بينما نمضي في المسير نجد، أحياناً، ومن بين مجموعات متنوعة، بعضاً من "أصحاب الدكاكين" أو الصخّابين، من ضحايا الجزع واليأس، المصابين بعمى الألوان، والمولعين بالتشويش على حزب الشيوعيين، والايحاء المغرض، أحادي النظرة، بأنه عاجز عن تحريك الجماهير. وقد اعتاد هؤلاء، الحافظون ما نُظِّم سلفاً في ذاكرة معطوبة، على أن يُخرجوا، كالساحر، من جعبتهم النصائح والارشادات حول ما يجب على الحركة الجماهيرية فعله، متوهمين، وهم يتجاهلون الواقع وامكانياته وآفاقه، أن بوسعهم التأثير في الحركة، والوصول الى التاكتيكات السليمة لا لما يتعين أن يتبعوه مع الحركة الجماهيرية، وانما ما يتعين على الحركة نفسها أن تتبعه.
وغاية هؤلاء، الذين يلقون المواعظ ويقدمون "الدروس" تحت ستر متباينة بينها "حرية النقد"، تتجلى في سعيهم الى دفعنا الى مستنقعهم عبر الدعوة الى المهادنة والخنوع.
وقد رد غرامشي في (أطروحات ليون) على هذه الظاهرة بالاشارة الى أن القدرة على قيادة الجماهير لا علاقة لها باعلان الحزب نفسه باعتباره أداتها الثورية، وانما بنجاح الحزب بالفعل، في ربط نفسه بالجماهير، حيث من خلالها حسب يستطيع أن يكسب اعترافها به كحزب لها.
ومن المعلوم أن استغلال "حرية النقد" على نحو فضفاض ومائع يؤدي، عملياً، الى تشويه جوهر وحدود هذه الحرية، ذلك أن هذه "الحرية" توهم بأنها تنطلق من الدعوة الى "الجديد"، لكنها تسعى، في الواقع، الى عرقلة انبثاق الجديد وسيره في الحياة، مستخدمة في ذلك شتى الوسائل في الوصول الى ما تبتغيه.
ولا ريب أن الرد على ممارسي "حرية النقد" الأدعياء هؤلاء يتجسد، من بين أمور أخرى، في سعينا الدائب والدائم الى تدقيق خطابنا السياسي.
وعلى الرغم من حقيقة أن الجميع يشهدون بأننا ذوو الأيادي البيضاء، وأهل التاريخ الناصع والقيم الرفيعة والتضحيات الجسام، فان من بين ما يتعين علينا الاعتراف به هو أن خطابنا السياسي ما يزال بحاجة الى مراجعة وإعادة نظر من أجل أن يكون أكثر قرباً من الناس، وأكثر قدرة على الانفتاح والاغتناء والتجدد. وهذا هو، على وجه التحديد، ما نسعى الى فعله، نحن الشيوعيين، من أجل أن نكون أكثر ملموسية في فهم الواقع والتعبير عن حاجات الناس والتطلع الى الآفاق.
ومن نافل القول إن الخطاب السياسي ليس مجرد تصريحات وبيانات، بل هو شكل التعبير الواقعي الملموس عن الظواهر الاجتماعية والفكرية والسياسية، والبرامج المصاغة في إطار هذه العملية لتشخيص خصائص البنية الاجتماعية ومهمات المرحلة المعينة وسبل إنجازها.
وبالتالي فان الخطاب السياسي وثيق الصلة بالواقع الاجتماعي والسياق الموضوعي من ناحية، وبالناس الذين يتوجه اليهم هذا الخطاب من ناحية ثانية، بمعنى استيعاب الواقع واجتذاب الناس، وهو ما يشكل ركناً أساسياً في عمل الحزب، ووسيلة بيد منظماته ورفاقه ينشطون من خلالها وسط الجماهير.
وتتسم حاجتنا الى تدقيق خطابنا السياسي باستمرار بأهمية فائقة، ذلك أنه لابد أن يجسد موقف الحزب الواضح من مختلف القضايا، ويستوعب مزاج الناس الذي تتحكم به عوامل عدة، ويتميز بالروح الانتقادية تجاه الظواهر السلبية في الحياة الاجتماعية وعلى صعيد الممارسة السياسية، فضلاً عن القدرة على الوصول الى عقول وقلوب الملايين، وخصوصاً الكادحين.
ومن المؤكد أن مصداقية خطابنا السياسي تتجلى في قدرته على الدفاع عن المحرومين، وهو ما يمنحه السمة الطبقية ويميزه عن الخطابات الأخرى. كما تتجلى هذه المصداقية، بالطبع، في إقران القول بالفعل، وتقديم المثال الملهم الذي يحفز الناس على الكفاح من ناحية، ويعزز مكانة حزبنا بين القوى السياسية وقدرته على الاسهام الفعال في التأثير في مسار العملية السياسية ووجهة التطور الاجتماعي للبلاد.
* * *
يطيب لي أن أختتم هذه التأملات بمقتطف مما أبدعه لينين في (ما العمل ؟). فقد قال: "نحن نسير جماعة متراصة في طريق وعر صعب، متكاتفين بقوة. ومن جميع الجهات يطوقنا الأعداء، وينبغي لنا أن نسير، على الدوام تقريباً، ونحن عرضة لنيرانهم. لقد اتحدنا بملء إرادتنا، اتحدنا بغية مقارعة الأعداء بالذات، لا للوقوع في المستنقع المجاور الذي لامنا سكانه منذ البدء لأننا اتحدنا في جماعة على حدة، وفضلنا طريق النضال على المهادنة. وإذا بعض منا يأخذ بالصياح: هلموا الى هذا المستنقع ! وعندما يقال لهم: ألا تخجلون ؟ يعترضون قائلين: ما أجهلكم يا هؤلاء ! ألا تستحون أن تنكروا علينا حرية دعوتكم الى الطريق الأحسن ! صحيح، صحيح أيها السادة! إنكم أحرار لا في أن تدعوا وحسب، بل وأيضاً في الذهاب الى المكان الذي يطيب لكم، الى المستنقع إن شئتم. ونحن نرى أن مكانكم أنتم هو المستنقع بالذات، ونحن على استعداد للمساعدة بقدر الطاقة على انتقالكم اليه. ولكن رجاءنا أن تتركوا أيدينا، أن لا تتعلقوا بأذيالنا، أن لا تلطخوا قضية الحرية العظمى، ذلك لأننا نحن أيضاً "أحرار" في السير الى حيث نريد، أحرار في النضال لا ضد المستنقع حسب، بل وأيضاً ضد الذين يعرجون عليه!".
كتب بتأريخ : الثلاثاء 15-06-2010
عدد القراء : 2289
عدد التعليقات : 0