الشهيدة موناليزا
بقلم : أمير أمين
العودة الى صفحة المقالات

ستون عام على ميلادها..ربع قرن على الرحيل !

الحديث هنا يدور عن الشهيدة موناليزا والتي ولدت في يوم 23 تموز سنة 1951 في مدينة الناصرية العراقية وكانت القابلة حينها إمرأة طاعنة في السن إسمها أم حسن ولها خبرة في التوليد على الرغم من عدم دخولها للمدرسة وقد جاء على يديها الى الحياة عشرات الألوف من بنات وأبناء الناصرية لكنها للأسف أخطأت في طريقة سحب موناليزا من رحم والدتها وكانت سمينة بشكل لافت فتسبب ذلك في إنحراف عمودها الفقري لازمها طيلة حياتها وكان يسبب لها ألماً مزمناً لكنه لم يقعدها عن مواصلة الدراسة أو العمل كمعلمة أو في البيت لمساعدة عائلتها الكبيرة في كل شيء بل وفي مساعدة الآخرين من الذين كانت على تماس معهم وخاصة في عملها كنصيرة في كردستان العراق فكانت شعلة من الحماس والثورية المتوهجة والتي شعر بها الجميع وإنعكست عليهم خيراً .....في أحد الأيام إصطحبت الوالدة إبنتها الكبرى موناليزا الى مدرسة الهدى الإبتدائية للبنات ولما إلتقت بالمديرة الست لبيبة الحمداني طلبت منها أن تسجلها عندهم في الصف الأول الإبتدائي..! كان عمرها خمسة سنوات وكانت ذكية وتعرف الحروف العربية والأرقام فنصحت المديرة الوالدة بأن تذهب بها الى روضة الأطفال لكن والدتي أصرت على ضمها الى طالبات الصف الأول كمستمعة وتجريب إمكانياتها فإن نجحت يمكن أن تعبر الى الصف الثاني وإن أخفقت فستبقى في صفها وتكون قد إستفادت من هذه السنة..وأخيراً إقتنعت الراحلة الست لبيبة ووافقت على قبولها كمستمعة عندهم ولما إنتهت السنة الدراسية كانت الناجحة الأولى على الصف! وإستمرت هكذا طيلة حياتها الدراسية ونادراً ما تكون نتيجتها الثانية فتعود الى البيت باكية ولما تخرجت من دار المعلمات كانت أصغر معلمة ولم يتجاوز عمرها السابعة عشر ..! ويصادف تخرجها مع مجيء البعثيين للحكم فتبقى دون تعيين الى سنة 1972 وتم تعيينها لحين هروبها وإختفائها في بغداد ربيع عام 1979 فكانت سعيدة بعملها ونالت حب الطالبات والمعلمات وكل من عمل معها وخاصة في مدرسة البطحاء في ناحية البطحة القريبة من مركز المحافظة وفي سنوات الجبهة الأولى رشحها الحزب الشيوعي لدراسة الطب في موسكو لكنها رفضت ذلك بسبب حبها لعملها المهني والحزبي في المدينة وعدم إستطاعتها مفارقة وطنها وأهلها ورفاقها وصديقاتها وكانت صاحبة معشر خفيفة الظل وكنا لا نستطيع مفارقتها ولو لساعة خارج البيت وحينما تعود تملأ البيت بهجة وسروراً وتقوم بتلبية كل إحتياجاتنا الشخصية فكانت بمثابة الأم الصغرى لجميع أفراد الأسرة..إمتازت موناليزا بالطيبة والذكاء الخارق فكانت تقرأ الكتب بنهم وهي شغوفة بقراءة الأدب بشكل عام وخاصة الروسي ولم تنقطع عن المطالعة لحظة حتى أنها حينما أجرت عملية الزائدة الدودية في مستشفى الناصرية طلبت تزويدها بعدد من الروايات وكانت معها رواية المسيح يصلب من جديد تناولتها من تحت مخدتها بعد إنتهاء العملية ونجاحها فأنكبت على قرائتها وكانت تقوم بتدريسنا نحن وبنات وأبناء المحلة في الدروس التي نرسب بها وتساعد على نجاحنا في الدور الثاني ويتذكر أخي الأصغر جمال كيف أنها قامت بتدريسه مادة الرياضيات حينما أكمل بها في الصف السادس الإبتدائي وجعلته يأخذ بها درجة مئة من مئة في إمتحانات الدور الثاني..! درست موناليزا الأفكار الماركسية وكان والدي يؤثر عليها وعلينا في إعتناق الفكر الإشتراكي وكان يصطحبها معه لمشاهدة الأفلام ذات التوجه الإشتراكي وكانت نادرة في ذلك الوقت بالإضافة الى بطولات وأخلاق الشيوعيين العراقيين وخاصة من أبناء المدينة وإستبسالهم بعد إنقلاب 8 شباط عام 1963 ودفن الشهيد سيد وليد حياً وغيرها مما ترك في نفسها أثراً عظيماً في أن تنخرط بوعي وقناعة في صفوف الحزب الشيوعي العراقي في السنوات الأولى من السبعينات فأستحقت بجدارة شرف العضوية وقادت رابطة المرأة العراقية في عموم محافظة ذي قار وكانت عضواً نشطاً في الهيئة العليا لرابطة المرأة في العراق وأيضاً كانت تقود رفيقاتها الشيوعيات في مدينة الناصرية حيث كانت عضواً في لجنة المدينة لكنها لم تترشح لتبوء مكانها الطبيعي واللائق وهو عضوية اللجنة المحلية لمحافظة ذي قار على الرغم من إستحقاقها في ذلك بسبب كون جميع أعضاء المحلية وسكرتيرها كانوا من ريف الناصرية ويملكون عقلية فلاحية ولم تتبلور بعد لديهم الأفكار الماركسية لقلة ثقافتهم وصغر عمرهم الشخصي والحزبي حينذاك فحالت هذه القضية دون تقديمها الى عضوية اللجنة المحلية ولا يوجد سبب آخر حسب ملاحظاتي. كانت قيادة موناليزا لرابطة المرأة تسير بشكل رائع وقد كسبت العديد من نساء المحافظة لعضوية الرابطة وأيضاً للتنظيم الحزبي من خلال قوة شخصيتها ونضج ثقافتها العامة وطيبة قلبها وعملها بجد وتفاني وإخلاص نادر فكان الحزب ومنظماته المهنية هاجسها الدائم وقد شاركت بفعالية في مؤتمر الحزب الثالث والرابع وفي ربيع عام 1979 عملت بجد مع عدد من رفاقها في قيادة الحزب في ظرف سري قاهر الى لملمة الصلات الحزبية المنقطعة لعدد من الرفاق والرفيقات الوافدين الى بغداد من عدد من المحافظات وكانت معها إختها الصغرى كوثر لحين مغادرتهن بهويات تحمل أسماء بنات آخريات الى سوريا سراً ثم الى لبنان بعد عدة شهور وبسبب الأمساك بعدد من الرفاق وإستشهاد بعضهم وفي لبنان غادرت إختها كوثر الى موسكو للدراسة بينما أصرت هي رغم ظروفها الصحية الحرجة الى أن تتوجه للعمل في كردستان العراق..فوصلت الى هناك وجرى تقديمها الى عضوية اللجنة المحلية وكانت قيادة الحزب تعتمد عليها كثيراً في عدة أمور ومنها فك الشفرة العسكرية وإعطاء تفاصيلها الى القائد العسكري الراحل أبو عامل فكانت تعرف جميع الأسرار قبل أي شخص آخر وتحافظ على سريتها بكتمان شديد وأحبت عملها ورفاقها جميعاً وإستشهدت بقناعة تامة في المكان والطريق الذي نذرت نفسها له ويتذكر رفاقها اليوم الذي أسلمت فيه روحها حينما تحركت مفرزة شيوعية للأنصار من قرية زيتة وكان الطريق به صعدة قوية والمفرزة تروم الوصول الى لولان وكان قربها النصير أبو كاوا فقالت له : لا أعتقد أنني سأصل سلامات الى لولان وراح أستشهد ..!.. كانت الشهيدة أنسام قوية الحدس وتعمل عندها الحاسة السادسة بفعالية فكانت تتوقع الشر أو الأشياء المفرحة قبل حدوثها بفترة وجيزة .!.. فطلب منها أن تضع مسافات بين رفيق وآخر حتى لا يستشهد أحد عند حصول أية ضربة..ثم يردف النصير أبو كاوا قائلاً : بعد مدة من الزمن إنعدمت المسافات وكانت المنطقة مستوية ونحن في وضح النهار ولا توجد بها أشجار وكانت الصخور بعيدة أيضاً..وما هي إلاّ عدة دقائق حتى إنهمر عليهم الرصاص من إحد التلال المقابلة لتحركهم حيث كان أحد الكمائن التركية الغادرة لهم بالمرصاد وإستمر إطلاق النار الكثيف الى الساعة الثالثة عصراً وكانت معهم الكثير من البغال التي أصيبت ومات منها سبعة وجرح إثنان ونجى البغل الذي كان يحمل على ظهره البريد الحزبي وجرح بعض الأنصار وإستشهدت النصيرة موناليزا وإسمها أنسام ولم يتمكن أحد من إنقاذها وهي جريحة أو أن تسحب جثتها ولما هدأت أصوات الإطلاقات النارية وبعد عدة ساعات تقدمت القوات التركية الكامنة من اماكنها وسحبت جثة الشهيدة انسام الى إحدى القرى التركية القريبة من الحادث فقامت زوجة المختار بتغسيلها وجرى دفنها في تلك القرية القريبة من الحدود العراقية وإستطاع الأنصار جميعاً إنقاذ أرواحهم وكان من ضمنهم دليل المفرزة أبو هادي وأبو باسل وأبو سرمد وأبو سطيف وأبو كاوا وأبو جاسم وزياد وعادل عرب وغيرهم وحدثت الواقعة المؤلمة في يوم الجمعة المصادف في السابع من أيلول عام 1986 فكانت الشهيدة أنسام أول شهيدة من شهداء مؤتمر الحزب الوطني الرابع وكان إستشهادها صدمة كبيرة لعائلتها وللحزب وترك حزناً ومصاباً كبيراً لجميع من عرفها وعمل معها ولا زال الكثير من الشيوعيين وخاصة الأنصار يتذكرونها وكتب عدد منهم القصائد عنها وعن إستشهادها كذلك فقد نعاها المكتب السياسي للحزب بكلمات رائعة ومعبرة وأرسل النعي لي ولعدد من أفراد عائلتنا وجرى عمل مجالس تأبين لها في بعض الدول ومنها كردستان العراق وبلغاريا..عاشت موناليزا 35 عام فقط من 23 تموز 1951 والى 7 أيلول 1986 وهي في أوج شبابها وعطائها وكانت حياتها قصيرة جداً لكنها زاخرة بالحماس والنشاط والحيوية التي ليس لها نظير وكانت حقاً حياة حقيقية عاشتها بكل لحظاتها لحب الآخرين والتفاني في سبيلهم ومن أجل مساعدتهم ناكرة ذاتها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى..المجد للشهيدة الخالدة أنسام ولمثيلاتها وأمثالها النادرين في وطننا العراق..

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 26-07-2011     عدد القراء :  1973       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced