الحرب في ذاكرة امرأة
بقلم : سليمة قاسم
العودة الى صفحة المقالات

مذ كنت صغيرة، اعتادت قريبتي أن تزورنا قادمة من الجنوب. لم أنس حتى اللحظة، ملامح ذلك الوجه الأسمر الذي حرقته الشمس بحمرة قانية، والخطوط الخضراء التي خطت حول حاجبيها، وأسنانها الذهبية التي كانت تبرز حين تضحك. كانت رائحة المسك تنبعث منها ومن حقيبتها المصنوعة يدويا التي تضم هداياها التي احضرتها لنا، ومقتنياتها الشخصية التي لا تستغني عنها في حلها وترحالها، وهي المشط الخشبي وعلبة المسك الصغيرة، وأشياء أخرى لم اعد اتذكرها.
كانت قريبتي تتملك روحا من الدعابة تحيل أتفه الأشياء وأكثرها إيلاما إلى ضحكات متواصلة، أما حكاياتها فكانت بارعة في شدنا إليها تصحبها حركات وأصوات تطلقها، تجعلنا نتسمر أمامها بانتظار النهاية.
مع بدء الحرب العراقية – الإيرانية، انقطعت قريبتي عن زيارتنا، فقد ألقت الحرب بظلالها القاتمة على الأشياء لتجردها من معناها،  وغدا الموت هو الحقيقة الوحيدة التي ينتظرها الابرياء في حرب لاناقة لهم فيها ولا جمل. 
كان لقريبتي أبن واحد أنجبته بعد سبع بنات وبعد ان ابيض شعر رأسها في انتظار مجئيه، وكان حلم حياتها الوحيد ان تراه يكبر، وياللمفارقة فما إن كبر حتى اندلعت تلك الحرب التي قتل فيها قبل نهايتها بأسبوعين فقط.
بعد سنين طويلة زارتنا قريبتي ولشدً ما أدهشني التغير الكبير الذي أصابها، فقد انطفأ في عينيها حب الحياة، وتحولت إلى بقايا امرأة يغطي السواد معظم جسدها الواهن، وفارقتها روحها المرحة بفقدان ابنها الوحيد بسنواته العشرين، اما حقيبتها اليدوية فأصبحت تضم تذكارات منه مثل قماطه الاول  وثوبه الأبيض الذي ألبسته إياه في حفلة ختانه، الذي لم تنم القرية ليلتها بسبب زغاريد الأم وغنائها، يشاركها أهالي القرية فيها.
لكن موت ابنها مع قرب نهاية الحرب هو الأمر الذي لم تستطع استيعابه،فكيف يموت ابنها في ارض لا يربطه بها رابط؟ فقد تعلمت إن الإنسان يموت دون ماله أو عرضه أو أرضه، فلماذا يموت ابنها وهو يحلم بالعودة إلى قريته وطيوره التي أحبها حد الجنون؟ لكن الحرب كانت له ولأمثاله بالمرصاد، فقد كانت خيار الطاغية، اما ثمن ذلك الخيار فقد دفعه الملايين من ارواحهم . ماتت قريبتي قبل اندلاع حرب الكويت بأيام قليلة وكأنها أرادت أن تجنب نفسها آلاما جديدة ستواجهها نساء أخريات سيفقدن ابناءهن  في حروب جديدة اعتقد البعض انها ولت بغير رجعة بعد سنوات التغيير. لكن حساباتهم كانت خاطئة هذه المرة، فقد جاء مسلسل التفجيرات والاقتتال الطائفي ليفتح جروحا جديدة لم تندمل بعد، فعاد الموت يكشر عن انيابه مرة أخرى مهددا باغتيال الحلم الذي طالما حلمنا به في عراق آمن وموحد تسوده لغة الوئام والمحبة.

  كتب بتأريخ :  الأحد 03-07-2011     عدد القراء :  1814       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced