا المشهد المجازي تجسده فإن المتهمة هي المرأة ،والتهمة هي الكتابة،اما المدعي العام فهو الادب السائد بكل أشكاله ومضامينه ولغته.أي كل اشتراطاته الوضعية إلا شرطه الانساني بوصفه ارقى الانشطة التي تماهي اعظم معاني الحرية،لأنه المعبر عنها ،والمعبر اليها.
إن الابداع الذي هو حق عام لكل انسان (امرأة ورجل) ،لن يصير ادعاءا إلا عبر الوصاية علية.وفي علمنا فإن الاوصياء على الابداع والمبدع كثيرون.اما النقاد الذين يجلسون هناك على المنصة فهم القضاة بإسم الادب السائد وقوانينه الراسخة.ولأن المرأة هي المتهم ضمنا ومكاشفة فسوف يطلب منها أو يوعز اليها بتقديم دفاعها في صيغة ادبية تسمى بالشهادة.و الشهود هم الحضور كله نساءً ورجالا،قراءً وكتابا. وبطبيعة الحال فأن اغلب النساء سيمثلن شهود النفي من أن تكون الكتابة تهمة والاثبات على أنها حق.و يمثل الرجال شهود الاثبات والنفي ايضا ولكن بمسار آخر ،حيث سينقبون في تفاصيل لا تمت الى جوهر الكتابة /الحرية ،وتمت بعرى اوثق الى مصادرتها ،لاثبات التلبس بالتهمة من جهة،ونفيها في صيغة تحد وسخرية .
.
في احد الندوات نهض رجل _ولست اذكر فيما إذا كان كاتبا او قارئا فقط- وقال بلهجة ساخرة ،أنه قرأ ثلاث قصص في مجموعة قصصية دون أن يلتفت الى اسم الكاتب،وبعد انتهاءه من قرا ءتها لاحظ ان الكاتب امرأة ..واستغرب من عدم وجود الفرق بين كتابتها وكتابة الرجل..ثم جلس متباهيا بين تصفيق الحضور وضحكهم.ولعلنا نلحظ ان في هذا القول تناقض واضح.فالنقاد يتهمون المرأة بأنها لا تكتب إلا ادبا ذاتيا يتناول مشاكلها الخاصة وهو بذلك لا يرقى الى مفهوم الادب الانساني (ويقصد به الادب السائد.) وفي نفس الوقت يقولون بأن ابداع المرأة لا يختلف عن إبداع الرجل ولم يأت بأية خصوصية أو تمايز أو اضافة.ولعلنا نشتم من هذا القول رائحة الانكار لضرورة أن تكون المرأة كاتبة ومبدعة.أو أن تكون قادرة على ارتكاب مثل هذا الفعل الذي يشبه الجرائر الكبرى في الشرائع البشرية إن لم يكن هو كلها مجسدا أو قيد التجسيد.وفي هذا التناقض الغريب في أقوال الشهود سعي الى نفي التهمة/ الكتابة عن المرأة لعجز في طبيعتها وكيانها واشتراطات وجودها ،وادانة لها بارتكاب فعل يتعالى على قدراتها الطبيعية و تأهيلها الاجتماعي.فإذا كان الادب فعل إبداع وحرية،فإن المرأة كائن تابع ،قاصر ،فاقد الاهلية للحرية!
بين هؤلاء يقف النقاد الذين من المفترض أنهم لا يتبعون سلطة المجتمع ولا سلطة الادب السائد.بل يخضعون كلية لروح الابداع وجوهر الحرية.وبما أن السلطة والحرية نقيضان،فإنهم بالضرورة ينبغي أن يمثلوا ضميرها المطلق الذي لا يصنف الانسان الى امرأة ورجل،ويدرجهما في أعلى وأدنى.ألا أن المشهد في القاعة سيبدو ملتبسا ومختلطا.فالنقاد سيتلبسون دور المدعي العام وسلطة الادعاء،وهي في المشهد كل الحضور .وهذه السلطة قد اوكلت للناقد الاقتضاء لها ومنحها مفتاح التعامل مع النص الادبي الذي تنتجه المرأة .
وبينما لا يكترث القراء عادة بالكاتب امرأة أو رجلا بقدر ما يعنيهم النص وقدرته على ملامسة مشاعرهم ومشاكلهم وآمالهم،فإن الكتاب والنقاد وحدهم معنيون بتصنيف النص الى نسائي وانساني(!) بمرجعية ابداعهم الشخصي وذائقتهم الفردية،وهم في الاغلب حكم غير عادل على ابداع المرأة.وبالرغم من اتباعهم اساليب الاحتفاء في الظاهر، فإنهم يمارسون الاقتضاء ضمناً .. ..
سيتخذ الاحتفاء مشهداً يظهر لنا الكاتبة وهي تجلس في صف النقاد/على المنصة،كي تدلي بشهادتها كاملة،منذ أن كانت جريرة الكتابة نية مبيتة حتى صورة تجسدها في صيغة نص روائي أو قصيدة. وكلما اتسمت الشهادة /الاعتراف بالجرأة والخصوصية والمكاشفة المثيرة، حظيت بالاستحسان والتصفيق في الظاهر وصار احتمال الغفران والرضى أوسع وأشمل،بينما تنطوي النفوس على الاستهجان في الخفاء.ونحن نعرف في شرائع المحاكم أن مرافعة الدفاع تكون أبلغ الى نفوس القضاة والحضور وتحريك مشاعرهم الطيبة كلما احتوت على تفاصيل أكثر خصوصية وظرفية أحاطت بالمتهم ودفعته لارتكاب جريرته.
إذا كانت شهادات النساء تكشف عن الاسباب النفسية والظرفية لتبرير فعل الكتابة فإن المفارقة تكمن في أن شهادات الكتاب من الرجال تصير سيرا ذاتية أو مذكرات تكتب في أواخر العمر لتدون مسيرة الكاتب وتجربته الابداعية كشاهد على عصره وذاته.ولن تخضع لمحاكمة وتصويب،بل يجري الاحتفاء بها مضافة الى ابداعه ، عبر دراسات تبرز خصائصه الاسلوبية ولغته ومضامينه.وقد تكرس افكاره وفلسفته لتصير الى مذهب أدبي أو مدرسة ابداعية.ولن يبحث في سلبيات حياته مهما شذت وخرجت عن القوانين والاعراف والاخلاق فسوف يبرر له الابداع أي اجتراح على السائد وأي ارتكاب ضد المفاهيم! اما شهادات النساء ـوهي الاجزاء المتناثرة لسيرهن الشخصية كتبت قبل أوان نضوجها ـ فأن اهميتها ترجع الى جرعات الجرأة التي تعبر بها عن حريتها.والجرأة والحرية بالنسبة للمرأة لها مفهوم واحد أحد عند الكتاب خاصة والمجتمع بوجه عام.في حين أنهما تعنيان مفاهيم النبل والشهامة والشجاعة والحكمة إذا كان يتصف بها الكاتب الرجل.
في احد الندوات تلك،طالبت كاتبة معروفة بصوتها الجهوري،النقاد بالحياد والموضوعية في قراءتهم النقدية لإبداع المرأة وتقييمهم لشهاداتها .واشتكت بعض النساء الحاضرات من غياب النقد الموضوعي الذي يتناول كتابات المرأة ،وقالت أن النقاد أما أن ينحازوا الى الكاتبة بصفتها أنثى ضمن معيار الانوثة السائد،أو أنهم يشنون عليها عسفهم وتجريحهم إذا لم يجدوا عندها فرصة لتبني رجولتهم.وقد اثار هذا التصريح عاصفة من الضحك بين الحضور ،ولم يحاول أحد أن ينفيه بصدق.
يعبر هذان الرأيان عن مضمون الرؤية الذكورية تجاه المرأة الكاتبة.فالمرأة مجرد أنثى وعليها أن تبقى كذلك ،والكتابة فعل مضاد للأنوثة لأنها تفسدها وتكسبها صفة الاسترجال ..ذلك أن الكتابة في الاصل فعل ذكورة واحد أهم صفات الرجولة.
يذكر د.عبد الله الغذامي في مقالة له حول تأنيث القصيدة (مجلة فصول /صيف 1997) [أن الشعر شيطان ذكر ـكما يقول أبو النجم العجلي ـ وهو جمل بازل (الفحل المكتمل) كما يقول الفرزدق .. .. اما الأنثى فليس لها إلا أن تكون تابعة لا رائدة،وعاجزة لا قادرة،وتظل الأنثى أنثى ،وليس لها مكان في فنون الفحول.]لذا يقال أن المرأة الكاتبة ،المفكرة ،امرأة مسترجلة،وهي متهمة لأنها حين تقوم بهذا الفعل فأنها تعجز عن بلوغ ذروته.
تعترف احدى الكاتبات المعروفات أن سبب مبالغتها في تبرجها وتغنجها يعود الى أنها تريد أن تلفت انتباه الرجل اليها بصفاتها الأنثوية أولا حتى تتمكن من لفت انتباهه الى إبداعها..واستطردت في اسى :أن الرجال لا يحترموننا ولن يعترفوا بنا لأننا كاتبات، بل لأننا أناثا يسهل التعامل معنا .. .. ..
لكن ماذا عن المرأة الكاتبة،وكيف ترى هذه الندوات التي تقام من أجلها،وتبادر هي لإقامتها وتدعوا اليها الكتاب والنقاد من الرجال والنساء؟
للإجابة على سؤال كهذا ،ينبغي ـمن اجل الدقة الموضوعية ـ تقصي آراء النساء اللاتي شاركن في مثل هذه الندوات وقدمن فيها شهاداتهن التي نالت اعجاب البعض واستهجان البعض الاخر.ولو جمعت هذه الشهادات في كتاب واحد سيصبح شهادة على ما يحيق بالمرأة من شراك وتواطؤ يدفعها لتبرير هذا الاختيار الصعب مقابل خسرانها خيارات أكثر بريقا ،وأشمل للرضى.إن القبول بتقديم شهادة على الذات لهو تعبير عن غياب وعي المرأة بذاتها ،وبفعل الكتابة كحق لا يقتضي التبريرات وعرائض الحال .فالابداع نشاط فكري يعبر به الانسان عن تميزه ،وعن جوهره المتعالي على الحصر والاذعان.
ألا يبدو أن وعياً زائفاً تحبك خيوطه بتأنٍ وترقب وتشف لتسقط النساء في شراكه وينتظمن في طوابير امام شباك الرضى والغفران؟ فإذا كانت المرأة انسانا بالمطلق فإن الكتابة فعل من افعال الانسان.اما إذا كانت غير ذلك وفق المفاهيم العامة،فإن الكتابة فعل إجتراحي منتحلٍ،متعدٍ!
أية مفارقة هذه إذن؟
فعندما يعبر الرجل في خطابه الابداعي عن معاناته وطموحه وواقعه ،فإن أدبه يكون انسانيا لأنه يعبر عن معاناة الانسان.وحين تعبر المرأة في إبداعها عن معاناتها وطموحها وواقعها،عن قهرها واستلابها ،فإنها لا تعبر إلا عن ذاتها الضيقة المنفصلة التي لا تعني احد اً سواها،ولا تشمل قضايا الانسانية. وكأن قضيتها خارج قضايا مجتمعها و عصرها،وكأن ذاتها لا أهمية لها في تاريخ الذات الانسانية! وكأن معاناتها وتخلفها ليست من معاناة المجتمع واشكالية تحضره وتخلفه! وبهذا المعيار تصبح كتابة المرأة نسائية بالمعنى الحصري الهامشى الدوني ،وهي حتى ترقى على الحصر والتهميش والدونية فإن عليها أن تماشي الادب الانساني(!) أن تتمثله وتعيد انتاجه في انتاجها.وهذا ما يجعل الكاتبات يسارعن الى نفي التهمة "نسائي" عن ابداعهن وتوصيفها بالانساني.وهو قول حق حين لا تعلو الصفة "إنساني" على الصفة "نسائي".
إن الدعوة لالغاء اقتران الادب الذي تنتجه المرأة بصفتها،تنطوي على مزيد من تسييد نموذج غير مكتمل باعتباره أدبا ينتجه جنس واحد من البشرية المكونة أصلا من جنسين وتحويله الى مثال وطموح اعلى للنساء ،وجعل مضامينه واساليبه وقيمه في وعيهن نموذجا مستعصيا يتطلب الجهد والمثابرة والتمثل حد شرط بلوغه.كما يسقط في لا وعيهن الاحساس بالشك او العجز عن بلوغ هذا الشرط لنقص في طبيعتهن وقدرتهن(!) وقد دفع هذا الوعي الملتبس النساء الى الانكفاء والتحرج وضعف الثقة بالنفس المبدعة ،دون ان يدركن أن الادب سيكون انسانيا بالمعنى الحقيقي المتكامل حين يصبح حضور المرأة في الابداع والفكر والثقافة متوازيا ومتواشجا مع حضور الرجل ..حين تمتزج رؤاهما ومواقفهما من الذات والاخر والمحيط والعالم ..حين تؤسس المرأة فلسفة وجودها وفكرها ومنظورها الجمالي وحساسيتها الفنية.حين ذاك يكون الادب المنتج انسانيا بالمعنى الجوهري الحقيقي الشامل.أما في الوضع الراهن فليس من فخر أن تنفي المرأة انتساب ابداعها الى صفتها الخلاقة، لتنتمي الى صفة لم تكتمل بعد.ولأن المرأة ما زالت كائن قائم بغيرة ،موجود لغيره، فإن إعادة صياغة هذا الوجود وهذه الكينونة لا تحتاج الى تبرير أو شهادة أو اعتراف يقدم الى أحد.فالتبرير الوحيد يكمن في انسانيتها ،كما يكمن في حق الحرية !
كتب بتأريخ : الأربعاء 08-04-2009
عدد القراء : 2761
عدد التعليقات : 0