مارياقو لا تحزن..سيبزغ الفجر
بقلم : امير امين
العودة الى صفحة المقالات

في صباح جميل مشمس وزهور الربيع الحمراء الفاتنة تغطي السفوح والمنحدرات..كانت المفرزة الإنصارية القتالية التابعة لقاطع بهدينان تحث الخطى بحثاً عن مكان أمين للإستراحة بعد عناء طويل من السهر والتعب والإجهاد...سرنا عل مشارف قرية متناثرة البيوت من قرى كردستان الوديعة...مشينا بضعة ساعات بخط سير طويل تتخلله المسافات المحددة بين نصير وآخر تلافياً للخسائر التي قد تنجم فيما لو وقعت المفرزة في كمين غادر على الرغم من ندرة حصول ذلك في النهار لكنها التعليمات التي نطبقها بصرامة للحفاظ على حياتنا وبينما كنت معهم أحث الخطى حاملاً على ظهري العليجة التي تضم بعضاً من محتوياتي الشخصية والقليل من الغذاء..ندسني أحد الأنصار بينما كان يؤشر لصرح متهاوي : أنظر رفيق..إنها على ما يبدو كنيسة !!! إقتربنا قليلاً منها وتطلعت بإمعان ليقع نظري في بداية الأمر على شجرتي الميلاد الباسقتين اللتين إنتصبتا بشموخ وزهو أمام باب الكنيسة بينما ترفرف أجنحتهما المتطايرة من علو ! ..ثم تابعنا السير ومعالم الكنيسة صارت تتضح أكثر فأكثر أمام عيوننا المتعبة..توقفنا قريباً منها وقررنا الإستراحة في هذا المكان الأنيس والذي يقع قرب عين الماء التي تمر بجانبها بصفاء وعذوبة تسبح فيها عدد من الأسماك الصغيرة بحذر وتقافز....أنجزت ما كان عليّ من واجب يخص تهيئة الفطور وإيقاد النار ووضع عدد من الزمزميات النحاسية بين جوانبها لعمل شاي الصباح اللذيذ..فيما إنشغل بعض الرفاق الأنصار بجمع المزيد من الحطب وتلقيم النار ما تحتاج اليه لزيادة شدتها ورونقها المتدفق الى الأعلى وعلى الجوانب ليزرع الدفء في نفوسنا والذي يعطي للإستراحة جمال السمر وروح النكتة لدى عدد من الأنصار مما يساهم في التخفيف من آلام المسير اليومي المتعب..تركتهم لحظة منهمكون في التسامر وتحضير الخبز وأقداح الشاي في الوقت الذي إنسللت منهم بغتة لكي أتفحص المكان بهدوء وروية..شيء مفزع حقاً !! ..كانت أشلاء البيوت الممزقة التي تنتشر عل الجبل ممتدة من القمة حتى نهاية السفح الى الوادي وعلى الجهة اليسرى لاحت ملامح مقبرة تبدو أنها قد صممت لتستقر فوق تلة صغيرة في الوقت الذي إنتصب فيه صليب واضح المعالم فوق قبة صغيرة وكانت تحيط به القبور من كل جانب..جرني جلال المنظر وروعته الى أن أنسى وجبة الفطور ولم أعد أبالي بالجوع فقررت التقدم أكثر والدخول الى الكنيسة ومعرفة معالمها وخفاياها..دخلت أولاً قاعتها الكبرى فإمتلأ أنفي برائحة بقايا الأغنام التي إتخذت منها مأوى تركن اليه مع مالكها حينما يهدها التعب وتصل الى حالة من الإعياء فتستريح هنا لبضعة سويعات ثم تواصل رحلتها للبحث عن الكلأ والماء...تقدمت أكثر وواصلت سيري بشيء من الدهشة والفضول نازلاً في ممر يفضي الى مكان يبدو عليه أنه مركز التعبد الديني أو المحراب وكان واسعاً ويا لروعة ما شاهدت..!! كأن الجدران تحكي للزائرين قصة أهل هذه القرية وكنيستهم المعدومة والمبادة والتي كانت الريح تعصف بأشلائها المتناثرة..كان كل حجر ينطق بذكرى أفلت بعد أن كانت نابضة بالحياة لشخوص معينين ومن الجنسين قبل سنين قليلة خلت كانوا يعيشون هنا عيشة رغيدة وهم بكامل العافية يملأهم الحب وتغمرهم العزيمة على تقاسم همومهم وأفراحهم بشكل متساوي..إلتفت يمنة لكي أقرأ ما كتبته إحدى الفتيات المنكوبات حزناً ومرارة : يا ربي أتوسل اليك بأن ترجع ماضي مارياقو كما كان من قبل..!! وتختمها بإسمها بعد أن عصرت قلبها الذي أوشك على السقوط من بين أضلاعها وهي تخط أمنيتها الوحيدة..وكانت شابة أخرى تكتب لحبيب غاب منذ زمن خلى ويبدو أنها لا تعرف عنوانه أو هل بقي للآن على قيد الحياة على الرغم من أنها لازالت تعيش على الأمل في عودته سالماً معافى ! وتخط على الحائط كلمات حيرى تقول فيها : آه عمري..حياتي ..حبيبي ..عد لنجدد اللقاء .! وتختمها ب ذكرى أول حب لي !! كتابات كثيرة وبألوان مختلفة وعدد منها كان بلا ترتيب وقد خط على عجل..وبقايا الشموع الملونة التي إحترقت كلها أو أجزاءً منها بالقرب من النوافذ المتعددة التي كانت تحيط بالمكان المقدس وبين زوايا الجدران...آثار أيام سعيدة وممتعة عاشها أناس يحملون من الطيبة والصدق والوفاء لقريتهم الشيء الكثير قبل أن يحرقها الجيش العراقي بطائراته السمتية..إلتقطت حجراً صغيراً ومدبباً وشرعت أكتب بضعة سطور جنب كتاباتهم وكأني منهم -علماً أن دمائي منهم -كتبت شعارات جئت بها من نفسي كانت تمتلأ بعزم الأنصار الشيوعيين على إعادة الحياة لهذه القرية وكنيستها الرائعة وللمئات مثلها بل الآلاف التي تم تدميرها في عموم أرض كردستان الفاتنة حينما تحين ساعة الخلاص من شرور الديكتاتورية وحكمها المقيت..ولما قررت الخروج وتناول فطوري مع رفاقي إصطدمت بقذيفة صدئة وشاهدت خوذة فولاذية كانت مرمية على جانب الباب الصغير..بقيت هكذا كشاهد إثبات لجريمة نفذت ضد أناس بسطاء ..مدنيين عزل..ودمرت معالم قريتهم المسيحية وكنيستها الجميلة ومعها حطمت أحلامهم وجعلتهم كعصف مأكول..ضاعوا وتشتتوا في عدة أماكن نادراً ما يعرف أحدهم أين هو الآخر !..بصقت على الخوذة بحقد ولما وصلت الى رفاقي وهم لا يبعدون كثيراً عني ..كنت منهكاً وحزيناً..كانوا يتوسطون النار ويحتسون أكواب الشاي وقد ضنوا أني في واجب الحراسة النهارية..قصصت عليهم ما شاهدت وقفز بعضهم فوراً لمشاهدة المكان وكانت صدمتهم بالطبع عظيمة.. ثم واصلنا السير لساعات عدة نحو مكان آخر ونحن نودع عين الماء التي تركناها تجود بنفسها لتسقي أشجار الزيتون التي كان الأهالي قد زرعوها قريباً منها وودعنا شجرتي عيد الميلاد واللتان حرم عليهما الإبتهاج بفرحة العيد ومنذ سنوات مع بنات وأبناء قريتهما فبقيتا واقفتين بحزن وكبرياء أمام باب الكنيسة دون حراك.إلاّ من حفيف الورق ..

ملاحظة: كتبت هذه الأسطر الحقيقية في آذار 1981 حينما كنت في مفرزة في دشت الدوسكي القريب من ناحية سميل التابعة لدهوك وقد خرب الجنود القرية بوحشية وهي قرية مسيحية فلم يبقى منها شيء سوى أطلال دير مارياقو وعين الماء العذبة وشجرتين باسقتين تنتصبان أمام الباب...ويبدو أن عدداً من الأهالي كانوا يزورون المكان المدمر ويوقدون الشموع ويكتبون امنياتهم وذكرياتهم الحزينة..أمنيتي الآن أن يكون المكان قد تم إصلاحه وبأفضل مما كان لكي يزوره الأنصار كافة ويعود ناسه اليه من جديد..أتمنى ذلك من كل قلبي..

  كتب بتأريخ :  السبت 29-01-2011     عدد القراء :  1914       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced