مقاربات سيكولوجية على خلفية تسريبات موقع ويكيليكس
بقلم : د.عامر صالح
العودة الى صفحة المقالات

" الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن نسند إليه قيمة مطلقة هي الكرامة "
                                                                              كانت
أثارت تسريبات موقع ويكيليكس الالكتروني لأكثر من 400 ألف وثيقة المزيد من الذعر والاستغراب والتداعيات المختلفة, والتي كشفت عن حجم الانتهاكات الصارخة والمشينة لحقوق الإنسان في العراق في الفترة الواقعة ما بعد احتلاله في التاسع من ابريل عام 2003, وبشكل خاص للفترة الواقعة ما بين مطلع 2004 ونهاية العام الماضي 2009 , وقد ضمت هذه الوثائق معلومات موثقة تحمل الجهات الأمريكية والجهات العراقية الرسمية والشركات الأمنية والفصائل السياسية المليشياوية بمختلف مشاربها بما جرى ويجري للعراق وشعبه من مأساة وقتل وتعذيب بأبشع صوره واستباحة للدم العراقي الذي أصبح ارخص مما كان رخيصا في عقود الدكتاتوريات السابقة !!!!.

وقد تراوحت ردود أفعال الكتاب والصحفيين والسياسيين بين منذهل ومستغرب, وبين مكذب لهذه الوثائق باعتبارها مسودات بخط اليد لا تمتلك مصداقية, وكعادة الثقافة الانقلابية حيث التشكيك بكل شيء عندما يتعلق الأمر بمزاج سياسي أو نزوع شخصي ما بعيدا عن مأساة شعب !!!!, وبين داعين لتشكيل محاكم دولية متخصصة للنظر بالاختراقات والانتهاكات الحاصلة لحقوق الإنسان, باعتبار أن ما حصل استنادا إلى الوثائق هو جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة وجرائم حرب تقع مسؤوليتها على عاتق الاحتلال الأمريكي والبريطاني وعلى الحكومات العراقية المتعاقبة وأجهزتها الرسمية المعلنة وغير الرسمية الخفية والتي تعمل في الظل !!!!.

أن البعد القضائي والقانوني يجب أن يأخذ مجراه حرصا على العدالة ومستقبل الديمقراطية في هذه البلاد, وان محاسبة المجرمين وامتثالهم أمام العدالة هو اقل ما يطالب به شعبنا لإنزال العقاب بجلاديه ولتفادي كوارث قادمة سيكون وقعها أكثر بكثير من وقع جرائم النظام السابق وانتهاكاته لحقوق الانسان !!!!.

إني هنا ابتعد عن السياسة نسبيا في تفسيري للحوادث واقترب من التفسير النفسي للتأريخ لاستقراء ما يحصل لشعبنا من كوارث, والتي هي بمحصلتها النهائية نتاج لتراكمات الفعل السياسي عبر عقود من الاستعباد ومخلفاتها في وعي ولا وعي المواطن العراقي. أن علماء النفس يتفقون أن للإنسان  جانبا ظاهريا من السلوك يحكمه العقل الواعي, وهذا الجانب قد يبدو غريبا أو متناقضا أو غير مفهوم إذا نظرنا إليه وحده مقطوع الصلة عن جذوره الكامنة في ما يسمى في العقل الباطن" اللاشعور " ذلك العقل الباطن الذي اختزنت فيه الذكريات والأماني والرغبات والمخاوف والمعاناة والدوافع والحاجات وخاصة غير المشبعة فشكلت قوة مستترة ولكنها هائلة التأثير على السلوك الظاهر للفرد, ولم يقتصر الأمر على الفرد الواحد بمفرده بل يمتد ليشمل الجماعة فثمة ما يطلق عليه العقل الباطن الجمعي" اللاشعور الجمعي " والذي وضعه عالم النفس كارل يونج, وهو يحوي أرشيفا لتأريخ الأمم والجماعات يؤثر بوعي أو بدون وعي في طرق تفكيرها ووجدانها وسلوكياتها, وبدون هذه المنطقة الكامنة في أعماق النفس وغير المتاحة لنا في الأحوال العادية يصعب فهم الكثير من سلوكيات البشر أفرادا وجماعات.وان هذه القراءة النفسية تسمح لنا ليست فقط في تفسير ما حصل, ولكن بما سيحصل استنادا إلى التركيبة النفسية والديناميات النفسية التي تساعدنا على توقع سلوك معين من شخص معين أو جماعة معينة أو حزب سياسي أو طائفة ما !!!.

لقد وقع العراق ولعقود ضمن دائرة القمع المستديم من قبل نظم سياسية شوفينية ودكتاتورية وفردية مارست التميز بشتى مظاهره مما عرض المنظومة القيمية والنسيج الاجتماعي إلى مخاطر التفكك الاجتماعي والانهيار الأخلاقي والاستخفاف بحياة الناس, حيث أصبح فيه اعتقال المواطن العراقي وتعذيبه وتهجيره وقتله وسبيه ضمن المسلمات والسياقات المعتادة في التعامل.وخلال هذه العقود من الظلم والاستلاب, وعلى الرغم من وجود فسحة " الجماهير المعارضة " إلا إننا لا نغفل حقيقة إن هناك اندماجا حصل ما بين " الجماهير " والسلطة الظالمة بفعل تواصل وديمومة القمع, وأصبحت " الجماهير " تمثل أخلاق السلطة الحاكمة, بل وتشيع ممارساتها على نطاق واسع في صفوف الشعب, مما سهل تبادل الأدوار بين الدكتاتورية كنظام وبين الشعب كمظلوم, أن تكون" الجماهير " في بعض محطاتها ظالما ودكتاتوريا وخاصة مع الشرائح الاجتماعية المهمشة والمحرومة والبعيدة عن مراكز القرار, وخاصة عندما تكون " الجماهير " تحت وطأة سلطة غير شرعية أو مستبدة, حين إذ تسود ديناميات مرضية مثل الكذب والخداع والنفاق والعدوان واللامبالاة, عندها ترخص أرواح الناس ويكون القتل تتمة لذلك, وبالمقابل تتعامل السلطة الجائرة مع الجماهير بازدراء وشك وتوجس, وترى أنها غير جديرة بالاحترام وبالتحاور والتشاور والممارسة الديمقراطية في تبادل الآراء!!!.

وفي لحظات انهيار هذه النظم سواء بعوامل داخلية أو خارجية فأن مكنونات الكبت وما يصاحبها من عدوان تطفح بما لا حدود له وغير محسوبة بالحسبان وتطال "جماهير " واسعة وأحزابا كانت بالأمس تدعي المظلومية تتحول بسهولة إلى ظالمة من خلال ردود الفعل العنيفة وممارستها لنماذج أساليب القمع والتعذيب وخبرات اللاوعي ذات الجاهزية للاستحضار والمستمدة من ثقافة النظم القمعية السابقة, وتكمن خطورة ذلك عندما تمارس هذه الأساليب من قبل أحزاب ذات القناعة الهشة بالديمقراطية السياسية في محاولة منها للانفراد بالحكم وتأسيس" ديمقراطية " خاصة بها, عبر تعبئة "جماهيرها " وتجيشهم من خلال ثقافة الحشد الخطيرة وسلوكيات القطيع الجماعي !!!!.

ولعل المفكر الفرنسي " غوستاف لوبون 1841 ـ 1921 " مؤسس " علم فلسفة الجماهير " وفي كتابه " سيكولوجيا الجماهير " والذي صدرت طبعته الثانية عن دار الساقي في العام1997 والذي قام بترجمته والتقديم له الأستاذ هاشم صالح, يترك لنا انطباعا أوليا مهما في تفسير بعض تداعيات الحالة العراقية, بما فيها من عنف وكراهية وبغضاء وقتل, من خلال الخطابات الدينية والسياسية المهيجة للانفعالات والتي تعبئ" الجماهير " كثور هائج لا يعرف عواقب أفعاله. صحيح أن هناك أدورا مشرفة للجماهير عبر التأريخ من خلال التضحيات الجسام من اجل قضايا وطنية كبرى, كالاستقلال وانجاز السيادة الوطنية وخلق نظم عالمية ديمقراطية شامخة, إلا أن هناك وجه آخر " للجماهير " اتسم بالقنوط والسلبية لجهة قوى الاستبداد والقوى الظلامية وساهمت بوصول نظم وإيديولوجيات فاشية إلى الحكم عبر تزكيتها ومنحها أصواتها.

وهكذا فأن الوجه الآخر" للجماهير " وهو ذو الطابع السلبي والمخيف وكما يتصوره المفكر غوستاف لوبون, حيث يرى أن هناك  "روحا للجماهير " تتكون من الانفعالات البدائية التي تتشكل عبر العقائد الإيمانية والأفكار المتحجرة, مما يجعلها بعيدة عن التفكير العقلاني والمنطقي, ويستطيع الفرد المنخرط في الجمهور أن يقوم بأعمال استثنائية بما فيها القتل وارتكاب الجرائم, والتي لا يستطيع القيام بها إن كان بمفرده, ومن خصائص " الجمهور " سرعة الانفعال الشديد, حيث يقوده اللاوعي كليا تقريبا فهو عبدا للتحريضات التي يتلقاها من الزعيم أو القائد الديني, وهي سهلة الانقياد إن وجدت من يحسن العزف على أوتارها ويخيفها ويمتدحها في نفس الوقت, ويؤكد غوستاف لوبون أن  " الجماهير " لا تعقل, فهي ترفض الأفكار أو تقبلها كلا واحدا, من دون أن تتحمل نقاشها, فما يقوله لها الزعماء يغزو عقلها سريعا فتتجه إلى أن تحوله حركة وعمل, لا يهم أن تكذب على" الجمهور " لأنه لا يطلب الحقيقة أصلا, أن المهم أن تعرف كيف تحرك هذا الوحش الرهيب لتحقيق أهدافك السياسية !!!!.

أن تكاتف الظالم والمظلوم أو استفادة المظلوم من ارث وثقافة الظالم في طرائق تعبئة الناس وزجهم في معارك طاحنة على خلفية خطاب ديني مشوه أو خطاب سياسي منفعل وكاذب يفسر الكثير من محتويات ونصوص الوثائق التي قام بتسريبها موقع ويكيليكس الالكتروني, وان كانت في مجملها لا تعني شيء جديد, حيث حصلت الإحداث على ارض العراق وعايشها الناس وهم وقود لها سواء ما ارتكب منها من الجانب الأمريكي أو العراقي بكل تفصيلاته, إلا أن ما يثير الدهشة هو البعد ألتوثيقي ـ الأرشيفي وخاصة عندما تقرأ الوثائق دفعة واحدة, حيث تستحضر ذاكرة القارئ مجددا حجم المأساة و بشاعة القتل والإرهاب والمعاناة التي حصلت وتحصل لهذا الشعب !!!!.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 03-11-2010     عدد القراء :  2031       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced