وممَّ تخاف صِلال الفلا !
بقلم : رضا الظاهر
العودة الى صفحة المقالات

يبدو أن قصص هذه البلاد، التي ابتليت بمحن قل نظيرها، قصص لا تنتهي، حتى لكأن شهرزاد تشعر بالحرج من كلامها المباح إزاء ما يفعله متنفذون متنعمون أمام أنظار ملايين من المحرومين دون حياء، أو خلف الكواليس وهو الأعظم. والله وحده يعلم متى سيكف هؤلاء المتنفذون عن نمط تفكيرهم وسلوكهم، هذا اذا قُدِّر لهم أن يكفوا.

ويرتاب عقلاء كثر في أن يتخلى متنفذون عما ابتلتهم الحياة به من انحدار نحو هاوية اللهاث وراء المال والجاه والمغانم. ويتساءل بعض المنصفين عما اذا كان لدى المتنفذين عقل يجعلهم يفكرون بما آلت اليه أوضاع البلاد من نوائب بسبب نهج المحاصصات الطائفية والاثنية الذي ابتكره "المحررون" وأرغموا "المقررين" على السير فيه، أو أقنعوهم بأنه السبيل الوحيد لانقاذ هذه البلاد الخارجة من ظلام استبداد مهندس المقابر الجماعية وخراب حروبه الى "نور الفوضى" التي مازالت سائدة في الحياة السياسية والاجتماعية منذ "التحرير"، وقد دخل عامه الثامن وسط المزيد من الصراع السياسي المحتدم على السلطة والنفوذ والامتيازات. وهو الصراع الذي تدشن عواقبه الوخيمة حلقة مريرة جديدة من الدخول في نفق لا تلوح له نهاية، وإن لاحت فبدون نور أمل، وبالتالي فان الحصيلة هي المزيد من الخراب المادي والروحي، وسط مزيد من الفضائح المخزية.

فقد تجسدت فضيحة أخيرة، كما تعلمون، في منع الموسيقى والغناء في مهرجان بابل، الذي كشف عن بؤسه تضامن المثقفين المبدعين ممن تنادوا للدفاع عن الحقيقة والقيم الفنية الرفيعة، وهو التضامن الذي ارتبط بمقاطعة مبدعي الثقافة الحقيقيين لهذا المهرجان، فأدى الى إفشال هذه الممارسة التي تصب في خانة تزييف الوعي.

أما آخر الفضائح فقد تجسدت في عدم دعم مهرجان الجواهري، وهي فضيحة لن تكون الأخيرة بالطبع مادامت وزارة الثقافة، التي يزدريها غير قليل من السياسيين المتنفذين، خاضعة، شأن غيرها من الوزارات والمناصب، الى منهجية المحاصصات.

والحق أنه ليس جديداً أن تستمر وزارة الثقافة على تنصلها من مهرجان الجواهري، فهذا ليس أول تنصل من فعالية ثقافية مرموقة، ولن يكون الأخير، ذلك أن هذه الوزارة البائسة، والبعيدة عن الثقافة الحقيقية بعد السماء عن الأرض، دأبت على مثل هذه السياسات المقيتة التي تنم عن استهانة بالثقافة والفكر والذاكرة العراقية.

ويعكس هذا السلوك المشين، من بين أمور أخرى، جهل وزارة الثقافة بضرورة مثل هذه الفعاليات، وأهمية الدور الذي تمارسه الثقافة وينهض به المثقفون في الحياة السياسية والاجتماعية، وفي نشر الوعي الفكري والجمالي عبر الابداعات الأدبية والفنية.

ومما يثير الأسى أن هذه الوزارة تعجز عن تقدير اسم ومنجزات وتاريخ الشاعر العراقي، بل والعربي الأعظم في العصر الحديث، الجواهري الكبير، وهو الشاعر الذي أضاء الواقع المرير وصور معاناة المحرومين وفضح الحكام الجائرين وهزّ الأجيال وسار مع الجموع وآمالها، متحدياً الاستبداد والمستبدين، ومبشراً بالنور والأمل.

ولسنا هنا في معرض الحديث عن الجواهري أو تقييمه، اذ يعرف كل مثقف ومنصف أية صفحات مفعمة بالعذوبة وروح الاقتحام والأسى والرجاء والقيم الانسانية والجمالية الرفيعة خطها يراع أبي فرات، وصدح بها صوته الغَرِد.

الجهة الوحيدة التي تجهل هذه الحقائق الساطعة، لأنها مصابة بالعمى، هي وزارة الثقافة، وبالذات المتنفذون فيها، ممن يحرّمون الموسيقى، ويزدرون الثقافة، ويخشون التنوير.

غير أنه مما يبعث على الأمل أن كوكبة من رافعي رايات التحدي والاصرار على الدفاع عن الابداع الأصيل، ممثلين في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، قدموا، بمواصلتهم تنظيم مهرجان الجواهري، رغم المصاعب الفنية وشحة الموارد المالية، مثالاً على ما يمكن أن يفعله المثقفون الحقيقيون اذا ما تمسكوا بقيم الثقافة التقدمية وقاوموا ثقافة الابتذال والتخلف.

لعل من النافع أن نذكّر اللاهثات واللاهثين وراء الأضواء، وطلاب المآدب وفئران الفنادق، والنصابين ووسطاء التسويق الثقافي، الرادحات والرادحين في كرنفالات الثقافة الزائفة، ممن دأبوا على إشاعة نمط من ثقافة التكسب والتزلف، ودخلوا في لعبة ازدراء العقل التي يوجهها أهل السلطة قصد الحفاظ على امتيازاتهم، لعل من النافع أن نذكّرهم بما جاء في (تحف العقول) عن الرسول الكريم أنه قال: "إنما يدرَك الخير كله بالعقل ولا دين لمن لا عقل له".

* * *

سيظل في هذه البلاد، وربما الى زمن ليس بقريب، مثقفون انتهازيون مبتذلون وحكام يزدرون الثقافة ويعادونها لأنهم جهلة، وفيهم يصح قول على بن أبي طالب "من جهل شيئاً عاداه" كما ورد في (البيان والتبيين)، وهذه واحدة من محن البلاد المنكوبة.

وهؤلاء، الذين لا يجيدون سوى تأبيد الثقافة السائدة لجني المزيد من المغانم الامتيازات، هم الذين يسعون الى إشاعة أجواء الخشية والاحباط بين المثقفين حتى يصادروا دورهم التنويري، ويحولوهم الى مجرد خانعين لسلطة المال وثقافة الابتذال.

ما تخلى مثقفو هذه البلاد ومبدعوها المكافحون، يوماً، عن جوهر وجودهم الأخلاقي والجمالي .. وما خافوا من سيوف أو سياط .. وممَّ تخاف صِلال الفلا، كما قال الجواهري الكبير !

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 19-10-2010     عدد القراء :  2016       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced