لجوء العراقيين إلى جمهورية العراق
بقلم : د. هاتف الجنابي
العودة الى صفحة المقالات

وطنُ الغربة - غربة الوطن
عادة ما يلجأ المرءُ إلى بلد آخر هربا من موطنه الأصلي. قد تتعدد الأسباب التي تدفع الفرد لاتخاذ مثل هذه الخطوة المحفوفة بالمخاطر وغير المعروفة العواقب. فالغريب يبقى غريبا مهما طالت إقامته في البلد البديل. يبقى البديل بكل المقاييس أدنى درجة على أقل تقدير من البلد الأم في مجال طمأنة النفس من حيث المشاعر والعواطف بعيدا عن النظر للأصل واللون والجنس. أنّى التفت الغريبُ ثمة ظل الوطن، ثمة يداه تلوحان، لكنهما لا تلوحان في الهواء، إنما تعيدان رسم حروف إقامة الجسد في مخيلة وذاكرة وعقل هذا المواطن"الغريب". كل من اضطر لمغادرة وطنه يحدوه الأمل بالعودة إليه ذات يوم مكرّما معززا. ومن أبسط واجبات الوطن أخلاقيا وإنسانيا هي تهيئة أو تنقية أجواء العودة فالإقامة. قد تتلكأ الأوطان الفقيرة في اتخاذ التدابير اللازمة لتمهيد عودة و"تأهيل" أبنائها المبعدين لظروف قاهرة فتزيل عنهم بعض الحيف، وتغسل عنهم غبار الترحال، لكي يندمجوا في مجتمعاتهم ويساهموا في بنائها. على أن الأمر يصبح لزاما وواجبا لا مفر منه حينما يكون"المغتربون" من ذوي الكفاءات والمتعلمين وذوي الحِرَف. البلد الوحيد في العالم، حسب علمي، من بين دول العالم الذي قابل ويقابل أبناءه بالجفاء والتقتيل والمحاصرة والإلغاء، رغم ثرائه الفاحش وحاجته إلى الأيدي العاملة والخبرات، هو جمهورية العراق.
لم يترك غالبية العراقيين وطنهم لأسباب اقتصادية إلا نسبة ضئيلة منهم. من ترك العراق كان مُكرَها لأسباب عدة منها سياسية، طائفية، دينية، عرقية، عموما، بسبب فقدان الأمن والأمان الفردي أو الجماعي. لذا فمقولة الإمام علي الذهبية: "الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن" لا تشمل تلك الغالبية. ولا تشملهم كذلك نصيحة الإمام الشافعي:
تَغَرّبْ عن الأوطان في طلب العلا وسافرْ ففي الأسفار خمسُ فوائد
تَفَرّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ
اللهمَ، إلا في صدر البيت الثاني، لأنهم لم يهجروا بلادهم طائعين، لكن هاربين.

مفارقات
أولئك الذين تمكنوا من الهرب في السبعينيات أو الثمانينيات، أي قبل غزو الكويت أو بعد حرب الخليج الأولى، كان عليهم أن ينتظروا سنينا وسنينا حتى يسقط الطاغية. أما الذين هُجّروا لأسباب ذات صلة بالعنف والقتل على الهوية والأصل بعد 2003، فمعاناتهم مختلفة لأنهم وجدوا أنفسهم في أوضاع مأساوية جديدة داخل بلدهم، وظروف معقدة في الخارج أججتها القوانين الجديدة التي تم سنها في معظم بلدان اللجوء للحد من الهجرة. على أن معاناة المغتربين مهما طالت أو قصرت غربتهم تبقى هي هي، وما هو مشترك فيها أكبر بكثير من المختلف. كان "المغترِب" العراقي وما يزال خاضعا لشعور داخلي يدفعه للتفكير بأن إقامته في الخارج غير دائمة وبالتالي تراه قلقا، لا يقتني من متاع الحياة إلا خفيفه وبسيطه، استنادا إلى فكرة "العودة للوطن" التي تدق، بدون توقيت وسابق إنذار مسبق، مسمارها في رأس الغريب، ملاحقة إياه في كل وقت ومكان يحل فيه.
قد يختلف العارفون في تقدير عدد المغتربين العراقيين زمن الديكتاتورية بثلاثة ملايين إلى أربعة، لكن المحصلة تشير إلى وجود ظاهرة عراقية. بعد إطاحة النظام السابق وردت أرقام مخيفة عن عدد الهاربين، من نازحين ومشردين من ديارهم، فطرح الرقم(ثلاثة ملايين لاجئ – نقلا عن مفوضية شئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لعام 2010) في حين قدرت نفس المفوضية العدد بأكثر من أربعة ملايين في العام 2007 . ولو سلمنا أن العدد الكلي للقدامى والجدد أربعة ملايين، في بلد نام، عدد نفوسه لم تتجاوز ثلاثة وعشرين مليونا في الثمانينيات، والثلاثين مليونا في الوقت الراهن، فهذا يعني نزيفا بشريا وعقليا خطيرا. وإذا أخذنا في الحسبان أن عدد الكفاءات والحرفيين والمتعلمين تشكل نسبة غير عادية وسط المغتربين، أمكننا تلمس فداحة ما جرى ويجري في العراق. في خريف 2010 قامت المفوضية المار ذكرها أعلاه، بإجراء استطلاع وسط عينات من اللاجئين العراقيين في سوريا والأردن ممن عادوا إلى العراق في العامين 2007-2008 اتضح أن نسبة ما يقارب 61% منهم "يأسفون لمغادرتهم سوريا والأردن" وأن واحدا من ثلاثة شكك في إمكانية البقاء في العراق. يصبح الأمر أكثر قسوة فيما يخص المغتربين في بلدان اللجوء التقليدية في أوروبا واستراليا وكندا، لأن أوضاعهم دون شك أفضل بكثير ممن اختاروا(اضطروا إلى) العيش المؤقت في البلدان العربية، وأسوأ منهم بدرجات كثيرة وضع العراقيين في إيران وشبيهاتها. لكن النتيجة تبقى واحدة وهي أن نسبة العائدين من المثقفين وذوي الاختصاص محدود للغاية. الجدير بالذكر أن العراق اعترف رسميا في العام 1999 بأن عدد ذوي الاختصاص والكفاءات ممن غادروا العراق قد تجاوز (23.000) ثلاثة وعشرين ألف شخص! الأمر الذي قاد الحكومة العراقية آنذاك لسن قوانين صارمة بحق المهاجرين بدون رخصة رسمية وصلت حد مصادرة أملاكهم المنقولة وغير المنقولة وزجهم في السجون لمدة عشر سنوات لمن يتم القبض عليه.

مغامرات اللاجئين في جمهورية العراق
كم يا ترى قد غادر العراق بعد 2003؟ يعني بعد أن فكك (الأستاذ بريمر) كافة مؤسسات الدولة العراقية، وسرّح الملايين من أعمالهم، فهرب من هرب واختفى من اختفى. كم من المثقفين والكفاءات وذوي المهن قد تمكن من الهرب، وما الذي بقي بعد قتل وجرح قرابة الألف من الأكاديميين والأطباء؟ على أن السؤال الأكثر إيلاما ومأساوية هو ماذا فعلت السلطات العراقية حتى اللحظة لتيسير عودة المغتربين العراقيين، خصوصا من ذوي الاختصاص ممن يبغون العودة وخدمة بلادهم؟ معظم الذين اضطروا للهجرة يحلمون بالعودة وهو أمر طبيعي. روي عن عمر بن الخطاب أنه نفى رجلا من أهل المدينة إلى العراق، فلما عادَ سأله عمرُ، كيف حالك؟ أجاب: قتلتني يا أميرَ المؤمنين!

بعد سنوات من الوعود التي قطعها السياسيون العراقيون المتنفذون (على مدار السنوات الخمس الأخيرة في تسهيل عودة الكفاءات والقضاء على الفساد ونهب الدولة وتجريدها من مقومات الحضارة والنمو السليم، وحماية المختصين والصحفيين والمثقفين عموما، نرى أن ما قيل مجرد حبر على ورق واستهلاك غرضه ذر الرماد في العيون، والضحك على الذقون. وإلا فكيف سيعود مَنْ تستغرق معادلة شهادته سنوات؟ كيف يعود من تماطل دوائر الدولة وموظفوها صغارا وكبارا بإعادتهم إلى أعمالهم السابقة، وإنصافهم عما لحق بهم من جور وظلم؟ كيف، تتم إعادتهم في غياب أفق للعمل والسكن وصيانة حياتهم وحياة عوائلهم؟ كيف يعود المهندس والمختص بالحاسوب والأكاديمي والطبيب مثلا، وأنا أعلم علم اليقين، بأن معاملات تعادل شهادات الأطباء الذين تخصصوا أو درسوا خارج البلاد، مثلا، تنام في أدراج(ربما في المزبلة) مكاتب ولجان تعادل الشهادات والاختصاصات حتى إشعار آخر؟ كيف يبقى ذو الكفاءة بعد إهانته في بعض دوائر الدولة، وما يتعرض له على أيدي صغار الموظفين، وبعضهم من مزوري الشهادات وعديمي الخبرة والكفاءة من مماطلة وتسويف ومطالبة العراقي بعشرات الوثائق لكي يثبت عراقيته واختصاصه ولجوءه إن وجد، بعد ذلك ينظرون بأصله وفصله ومدينته وعشيرته وآرائه وطائفته وقوميته وديانته، فيبدأ الغمز واللمز والتسويف والمماطلة والإشارة بتسهيل القضية في حالة تفهم الأمر؟!(المقصود هنا الرشوة). كيف يعود اللاجئون العراقيون بدون توفير السكن لهم؟ كيف يعود المختص حينما يسمع ويرى على شاشات التلفزيون ما حل بزميله(لته) من ذبح أو اختطاف؟ هناك عصابات ممولة من بعض دول الجوار وسواها لتصفية الكفاءات العراقية. ما الذي وفرته السلطات الرسمية للكشف عنها وتفكيكها ومحاسبة المتورطين فيها؟
كرّر السابقون وما يزال يكرر اللاحقون ويقطعون الوعود المضللة في وزارات كل من: التعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي، والهجرة والمهجرين، والوزارات الأخرى ذات الشأن، ولجنة المفصولين السياسيين، بتوفير الظروف اللازمة لعودة العراقيين إلى بلدهم، ولم يفوا بوعودهم. هناك ظاهرة عراقية عجيبة غريبة هي، أن أغلب المسئولين في الداخل يتجاهلون ممن كانوا من معارفهم ولا زالوا لأسباب قاهرة يعيشون في الخارج، كما وأن من ينتقل إلى داخل العراق ممن شملتهم رعاية الملائكة، يتحاشون هم كذلك معظم الاتصالات بزملائهم(زميلاتهم) في الخارج. وكأنهم بعد عودتهم يلجون جحورا ليختبئوا فيها دفعا للبلاء. قال لي شاكيا أحدُ معارفي الذين لم يغادروا البلاد مطلقا(من منتمي الأحزاب الإسلامية الحاكمة إلى وقت قريب) ممن قضى في سجون الديكتاتورية خمسة عشر عاما واستشهد أخواه: إن على العراقي الوطني الشريف ممن لم تتلطخ يداه بالسرقة والتزوير والفساد أن يخاف أكثر من الإرهابي! وأن على الذي يمتلك على بعض المتنفذين، أدلة قد تقلل من شأنهم، أو أنه يعرف شيئا غير قويم عن سيرتهم السابقة، أن يخاف أكثر من الاثنين المذكورين على حياته.
إن عودة العراقيين المحتملة في الوقت الراهن إلى وطنهم الأم هي بمثابة محاولة أسوأ في بداياتها وتعبها من محاولاتهم السابقة في لجوئهم إلى بلدان العالم. مهما كانت طبيعة دولة اللجوء فإنها بعد قبول اللاجئ تعامله بتحضر وإنسانية مقدمة له الضمان الصحي والمأكل والملبس والمأوى وهذا ما لا يضمنه له وطنه الأم.
بعد سنوات من التشرد وعذاب الغربة ونظرة الآخر السلبية للغريب المغاير، يكون تفكير العراقي بالعودة إلى بلاده التي ضحى من أجلها بمثابة لجوء جديد "لبلاد" كأنما لا صلة له بها على الإطلاق. لأنها قد جحدت وتنكرت له، ولو استطاع قسم من ضعاف النفوس فيها لمسحوا "المغترين" من الوجود. طبعا هناك أصناف من المغتربين لا يجرؤ أحد علنا على التفوه بها: من عاد أو يود العودة من دول الجوار(وهم على أصناف ودرجات يحدد أولوياتها الأصل والمذهب) ومن كان في أوروبا وأميركا وسواها، فحسابهم آخر، ومن لم يلحق بعد سقوط الطاغية أن يعود فقد تصبح عودته متأخرة.
الآلية السائدة، هي أن كل مغترب"سابقا" يعامل بطريقة مختلفة حتى بدون أن يشعر! بحيث يصل العائد إلى مرحلة من الريبة والخوف من تقديم أية ورقة تطلب منه رسميا لتحديد طبيعة غربته أو لجوئه ومنفاه. فإن أخذها من حزب متنور قد ينظر إليها الإسلامي بعين الريبة وربما سيعرقلها، وإن جاءت من جهة تنتمي لغير طائفة الموظف المسئول عن الملف قد تتعرض للإهمال والمماطلة والتسويف. معنى ذلك، أن العراقي "العائد" إلى وطنه يتم استدراجه بوعي وبدونه إلى عالم وهمي - افتراضي لا أول له ولا آخر، بحيث يأخذ التفكير بالهرب حيزا أكبر داخله من محاولة البقاء. حينئذ تصبح محاولاته عبارة عن لجوء جديد مهين ومأساوي إلى بلد جديد عليه تماما، كان اسمه الجمهورية العراقية والآن أصبح جمهورية العراق، فتصح تسمية "العراق الجديد" عليه تماما مع غلبة واضحة لما هو سلبي.
مع كل ذلك، يظل المغترب، العراقي على وجه الخصوص، يردد في داخله لا إراديا ما عبّرَ عنه أحد الشعراء السودانيين باللهجة الدارجة:
يا غربة اديناك كثير ادينا خاطرك يسهلها خلينا نرجع بالفضل نلحق حياتنا نعدلها
امّلنا فيك بدري اتنستْ إلا الرجول متوَحْله وبقينا زيْ أهل القبور لا البرّه عارف الداخلها
لا الجوّه برْجعْ لي ورا يحكي الحقيقة يوصّلها".

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 10-08-2011     عدد القراء :  1962       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced