السياسة العراقية بين فكي "الصحوة الدينية " وتصدع الوحدة الوطنية
بقلم : د.عامر صالح
العودة الى صفحة المقالات

" يفكر الوطني بالأجيال القادمة, أما السياسي فيفكر بالانتخابات القادمة "
                                                                شكيب ارسلان

يتبادر إلى الذهن دوما عندما نسمع بالصحوة الدينية هو تنامي الاتجاه نحو التدين بوجه عام لدى المنتمين للإسلام أو لغيره من الأديان السماوية وغير السماوية, وتشمل هذه الدعوة التوجه ألعبادي, أي اتساع نطاق الممارسات الدينية التقليدية, والتوجه الثقافي والسلوكي الذي يحاول أن يأخذ من الدين الشكل والمضمون اللازم له.وتترك لدينا هذه التوجهات انطباعا أوليا ايجابيا عندما نسمع بها للوهلة الأولى دون الخوض في التفاصيل, وكأنها تعكس العودة إلى الكتب المقدسة والأحاديث النبوية باعتبارها خطابات رحمة ووئام بين أبناء الأمة الواحدة, وبين البشر بصورة عامة, وكما يقول النبي محمد( ص ) : " أيها الناس, إن ربكم واحد, وان أباكم واحد, كلكم لآدم وآدم من تراب ", ولتأكيد على أخوة البشر جمعاء باختلاف الدين, كما في قول الإمام علي بن أبي طالب( ع): " إن لم يكن أخيك في الدين فأخيك في الخلق ", وكذلك احترام حرية الإنسان وعدم التجاوز عليها باعتبارها فطرة إنسانية, كما في قول عمر بن الخطاب( رض): " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟ "!!!!.

أما بالنسبة لمفهوم الوحدة الوطنية فهو يشمل العلاقات بين أبناء الوطن الواحد من المنتمين لمختلف الأديان والطوائف والأعراق, ويتسع هذا المفهوم ليشمل ذوي المذاهب الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية المتباينة من أبناء الوطن الواحد, بصرف النظر عن اتحادهم في الدين أو اختلافهم فيه, أي أن الوطن هو البوتقة التي تحمل كل تنوعات المجتمع, من أديان وطوائف وأعراق واثنيات متنوعة ومختلفة.وقد احتل الوطن والوطنية مكانة خاصة في ثقافات الشعوب عبر التاريخ, كما كانت الأديان السماوية وغير السماوية حافلة بالاعتزاز بالوطن والوطنية, بعيدا عن ارتهان مصيره بدول أجنبية, أو العمالة لصالح جهات غريبة عنه, ولعل في قول النبي محمد(ص) ما يؤكد ضرورة سلامة الوطن بقوله : " الخروج عن الوطن عقوبة " وكذلك في قوله : " حب الوطن من الإيمان ", وفي ثقافات الشعوب الأخرى ما يغني الحديث عن الوطن والإخلاص له, وكما يقول مازيني : " خير للمرء أن يموت في سبيل فكرته من أن يعمر طول الدهر خائنا لوطنه جبانا عن نصرته ".

أن عراق اليوم لا يعيش صحوة دينية كما يحلو للبعض أن يسميها, أو يقحم العراق فيها, أو يعتبرها امتدادا لما يحصل في المنطقة بأسرها, وان قدر الطائفية والفئوية والتعصب لا يمكن تجنبه, بل يمكن في رأي البعض التعايش معه وتأسيس دولة العراق المعاصر والديمقراطي في ظله!!!! . أن العراق يعاني من شرذمة دينية في إطار الدين الواحد, حيث ينتشر باسم الدين الجهل, والخرافة, والهلوسة, وإلغاء حرية الآخرين, والخزعبلات والتواكل والخمول والاعتمادية, أو كما يقول نزار القباني في قصيدته" هوامش على دفتر النكسة" : " نقعد في المساجد تنابل كسالى..نطلب النصر من عنده تعالى ", وهي سلوكيات تكرسها ثقافة دينية تقليدية تتمسك بالقشور وتعتبره جوهر الدين الصحيح, ويجري التصارع والاقتتال على خلفية ما تناقل عن النبي محمد(ص) في قوله : " تفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة, فواحدة في الجنة واثنتين وسبعين في النار ", فالجميع يدعي هو الفرقة الناجية, وما عداها ضلال, ومشمول بالتكفير والتبديع والتفسيق, بل ومهدد بالإلغاء والتصفية الجسدية وتنتظره مزيدا من المفخخات والأحزمة الناسفة والاغتيالات والتصفيات الفردية والجماعية, تلك الممارسات الدينية المتزمتة والمخاتلة, والمتقنعة بالدين, تعمل كل ما في وسعها لتكرس ديمومة إحكام وضرب الطوق على رقاب وعقول وأرواح الجموع" الذين هم في نظر رجال دعاة الدين مجرد عوام" أو رعية, وكما هو مفهوم من " الرعية " في اللغة وفي الممارسة متأتي من تشبيه الشعب أو الجموع بالأغنام, يسوقها الراعي كيف ما يشاء, ولا لديها إلا أن تكون منتكسة الرأس, تبحث عن العشب وفوق رؤوسها عصى الراعي, يحدد اتجاه سيرها شمالا أو جنوبا !!!!.

أن هذه الممارسات اللادينية المستفحلة تعمل بكل ما في وسعها لاستلاب وتزيف وعي الناس, حفاظا على مصالح وامتيازات سدنة الدين والمستفيدين منه. أن الخطاب الديني المشوه والمأزوم يحتفظ بقدرة هائلة على البقاء والحياة والتناسل في ظروف العراق الحالية , مستفيدا من حالة التخلف الشامل في بنيته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وانعدام الوعي وإعادة دورة إنتاج الأمية ببعديها الأبجدي والحضاري, ويتمتع هذا الخطاب بهامش كبير للمناورة والالتفاف, لتكريس سلطة ثقافية ـ تراثية ماضوية, بفعل ديناميكية التنشيط والتأجيج المستمر لنظام الرموز والإشارات والطقوس, التي أضفي عليها هالة من التقديس وأصبحت ضمن منظومة الدين, والتي تتغذى على خلفية الفقر وضعف الأمل وانعدام المستقبل, والتي وصل بها الحد في بعض أوجه ممارساتها إلى التبرك والشرب من بول سيد أو إمام للشفاء من الأمراض المختلفة, بما فيها الصدمة الدماغية وأمراض القلب والسرطان, أو الشرب من ماء تم اختزانه لأكثر من شهور في قنينة بلاستيكية أو زجاجية, تيمنا بالرزق والعافية وطوال العمر, إنها بالتأكيد ليست" صحوة دينية " بل إنها حالات من الموت ألسريري" الاكلينكي" للعقل العراقي!!!!.

لقد استخدمت السياسية الأمريكية الغبية في العراق " وهي صاحبة الباع في التقدم العلمي والتكنولوجي والفكري " سياسة التبضيع والتقطيع لأوصال المجتمع العراقي ونسيجه الفكري عبر مختلف الإجراءات منها: قانون إدارة الدولة, اجتثاث البعث, حل القوات المسلحة العراقية, شكل المنظومة السياسية, الدستور, قانون مكافحة الإرهاب, ودمج الميليشيات في القوات المسلحة...الخ, وكلها إجراءات ميدانية غير مدروسة أسست لحالة الاحتراب الديني والطائفي والعرقي والاثني, وقد تركت الوطن فريسة للاحتراب والارتهان للقوى الدينية والعرقية الداخلية وفريسة لدول الجوار, وقد أسست هذه الممارسات للتعصب الديني الأعمى والغلو في الدين الواحد وبين طوائفه المختلفة واستباحة العنف بين مكونات الدين الواحد وبين الأديان الأخرى, وإثارة النعرة التعصبية الدينية وغير الدينية, وكلها سلوكيات تضعف من مكانة الدين والتدين والوحدة الوطنية, وكأن الأمريكان أسسوا لحالة اهانة الأديان في العراق قاطبة عبر تأسيس حالة الاحتراب وسلوكيات الكراهية الظاهرة والخفية المستديمة بينها, ولن أبالغ حين أقول أن الدين في العراق يعاني من مكانة متدنية في عقول الناس, بل يثير السخرية والضحك بفعل سلوكيات القائمين عليه تحت المظلة الأمريكية !!!!.

أن هذه الممارسات تقف بالضد من مكانة الدين الحقيقية, التي كان بالإمكان لها أن تؤسس لحالة أكثر حضارية مما هو سائد الآن, بل بإمكان هذه الأديان والطوائف أن تساهم في بناء المشروع الحضاري للعراق المعاصر, من خلال استنفار لماهية الخطاب الديني الكلاسيكي المسالم بطبيعته السمحاء, ووضع الدين في مكانته الصحيحة, لا عبر استخدام الدين في إعاقة النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العراق, وشل الحركة والتواصل الاجتماعي بين مكونات المجتمع.

أن الصحوة "الدينية والطائفية" المزعومة أسست لحالة تفكك الوطن والإضرار بالوحدة الوطنية وبالجغرافية العراقية من الشمال إلى الجنوب, فإذا كانت الوحدة الوطنية تعني إهمال الفروق الدينية والذهبية والطائفية والعرقية في التعامل الاجتماعي, فأن العراق السياسي اليوم يؤسس لحالة مستديمة من الاحتراب والكراهية بين طوائف الدين الواحد والأديان والاعراق المختلفة, والأخطر من ذلك بدأت هذه الحالة تحفر في عقول مفكرينا وكتابنا وتدفعهم للدفاع المستميت عن الطائفية والبحث عن مبررات لها, تحت واجهات البحث عن الحقيقة !!! في ظروف عراقية لا تسمح بذلك مطلقا, وخاصة من كتاب الصف الأول في الصحافة الالكترونية, مع كل محبتي لهم عن بعد, ولكنهم يتناسون أن طبيعة النظام السياسي هي التي تؤسس للمصالحة الوطنية والدينية والطائفية والعرقية, أو للاحتراب الوطني والديني, وليست الحفر في التأريخ واستحضار للذاكرة المرضية.

أن العداوات بين الأديان والطوائف والأعراق تخالف ابسط الأعراف الدينية والقيمية في العلاقات الإنسانية, ولعل في القرآن الكريم ما يساعد على تنشيط ذاكرة دعاة الطائفية في الاتجاه المعاكس, كما ورد في سورة الحجرات, الآية 13 " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا وأن أكرمكم عند الله اتقاكم ". إن هذه " الصحوة الدينية والطائفية " المزعومة أسست لحالة التفكك الوطني والإضرار بالمصالح الوطنية عبر بدايات مرضية لخلق جيل لا قيم له, لا يؤمن بالوطن والوطنية ويسخر من الدين ويضحك على المعممين بمختلف ألوان عمائمهم, السوداء منها والبيضاء والخضراء, ويستخدم هذا الجيل الوطن والدين وسائل للابتزاز والسرقة والفساد ومختلف مظاهر التلوث الاجتماعي والأخلاقي !!!.

أن شعبنا يرفض كل الرفض استغلال الدين في غير مكانه الصحيح, ولعل خياراته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة اكبر  مؤشرا على ذلك, حيث انحاز إلى القوائم ذات الطابع العلماني, وان قائمة " دولة القانون " ما كانت تحصد هذه الأصوات لولا تبنيها الخطاب الوطني المعادي للطائفية, ولكن تشبث هذه القائمة برئاسة الوزراء والاستعانة بقوى ميليشياوية للتحالف معها تحت مظلة الضغوطات الخارجية, ما هو إلا مؤشر لانتكاسة الديمقراطية وحقوق الإنسان, وافتقاد المالكي للجرأة للخروج من شرنقة الطائفية, رغم كل مزايا المالكي السابقة في محاربته للمليشيات وبداياته في التأسيس لحالات سياسية صحية, إلا إن الله يكون في عون المالكي, ولكن ماذا كان يحصل للعراق لو تجرأ المالكي في مد يد التحالف إلى القائمة العراقية مع فاعلية الدور الكردي وعدم بقائه متفرجا على الأحداث, بعيدا عن فوبيا البعث !!!! .

أن عودة المالكي إلى المربع الأول تثير شكوك كثيرة على شجاعته ومقدرته في التحكم بزمام الأمور القادمة, وعلى شخصه بالذات, ولعله هو وحلفائه الجدد لا يكونوا مقيدين" بالدستور الإيراني " الذي يحصر الرئاسة بأتباع المذهب الجعفري باختلاف سلوكياتهم, وعندها يكون التأسيس لعراق طائفي أمر لا محال منه ولا يحتاج إلى مزيدا من العناء والاجتهاد للكشف عن طبيعته, وهو اتجاه لحصر الحكم في نطاق البيت الشيعي بعيدا عن نتائج صناديق الاقتراع !!!!.

  كتب بتأريخ :  السبت 09-10-2010     عدد القراء :  2163       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced