وجع على أجنحة الفراشة ،
بقلم : وئام ملا سلمان
العودة الى صفحة المقالات

لن يرهبني سوط الجـلاّد
وإن يدميني
لكن دمعة طفل من جوع ٍ تـُرديني.                                       
             
حين قررت أن أتحاشى المؤثرات الموجعة والتي تسبب لي صداعاً مريرا، كان أولها الإبتعاد عن كل ما تقع عليه عيناي من مدعاة للوجع وأنا اعرف أن بوابة الدخول إلى عالم الوجع ما يأتي عبر قراءة كتابات الإنترنيت بما تحمله أقلام عدد لا يمكن الإستهانة به ، من تصريحات واستنتاجات ومهاترات ومساجلات وصفعات خطابية  تترك كدماتها على روحي إضافة إلى مشاهدة التلفزيون وما يكتنف برامجه من علل، وإن كان لابد من مشاهدة برامج تلفزيونية فلتكن خارج سخونة الأحداث والهموم في عراق تجسدت فيه أبلغ صور الكمال للفساد الإداري والرِشا والسرقات والفضائح ، وانبجست فيه عيون الطائفية والمذهبية والقومية حتى جعلت الأنسان العراقي في حيرة من أمره ليُسقى من ماء كالمهل في دنياه ،على موعد مع جنات تجري من تحتها الأنهار ولكن متى ولمن هذه الجنات؟ لا أحد يدري، وقد إبتعدتُ عن الفضائيات الناطقة بلسان أمة الضاد ، والتزمت بذلك ليوم وليلة ، أفلحت أيضا في التخلص من الكومبيوتر ورياح نوافذه العاتية ،إذ هناك إختيارات أخرى سهلة المنال حيث القراءة في الكتب إمتثالاً لنصيحة المتنبي /وخير جليس في الزمان كتاب/، ولكن الحزن الملعون أصر أن يخترق عزلتي من خلال أجنحة فراشة !  ربما هو أمر غريب أن يحزن الإنسان السوي بمشاهدته أجنحة الفراشات وهذا ما حصل لي حقاً، ولكن أية فراشة تلك التي أججت بي ناراً وألزمتني الكتابة عنها !

هي زميلة إبني الصغير مهند، والذي إمتعضَ مني جداً حينما أسميتها صديقته لأن للصداقة باللغة التي يتكلم بها ويحمل ثقافتها معانٍ أخرى وتحديداً إذا كانت العلاقة مع الجنس الآخر فحينما سألته ما اسم صديقتك رد علي باللغة السويدية وبغضب  هي زميلتي بالمدرسة وليست صديقتي ، كانت (ربيكا ) تجلس مع إبني في غرفته الصغيرة  وهي مشغولة معه بين الكومبيوتر والتلفاز وآلته الموسيقية التي لا تفارقه ، ربيكا التي وجدتها حيث حييتها حينما استيقظت من النوم متأخرة ، وبعد أن تناولت فطوري ذهبت ثانية  حتى أتعرف عليها جيداً ومن خلال الحوار ، فهي من عمر إبني لكنها تبدو أكبر بسبب السمنة  والتي صار يعاني منها الكثير من أطفال هذه الدول بسبب اكلهم للحلويات والبطاطا بأنواعها ولله در أطفالنا هناك حيث ينبشون تلال القمامة في أرض الذهب الأسود ومدن القباب الذهبية والأضرحة المقدسة بحثاً عن لقمة تصرخ بوجه الجوع متحدية سطوته ،ربيكا  كانت بريئة ككل الفتيات ورائعة ، تضع على ظهرها أجنحة فراشة واسعة  من قماش ابيض شفاف أضافت على جمالها وعذوبتها جمالا ملونا فعبّرتُ لها عن ذلك لكي تفرح ، وقلت لها أتمنى أن تكون هذه الأجنحة لكل أطفال العالم لكي يحلقوا بجمالهم جميعا فابتسمت لي وشكرتني ، وما كان لهذه الأجنحة إلا أن حلقت بي إلى هناك ، إلى صور ما غادرتني ولن تغادر مخيلتي حتى دكة الموتى وأدري أن هناك صوراً وصوراً من المآسي والآلام قد غطت على ما شاهدته قبل عقد ونصف من الزمن حتى زيارتي الاخيرة قبل شهور ومشاهدتي لأطفال تفننوا في طرق الإستجداء ،ولكن تبقى تلك الصور راسخة ومحفورة  في قاع الذاكرة ولن تـُمحى أبداً  .صور ٌ تطفوا لدي بين مدة وأخرى.

فقد إعتدتُ أن أوصل إبنتي زينب إلى مدرستها حرصا ًعليها أيام كانت في الصف الأول الابتدائي وهي الآن على عتبة باب التخرج من الجامعة ، ولكن لا أدري ما حل للتلميذة التي رأيتها قرب بوابة المدرسة في الحي السكني الذي كنا نسكنه ،  بذاك الصباح الشتائي وهي ترتجف إرتجاف عصفورة مبتلة تحت المطر ، لقد ظهرت الطفلة  نحيفة شاحبة مصفرة بقميص أبيض خفيف جداً يهفهف على جسدها الغض رغم البرد القارس الذي يخترق العظم ، ولم تكن هي الطفلة الوحيدة التي على هذه الشاكلة في وطن النفط والقائد الضرورة من بين الأطفال الذين ذاقوا مرارة الحصار وما لاحقه من أنواع لا حصر لها من  الضغوطات النفسية عليهم ، وكأن الطفل العراقي كان محك إختبار إلهي على الصبر وتحمل القهر من دون سواه من أطفال الأرض ، وتلكم الأزمات النفسية بالتأكيد تركت بصماتها على نفس الطفل والذي ما زالت لعنة الخوف تلاحقه حتى اللحظة مما يدور أمام عينيه من بشاعات تتفنن يد الإرهاب بها . إذ طالت الحزن والفرح العراقي معا وقد دفعت لها الطفولة حصة ضريبية باهظة .

أما الطفلة الثانية فكانت تطرق بين الفينة والأخرى باب منزلنا  لتستجدي وبرفقتها إخوة أصغر منها سناً ، ولفرط جمالها وحيويتها أطلقت عليها اسم التفاحة وقد كنت أخاف عليها كثيرا وأعاملها مثل أولادي وأحذرها من أمور شتى قد تصادفها في عملية طلب المعونة هذه بل كنت أطلب منها أن تأتي لنا ولبيوت اعرفها في المنطقة للحصول على ما يكفيهم ومن دون طرق أبواب لا يــُعرف من  يختفي خلفها ، وقد غادرت العراق ولا أدري ما حل بها وأين هي الآن ومن أكل تلك التفاحة اليانعة وما فعلت بها أنياب الزمن المتوحش!

الطفل الذي كان يصيح بأعلى صوته (علاكَه علاكَه ) في سوق المدينة المختنق بالبشر  ، ما زال صداه مقيماً في أذني ونتذكره دائما أنا وأولادي الذين يكررون كلماته كلما مرت صورته عبر حديث يدور عنه ، كان طفلاً كسيحاً في قيظ العراق وزمهريره يبيع للمتسوقين أكياس النايلون لكي يضمن ما يقدر أن يضمنه من لقمة لعيشه وعيش أسرته، أي ظروف كانت تدفعه للعمل هل هو يتيم هل كانت له أم كباقي الأطفال أو ربما أب عاجز أيضا أو مريض يضطره وضعه البائس إلى دفع إبنه الكسيح للعمل ! 


تلك الطفولة المستلبة ومما لا حصر له من صور المعاناة ، ظلت معي بكل الحالات الإنسانية التي مررت بها ومرت بي ، تارة أقول إنهم غادروا كآلاف الأطفال إلى عالم السماء بسبب المرض والفاقة وسوء التغذية ، وتارة أقول إنهم  كبروا ولكن كيف كبروا  وما هي حالتهم الآن هل  كبرت البنتان لتغدو كل واحدة  طالبة جامعية ينتظر الوطن منها العطاء  ، هل تزوجن وهل إضطررن من قسوة العيش للسير في دروب وعرة  من أجل ضمان لقمة تمنحهن حق البقاء ، وكيف كبر ذلك الطفل الكسيح ربما لم يكبر وقد تصدّق عليه القدر بقبر ضم جسده الواهن  ليكون أفضل من سواه من باعة متجولين بعمر الزهور مزقت أجسادهم  شظايا الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة ، أسئلة كثيرة لدي ومن دون أن اعرف لها إجابة . لقد أنقضى يومان وهي معي لا أقدرعلى مغادرة دوامتها وما كنت أدري أن أجنحة الفراشة البيضاء  قادرة أن تفعل بي كل هذا! ويبقى لدي تساؤل أخير : ما الذي ستقدمه الحكومة العراقية من مفاجآت مفرحة لأطفال العراق عامة و لملايين اليتامى منهم بشكل خاص ويوم الطفل العالمي أضحى قاب قوسين أو أدنى؟؟؟ أم أن أولي الأمر في دولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعلمون أن هناك يوماً عالمياً للطفل تحتفي به كل دول العالم المتحضر!!!!

  كتب بتأريخ :  الجمعة 29-05-2009     عدد القراء :  2487       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced