نظرة في توثيق صحافة البصرة
بقلم : جاسم المطير
العودة الى صفحة المقالات

أكملتُ ، اليوم ، قراءة كتاب الصديق الدكتور ذياب فهد الطائي بعنوان  ) تاريخ الصحافة في البصرة من 1889 – 2009 (  الصادر عن دار الينابيع في دمشق ، بطبعته الأولى عام 2010 .  كنت تواقا بإزائه التعرف على واقع الصحافة في مدينة البصرة ، خلال تاريخ طويل يمتد من الاحتلال التركي حتى الاحتلال البريطاني ، ثم تاريخ الصحافة منذ الحكم الوطني عام 1921 لغاية عام 2009 ، حيث توفرت في ما بعد عام 2003 حرية التعبير الصحفي بنسبة أعلى من كل مراحل الماضي ، وقويت بعد الخلاص من دكتاتورية مقيتة تحكمت بعقول المواطنين وتسلطت على تفكيرهم اليومي منذ عام 1968 لغاية نيسان 2003.

الأثر الذي لا يمحى في صحافة العراق ، بتاريخها كله،  هو أنها وجدتْ نفسها في حياة سياسية – اجتماعية غير مستقرة ولم يكن غريبا أن يكون الصحفيون أنفسهم في حال غير مستقرة أيضا ، مما جعل مهمة الباحث ذياب الطائي في التعرف على حقائق الصحافة والعمل الصحفي في مدينة البصرة صعبة للغاية إذ لم يجد في طريق بحثه عن المصادر الناقصة أو المخبوءة  أنها ليست ميسرة ولا ممهد الحصول عليها . ليس هناك توثيق سابق لها وليس هناك مكان رسمي أو شخصي يحتفظ بها أو بجزء كبير منها.

وجد الباحث الطائي المقيم في هولندا مشاكل وصعاب الحصول على مصادر بحثه ، مهمة توفيرها ليست هينة وليست مطمئنة ، مما حدا به الانتقال مرتين أو ثلاثة ، من مدينة لاهاي إلى مدينتيْ البصرة وبغداد ، كي يُلبس بحثه بمصادرها المبعثرة ،  استوجبت منه لقاءات عديدة مع صحفيين أحياء من الجيلين الصحفيين،  القديم والحديث.  بعضهم كان يملك مصادر مفيدة والبعض الآخر يملك ذاكرة صحفية مجردة ومحدودة. بعض المصادر كانت ذات وزن وبعضها يحتاج منه إلى تقييم ، وقد وفق الباحث إلى حد ما في العثور على الأساس في صنع جسد بحثه متجاوزا الصعاب ، كما اعتمد على أسلوب الاستبيان العشوائي بين بعض سكان البصرة وطلبة جامعتها حيث ساعده في الوصول إلى تعزيز واقع الصحافة وعلاقتها بالقراء .

مثل هذا الوضع الصعب قد جرّه جرّا نحو طريق محدود،  نحو صنعة البحث المتجهة أساسا لــ(توثيق) صحافة البصرة و(أرشفتها) وليس العمل على تحليلها أو تصوير نزاعاتها، العلنية والسرية ، الذاتية والموضوعية،  وليس بهدف معرفة عذابات أصحابها مع السلطات الحكومية ولا مع الذين ارهبوها أو قسوا عليها أو عرقلوا تطورها . هذا ما جعله يقدم للقراء في الصفحة 472 من الكتاب مجموعة استنتاجات مهمة عن هموم الصحافة في هذه المدينة التي صب عليها الزمان بيئة حكومية لم تقدم للصحافة ولحرية التعبير غير السقم الشديد في جسد الصحافة البصرية التي ظلت رقابها تحت سيوف السلطات المتعاقبة حتى عام 2003 ومن ثم تسلطت عليها بعد هذا العام مصاعب جديدة النوع لا تخلو من سقم أيضا.

ما دمتُ قد افترضتُ أو استنتجتُ أن الباحث قد قطع مراحله البحثية ، كلها ، بسعي متواصل وجهد حثيث ، من اجل الوصول إلى (التوثيق) ظافرا بنوع من الأولوية، فأنه والحالة هذه يستحق ، أولا وقبل كل شيء ، الثناء والنجابة والوفاء لتلك المدينة،  التي عانت كوارث سياسية واجتماعية كثيرة.  لقد وجدتْ جهوده المثابرة تقرباً واتصالاً مع المعلومات الصحفية البصرية، التي ربما تقرّبه أو تقرّب غيره من الباحثين للوصول في المستقبل إلى مدى ابعد وأعمق عن تاريخ الصحافة،  وقد بلغه الطائي  فعلا بشكله العام.  لذلك فأنني أركز مطالعتي هنا على هذا الجانب نفسه ووصفه بما املك من قدرة الذاكرة والتشخيص المتواضعين ، آملا المساهمة في أن يستكمل الباحث حظه الصعب لمواصلة العمل الصحفي التوثيقي، الذي هو فن من فنون الجمال، المؤثر يوميا في عقول القراء وأذواقهم، إضافة إلى تيسير الرؤية للباحثين في الشئون الأخرى المقاربة ، السياسية والثقافية والاجتماعية.

تذكرتُ اليوم أنني أقمت عام 1962 في بيت صديق من أصدقائي بمدينة الشطرة – الناصرية ، وقد وقع يومها بيدي كتاب بحوالي مائة صفحة عن الصحافة العراقية،  كتبه الصحفي فائق بطي لا أتذكر ، الآن ، تفاصيل ذلك الكتاب لكنني أتذكر انه كان أول كتاب مكثف أقرأه عن مواضع الصحف العراقية الصادرة ، منذ بداية القرن العشرين حتى ذلك الوقت، عززها المؤلف بتحقيق دورها ونوعها واتجاهاتها وعلاقاتها السياسية والحزبية وأبوابها  المتنوعة، اليومية والأسبوعية،  وقد ظلت أفكار رئيسية في هذا الكتاب الصغير راسخة في ذهني حتى اليوم ، إذ كنت من قراء جريدة البلاد التي ولد فيها مؤلفه فائق بطي حيث كانت هذه الجريدة ملكا لوالده ورغم أن هذا الصحفي القدير قد نشر بعد ذاك أكثر من كتاب عن صحافة العراق لكنني ما اطلعت عليها مع الأسف، لكن بصورة عامة قد حركت تلك القراءة السريعة رغبتي في متابعة صحف البصرة ومقارنتها بطور من أطوار (جريدة البلاد) وغيرها من الصحف الوطنية القديرة في خمسينات وستينات القرن الماضي رغم اختلاف الظروف بين ثقافة العاصمة بغداد  وثقافة البصرة.  لا أبالغ إذا قلت أن جريدة البلاد البغدادية كانت (مدرسة صحفية) اندفعت بحكم عملها اليومي المقترب من أصول الصحافة وفنونها إلى تخريج الكثير من المحررين ومن مستقبلي الأخبار ومن المصممين ومن كتاب الأعمدة وغير ذلك من بدائع العمل الصحفي تصح أن تكون وسيلة من وسائل الأدب الصحفي المقارن.

في الفصل الأول من كتابه عرف الباحث ذياب الطائي كيف يضع قراءه في موضع تسلسل صحافة النظم المتعاقبة على العراق والبصرة بالنتائج العملية،  وقد صور لنا أن خلاصة بحثه عن صحافة البصرة في العهد العثماني أوصلته إلى صدور 18 صحيفة 1889 – 1914 كان بعضها قد أغلق عام 1908 بموجب قانون عثماني صدر في تموز من ذلك العام ، كما أشار الطائي.

استطيع القول ، هنا ، أن الباحث أصاب جهده في (التوثيق) المركز الجهد على التوفيق في تحديد بعض صفات الصحافة البصرية في ذلك العهد على المواصفات الأساسية التالية

(1)            كان الهدف من موافقة العثمانيين على إصدار الصحف البصرية في العهد العثماني هو إيصال تعليمات الحكومة العثمانية وقوانينها والدعاية لها

(2)            حدد الباحث أن معظم الصحافة البصرية كانت صحافة معارضة رغم سيف الإغلاق المسلط عليها حيث لم تكن حرية التعبير الصحفي متوفرة إلا بنطاق ضيق محدود وقصير أتاحها صعود حكومة الاتحاد والترقي على دست الحكم العثماني

(3)            قال الباحث أن الصحافة البصرية خضعت للاستقطاب السياسي شانها شان الصحافة العراقية عموما فكانت تقف مع قيادات الحركة السياسية

(4)            شخص الباحث أن لغة الصحف كانت تعاني من الأخطاء اللغوية الكثيرة التي تشوه العبارات والأفكار

(5)            يعتقد الباحث أن الفكر الديني كان متمكنا في الساحة البصرية

(6)            لم تعرف الصحف البصرية في هذه الفترة أي انعكاس لنشاطات المرأة على صفحاتها .

كانت هذه الخلاصة محاولة عميقة من اجل الوصول إلى بعض الجذور لمعرفة حقيقة وقوع الصحافة البصرية، منذ أول نشوئها، تحت غيوم أوجدت ظلاما مصاحبا لمسيرتها لم يتمزق حجابه حتى اليوم . كشفت ، هذه الخلاصة ،  طبيعة الصحافة البصرية في تلك الحقبة وكنت أتمنى أن تكون معززة بالأمثلة والوقائع الصحفية ( مقالات) لكي يستطيع الباحث أن يواصل الاشتغال عليها في صحافة الحقب التالية، خصوصا وان الصحف البصرية في تلك الفترة كانت عنصرا مهما من عناصر النهوض الوطني والقومي ضد السيطرة العثمانية.  بل كان دورها قد اسعد بنصوص الكثير من مقالاتها الحركة القومية في سوريا ولبنان وفي مصر أيضا ، حتى يمكن القول أن للصحافة البصرية حظ ليس قليلا في نشر المبادئ الوطنية المطالبة بالحرية والاستقلال.  لكن هذا الدور قد انتكس في البصرة أثناء الاحتلال البريطاني،  الذي قدم خلاصته الباحث الدكتور الطائي في ص 64 من كتابه وفي الخلاصة الهامة المركزة في ص 69 كما كانت خلاصة الصحف البصرية الصادرة في العهد الملكي ص 114 وما بعدها حتى ص 128 قد حملت نوعا من التحليل ذي القيمة الصحفية التاريخية وكذا فعل المؤلف في خلاصته لصحف العهد الجمهوري معززة بجداول إحصائية .

كنت أتمنى ، أيضا ،  على الباحث الطائي أن يدلنا ببحثه المتمكن وبقدرته الفائقة على تشخيص العلة الصحفية بأن يقدم تقييما موسعا من الناحية الفنية والسياسية والثقافية  ضوءا عن دور الصحافة البصرية في الحقبة التاريخية المعاصرة بعد نيسان 2003 وهي حقبة قدحت فيها حرية التعبير إلى حد كبير يحس فيها الجيل الصحفي الجديد بمحاولة وضرورة استغلال الحرية الصحفية المتاحة حاليا  في تكييف العمل اليومي لتحقيق التقدم الحقيقي للصنعة الصحفية في عصر الشفافية والانترنت،  خاصة وأن مهارة الباحث وإتقانه  قد كشفا لنا بعرضه التوثيقي لهذه الحقبة أن (الفوضى الصحفية) كانت هي الميزة الطاغية  تجلت ابرز مظاهرها الجديدة في صدور مجموعة الصحف الكثيرة من دون أن تسود فيها الحرفية الصحفية . تصدر صحف لفترة قصيرة بأعداد قليلة ثم تتوقف لتأتي غيرها أو قد يلجأ بعض الصحفيين إلى إصدار صحف أخرى ليس لها نصيب من الدوام والاستمرارية.

استطاع المؤلف أن يحقق توثيقا ناجحا لصحف ومجلات البصرة بين 9 – 4 – 2003 و 30 – 6 – 2009  فقد دوّن وسجـّل جميع الصحف والمجلات الصادرة في هذه الفترة بما في ذلك تخصيصه فصلا للصفحات والملاحق الأدبية.  كما تناول بالبحث في الفصل الثالث عن (التحقيقات الصحفية) وعن (الخطاب الإعلامي في صحف البصرة)  وعن (الصحافة الالكترونية). في الفصل الرابع تناول واقع المنظمات المهنية لصحفيي البصرة . ربما كانت مثوبته تزداد حتما لو أضاف لتفوقه في هذا الكتاب فصلا خاصا لجهده الغزير يتناول فيه دور الصحافة الحزبية العلنية والسياسية في تنوير العقل السياسي في البصرة والصعوبات التي واجهتها في أوقات الاضطراب والقهر  السياسيين .

لم يهرب الباحث أمام الصعاب الكثيرة التي أعاقت واجباته في الاستقصاء والبحث بسبب عدم الاطمئنان لقلة الوثائق والمستندات التي حصل عليها ، لكنه تبحر فيها ، رجوعا إلى تفاصيلها ، مستعينا بالصفوة الصحفية، التي زودته بمعلومات أكملت بحثه.  فجاءت النتيجة الايجابية في هذا الكتاب  جهدا رئيسيا مباركا في العمل الصحفي توفر للدكتور ذياب الطائي،  مقدما ، من خلاله ، لثقافة مدينة البصرة ولصحفييها ولأدبائها وباحثيها فيضا من المعلومات الموثقة تمهد السبيل لأعمال توثيقية وتحليلية أضخم في المستقبل، خاصة وان هذا البحث الرصين أوضح بجلاء أن الصحافة العراقية في المحافظات على الوجه الأدق تعاني أمراضا يرثى لها، تحتاج من الجهات المعنية ، الرسمية والحزبية والشعبية ، عناية ً قصوى وإشفاقاً عالياً والتفاتة ً كبرى لتدريب الكوادر الصحفية المتنوعة وانتداب عناصرها الشابة للتدريب في مؤسسات صحفية كبرى في الخليج ولبنان ومصر، وتوفير الناحية الفنية الخالصة للارتفاع بمستوى الإنتاج الصحفي في البصرة والمحافظات الأخرى كي تجعل القارئ يطيل النظر والقراءة إذا ما تم إنقاذ الصحافة من ارتجال صدورها بسبب معاناتها المالية.

كان كتاب الدكتور ذياب الطائي خصبا سيترك أثره مع الزمان الصحافي القادم ليس في محافظة البصرة بل في العراق كله.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 11-04-2011     عدد القراء :  2641       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced