ذهنية تحريم بابلية !
بقلم : رضا الظاهر
العودة الى صفحة المقالات

كان من الطبيعي أن يكون الفشل الذريع نصيب "مهرجان بابل"، الذي دام ثلاثة أيام حسب، واختتم يوم الرابع من الشهر الحالي بعد مقاطعة واسعة احتجاجاً على إلغاء المتنفذين في مجلس محافظة بابل الحفلات الموسيقية والغنائية بدعوى "الطابع الاسلامي" للمدينة، وهو الطابع الذي اكتشفه القيّمون على المجلس، مؤخراً، على ما يبدو !



وعلى الرغم من أن المحافظ برر فشل المهرجان بعدم وجود تنسيق بين مجلس المحافظة ووزارة الثقافة بخصوص برنامج المهرجان، فان المطلعين يعرفون أن أسباب الفشل تتمثل، من بين أمور أخرى، في منع الموسيقى والغناء بما يعد خرقاً فاضحاً للدستور الذي ضمن الحريات الفردية والشخصية، وفي فرض قرار مجلس المحافظة على الأطراف الأخرى والمجتمع بأسره، في ظل أجواء الصراعات السياسية والاجتماعية، والفوضى التي تسم وضع وزارة الثقافة وعلاقتها بالجهات المختلفة. ومما يثير السخرية أن وزارة الثقافة أكدت أنها تحترم رأي مجلس محافظة بابل بإلغاء الفعاليات الموسيقية والثقافية، باعتباره رأيا مبرراً !

ولا ريب أن من بين أسباب الفشل إعلان اتحاد أدباء وكتاب بابل مقاطعته للمهرجان، وإلغاء وزارة الثقافة في اقليم كردستان مشاركة وفدها الفني في المهرجان.

ومن نافل القول إن قرار مجلس محافظة بابل تكريس للتراجع والانحدار الثقافي والردة الظلامية التي يحاول بعض من سدنة ثقافة التخلف فرضها على الملايين، حتى يسخروا الدين لأغراضهم المفضوحة في توفير الشروط التي تضمن لهذا البعض فرص الاستحواذ والمغانم. أما مسعاهم المشبوه هذا فلا علاقة له بأصول الاسلام الحقيقي إلا بقدر علاقة الذئب بدم ابن يعقوب !

وأما الثقافة فتأتي، بالنسبة لهؤلاء وأمثالهم، في آخر السلم، ذلك أن المتنفذين، وسائر الساعين الى تأبيد الثقافة السائدة، يخشون من شبح الثقافة الحقيقية، بل وينظرون اليها نظرة دونية، شأن نظرتهم الى المرأة باعتبارها عورة، مجسدين بذلك ذهنية التحريم المقيتة.

غير أن من حق المرء أن يتساءل: هل شحت مصائب الحلة حتى يتنادى حكامها من أجل مصيبة جديدة تحل بها !؟

ربما ذكرتنا محنة الحلة بمحنة شقيقتها البصرة يوم حاول الأوصياء هناك منع الموسيقى والغناء والسفرات الطلابية والاختلاط، وسوى ذلك من مظاهر الحياة الطبيعية، وبسبب "الطابع الاسلامي" أيضاً، وهذه ذريعة قديمة استخدمها مهندس المقابر الجماعية نفسه في حملاته "الإيمانية" سيئة الصيت.

والحلة، التي شيدها سيف الدولة صدقة بن مزيد الأسدي، حسب ياقوت الحموي في معجم البلدان، فصارت من أجمل مدن العراق في زمانه، ظلت مدينة للعلم والثقافة والنور منذئذ.

أيريد القيّمون على مجلس محافظة بابل أن نذكّرهم بشاعر الحلة الشهير صفي الدين الحلي، وبحثه في الزجل، وهو من فنون الشعر الذي يصاحبه عزف موسيقي ؟ أيريدون أن نذكرهم ببعض صفحات الفكر النيّر لعلماء الحلة الفيحاء ابتداء بالعلامة المحقق الحلي وليس انتهاء بنصير السلم المرموق الشيخ عبد الكريم الماشطة، وقد كانوا نموذجاً في الانفتاح الفكري والتسامح ؟

يعرف كل ذي عقل منصف أن ليس هناك في الدين ما يحرم الموسيقى. وقد جاءت هذه التحريمات على يد فقهاء تباينوا في التفسير واختلفوا في الرأي. وحتى أغلب من حرموا الموسيقى والغناء إنما حرموا ما يصاحبهما، أحياناً، من أفعال غير لائقة يرتكبها بعض ممارسي الغناء أو المستمعين اليه.

ومن ناحية أخرى فان العراقيين، وشرائعهم الاسلامية والاجتماعية، وقوانين دولتهم الحديثة منذ تأسيسها أوائل عشرينات القرن الماضي، لم يعهدوا مثل هذه التحريمات في البلاد التي ظلت، منذ آلاف السنين، موطناً لانفتاح الفكر وازدهار الفن وشيوع التسامح.

ويبدو أن أوصياء مجلس محافظة بابل لم يسمعوا بأن أول من صنع واستخدم القيثارة، وهي من أقدم الآلات الموسيقية في التاريخ، هم السومريون قبل أربعة آلاف عام.

ولعلهم لا يعلمون، أيضاً، أنه كانت لدى أسلافهم البابليين آلات طرب كثيرة: ناي وطبول وقرون ومزامير من القصب وأبواق وصنوج ودفوف، كما يذكر ديورانت في (قصة الحضارة). وكانت لهم فرق فنية ومغنون، وفي المعابد كانت هناك كاهنات مغنيات وعازفات في جوقة المعبد الموسيقية، وغرف خاصة تعلم فيها الكاهنات الموسيقى للفتيات الراغبات في احترافها.

ولا ريب أنهم لم يعرفوا بأمر تلك الألواح التي أشارت الى أن ليبوش ياد، حفيدة نارام سين، كانت عازفة على القيثارة.

* * *

معروف أن نساء الأنصار في يثرب كن قد استقبلن الرسول الكريم عند وصوله المدينة المنورة يوم الهجرة بالدفوف والطبول وهن ينشدن:

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

أما مثقفو الحلة وأهل تنويرها فلن يوقف أيُّ عائق احتجاجهم على "ذهنية التحريم البابلية".

و .. "بلّغي الأحباب يا ريح الصبا عني السلاما" .. كما قال صفي الدين الحلي.

بلاد الشمس عصية على الظلام، حتى وإن طغى الاستبداد وأوصياء ثقافته وسدنة فكره .. ونساء ورجال هذه البلاد سيضيئون احتجاجاً وأملاً مثل نور بلادهم الذي انطلق من بابل ليشع على بني البشر، ويبقي أرواحهم متقدة بجمرات المسير الى الحرية والابداع والحياة ..

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 12-10-2010     عدد القراء :  2037       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced