الحلـــــــــــــــة...يا حلوتـــــــــــــــي
بقلم : فيحاء السامرائي
العودة الى صفحة المقالات

أعشقها...كلما ابتعدت عنها تتغلغل بقوة في شقوق ذاكرة أعجز عن رتقها...لم أعرف في حياتي حلاوة أيام كما عرفتها وأنا بها ومعها وفيها...حملتها معي في شغاف الروح، رؤوفة ومعطاء بسخاء، ترشّني بشذا تفاصيلها، وأنا أطوف أراض غريبة ونائية، في جدب لأيام تحولت الى أشواك.
بعد أكثر من عشرين عام جئت اليها...عشرون آهٍ وحنين وفراق دون وفاق مع زمن ركلني خارجها قسراً...مازال نهرها الهادئ يغفو بين كفّيها الوديعتين، ويصحو على أبواب تاريخ عريق على مقربة من قلبها، وذاك السوق القديم، تغيّر، وشاخت ملامحه، وتحدّث بتشويه لا أصالة فيه...
يستيقظ الناس في الصباحات الندية باسمين، مشمَرين عن سواعدهم طلبا للرزق:
- يافتاح يارزاق يا مقسم الأرزاق ،توكلنا عليك يا الله.
يقولها -أبو زرّة- وهو يرفع - كبنك - دكانه و يرتب أكوام رز ودقيق وفاصوليا يابسة في زنابيلها، ويحيَ جاره -عبد الحسين، وعامل المقهى أمامهما يقوم برش الماء بحركة خفيفة من طاسة كبيرة أمام مقهى، تزيّنه صورة- بنت المعيدي - الجميلة، ويروح  يشغَل الراديو فتصدح  عفيفة اسكندر بصوتها الأليف: صباحك نور محبوبي صباحك... وتأخذ قرويات، يبعن - مثارد- قيمر ولبن متخثر، مكان لهن عند ناصية السوق، على مقربة من دكان (كوشي) بائع الحلويات اللذيذة من حلقوم ونوكًة وحامض حلو وأصابع العروس، سكاكر رافلة بألوان كأحلام الطفولة، لايكلّ ذباب من تحويمه فوقها، ليقوم صاحب الدكان بنشّهه لاعناً.
يمسك - سيد ياسر-  (طول) من البوبلين، يفتح طياته  ويقيسه بذراع حديدي، يقص منه بمهارة قطعة قماش، يلفها ويناولها لأعرابي قادم من القرية للتسوق، يخبؤها هذا في خرجه انتظاراً لـ
- كشخة- عيد على الأبواب، وفي الزقاق الآخر ينهمك (جواد الجرّاخ) على حجلة خشبية تساعد أطفالا على تعلم المشي، يصقلها بسمبادج وقطعة قماش ناعمة، و يربط ابن التتنجي حزم سجائر المزبن حسب العدد، ويدَك كل حزمة على الطاولة لتنتظم بالتالي، وتنتشر في الهواء رائحة متميزة لتبغ شائع، تقترن برائحة والدي...ويبقى القروي محتاراً في اختيار-الخردة فروش- الذي يقتني منه أزراراً لردائه، بين (كاظم الأقجم) و(محمد أعور) أو (أبو حديبة)، كلها دكاكين تتكدس فيها دانتيلا بألوان وأشكال متنوعة، ومناديل مطرّزة ومخيّطة، وخيوط  حريرية وصوفية وقطنية، وأزراراً بأحجام متباينة...ويذهب القروي بعد مشوار التبضع، الى (علي فلومي)، ليبرد ريقه بطاسة من - دوندرمة - ومثلجات، تطفيء لهب الحر. 
وفي الأزقة والدرابين الخلفية، تنهمك النساء في البيوت بخبز عجين مختمر و- تقميع - بامية وعصر طماطة وتنقية رز في صينية وكنس باحة الدار وإرضاع أطفال ونشر ملابس مغسولة على حبال الأسطح، ويتحادثن من هناك مع جارات لهن...
تغيرت معالم البيوت والشوارع وفي الخصوص شارع المكتبات، اختفت أغلب مكتباته، وتحول الباقي منها الى محلات لبيع قرطاسية ولعب أطفال...انتشرت محلات جديدة بمنتجات حديثة، واكتض المكان ببضائع أجنبية، بطانيات جوار عربات سمك وخيار وطماطة، وفرشات لصحف عديدة لا يمكن رصد أسمائها، جوار بضاعة ايرانية وتركية وسورية... تسير نسوة متحجبات، تتحدث بعضهن بموبايلات حديثة وبصوت عال...تتناثر في بسطيات على الأرض، بضاعة أمريكية يبيعها جيش الاحتلال الى من لا يعرف ما فيها، وهؤلاء الى متسوقين لا يعرفون ما هي...وجبة طعام مضغوطة تنتفخ بعد وضعها في مايكروويف، معاجين أسنان غريبة الاشكال، كريمات واقية من شمس عراقية جبارة...تسألني قريبتي وتلحّ على ترجمة كل محتويات البسطة، وتصرّعلى معرفة محتويات أكياس فيها مادة غريبة عنها:
- كاباجينو؟ شنو يعني؟ شربت؟
- لع مُسهل.
في الظهيرة، تنشط حركة الصبيان في نقل – صفرطاس – الغداء الى دكاكين معيليهم، وتهدأ حركة السوق قليلا...يترك والدي مطعم عيسى، ويأتي للدار لأخذ قيلولته، لا تعجبه تقنيات التبريد الحديثة مثل المروحة الكهربائية، أو حتى عمّارية العاقول، بل ينام في المكان المفضل لديه على أرضية سرداب رطب مظلم  بـ -بادكير- مخيف...يكافؤنا بخمس فلوس، لكل منا، إذا كنا هادئين، ونبقى نحرّك طرفي حبل عليه شرشف مبلل فوق رأسه، ليأتي اليه هواء بارد حتى يغفو، نلهث حينها الى الشارع راكضين، يستقبلنا أبو العلوجة، أو أبو الخرّيط، و صاحب صينية أبو العسل...نجلس في الفيء نلتهم حلوياتنا بسرعة، كي نلعب الصكَلة أو الختيلة، وجميع الكبار يروحون في قيلولة يومية، ولايشق السكون سوى صوت مبحوح لحمزة الجودي منادياً: – دوندرمة... أزبري – ويروح محركاً اسطوانة معدنية كبيرة داخل برميل، فيه ملح خشن لعمل مثلجاته اللذيذة...أما في الشتاء فينادي بصوت مخنوق: - جمة- ويرتب بعناية  في عربة مزينة بورود نايلون، رؤوس شلغم ينبعث منها بخار ورائحة تتهادى بدلال الى أنوف الماريَن، وإن يحدث و تمرَ الست أديبة من أمامه حين رجوعها من المدرسة، تصحح له ندائه وهي تتكلم مع أختها بصوت مسموع : لا تقولي - جمة- بل قولي - كماء - والصحيح ينبغي أن تقولي، اللفت المسلوق...يتندر على لغتها الفصحى أخي وأصدقائه الأحداث، ليصوروها تنادي على أختها من مرحاض الدار :
- رقيَة، رقتك الآلهة، ناوليني الإبريق.
يلعب الأطفال ببقايا أسلحة متروكة، لعبة الحواسم والشرطة، يعاقبون الجاني بوضعه تحت أقدامهم ويتظاهرون بذبحه، مقلدين بأصوات خشنة جنوداً أمريكان وهم يقتحمون احدى البيوت...ويقف أحد الشباب بزهو أمام كاميرة تصوير، وهو يحمل بندقية بيد، ورمانة يدوية، بيد أخرى، لا أعرف كيف حصل عليهما...ويدخل الجميع الى بيوتهم مبكرين...طلباً للأمان وبسبب منع التجول.
لما يدنو الغروب بحنو من المدينة، ينحني بطرف ثوبه الرمادي لنهاراتها المزدحمة الراحلة، وتنشط حركة النسوة مرة أخرى في تهيئة وجبة العشاء لرجال عائدين من عملهم اليومي أو من المقاهي، وتزداد حركة أولاد خارجين من أبواب مشرعة لدور تحجبها  ستائر من قماش، ترسلهم امهاتهم لطلب حاجات طبخ  ناقصة من الجيران، يرجعون راكضين محملين بثوم ونومي بصرة  أو نارنج، أو بأطباق طعام متبادلة بين مقربين، ويصدح نغم بائعة بنبرة ريفية متميزة:
- رووووبة...وعلى رأسها أوان فخارية مطلية بلون وشم مرسوم على وجها ويديها، ثم يعلو صوت أبو الفجل على صوتها - جاووش العشة يافجل...يختلط كل ذلك بأصوات بكاء لأطفال رضَع وفرقعة دهن مسكوب على قدر رز، أو صوت دق هاون ومواء قطط بيتية، تتلوى بين أرجل الأطفال والنساء للحصول على نصيبها من طعام العشاء، قليل من البيوت تمتلك راديو تُسمع عبرها أصوات لعبد الوهاب وأم كلثوم...
راحت قريبتي تقلب في محطات فضائية عديدة، كلها أغاني فيديو كلبس، ولم تستقرعلى قناة واحدة، فكثرة الاختيارات تجعلنا نحتار أحياناً، ودخل الشباب في الغرفة الثانية يلعبون العاباً الكترونية على جهاز بلاي ستيشن...الحديث نادر بين الجميع، والكل منشغل بحاله عن غيره.
عندما يضع الغروب يده بيد المساء فيرقصان على لحن الليل، يهدأ الصخب ويبهت الضجيج، وينام الأولاد في أقرب مكان يصلح للنوم حالمين بألعاب وحلوى، وسرعان ما تغمر الأسَرة في سطوح المنازل شراشفاً بيضاء باردة، وتُقَطع- رقية حمراء قطعاً صغيرة لتبرّد وتكون جاهزة للأكل، ويمر نسيم بارد على- تنكًة- ماء فخارية، وُضعت على- تيغة- السطح، ويبدأ الناس بالتزاور مع جيرانهم ويسهرون طويلا ويتسامرون في هدأة الليل مع هبوب نسمات عليلة...أما في الشتاء، فيتحلق الجميع حول منقلة بجمر وقّاد أو مدفأة علاء الدين، ويستمتع جالسون من صغار وكبار بشرب الشاي، فتمتد أياد صغيرة متشققة من برد وجفاف، وتغمَس في استكان شاي ساخن، خبزا أو- بقصماً- أو كعك أبو الدهن.
مدرسة الغربية  الابتدائية هرمت وتصدع بناؤها...لم أتعرف على ما يحيطها وكنت أقول لنفسي، لو رحت هناك، سأمشي وأنا مغمضة العينين...
أقتطع من لفة (مخلمة) باقية من عشاء أمس قطعة، أعطيها الى  صبيحة فليح -أم كشرة، التي كانت تجلب معها كل يوم، خبزاً يابسا مقلياً بالدهن، أشاطرها فيه بلهفة، ولما تتبقع أغلفة دفاترنا ذات الورق الأسمر بطبعات أناملنا الملوثة بالدهن، تقرَعنا المعلمة وتقارنها بدفاتر ميسورات من طالبات، نراها مغلَفة بورق أبيض محمي بطبقة نايلون بينهما، وفي أحد أركانها رسم أو طبعة لوردة ملونة...كانت صبيحة تضحك وهي تنفخ يدها، جراء ضربة مسطرة من المعلمة، وتتسع زوايتا فمها لتصل الى أذنيها.
اختفت النافورة، والمكتبة العامة، وثانوية الحلة للبنات تحولت الى متوسطة، في حي بابل العتيد.
على تلك الجدران، أخطّ شعارات ثورية: كلا للظلم، نعم للعدالة الاجتماعية، ومقولات لحكيم من الصين، وشعارات اشتراكية، لم أفقه سوى معناها العام، اشترك في مسابقات للقصة القصيرة، في نشاطات لرابطة المرأة العراقية، لأتحاد الطلبة العام...أخبئ في رحلات الطالبات (جكليت) ملفوف عليه شعارات ثورية، تغضب ست خولة المعاونة وست ساجدة المديرة...أتصل بطالب رسّام من ثانوية الفيحاء للبنين، ليرسم لي لوحة أطرزها بالنمنم، آخذها وأعرضها في بغداد، أساهم في تمثيل مسرحيات على قاعة مديرية التربية، أسدل ستائر المكتبة العامة، وأساعد أمينتها في ترتيب الكتب والكراسي، أشارك بمسرحيات لنادي بابل، ومهرجانات شعرية ومعارض...
لا تعرفني تلك الشوارع والجدران التي ألفتها، أمسيت غريبة عنها، وباتت دهِشة من وجودي، أمضي بجوار النهر، لا أثر لرائحة أليفة يمنحها لمارّين، قداح شجر وثيل مبلل، مضمخة بزفرة محببة لمائه جوار حديقة النساء...تعصْرنَ المكان، وضاع ضوع أليف لورد دفلة وداوودي.
هل يا ترى لا زالت تتذكرني حلوتي؟ هل شاخت لحد أنها لم تتعرف عليّ، وأنا أطأ ثيلها وترابها المضمخ برائحة إلهية، بعد رشة مطر خفيف؟ وأزقتها، أين اختفى بعضها؟ أين بيوت قديمة لها،  وحمام يبني أعشاشه في سقوف باحاتها، أين كوكوختي، وأين أختي؟ بالحلة، اشتاكل؟ باكَلّة، اشتشرب؟ ماي اللـّة...هل كان غيابي طويلا هكذا، حتى تنسيني حلّتي، تلك الحلوة الوديعة؟
لا تبتأسي يا حلوتي، ربما ستكون لك أياماً أجمل، وسأظل أعشقك مهما كنت.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 02-02-2011     عدد القراء :  4168       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced