الهروب من جمهورية كاتم الصوت
بقلم : عماد حسن
العودة الى صفحة المقالات

مؤخراً استطاع هادي المهدي الهروب من مصيره إلى الأبد، ذلك الذي ظل يلاحقه بإلحاح طوال سنين عمره القصير. أربعة وأربعون عاماً أو أكثـر قليلاً لكنها، على كل حال، لاتكفي لتأمل ما حدث أو اللحاق بأعوام هائمة كقطيع غاب راعيه.



لم يعن شيئاً من كل ما فعله في تلك الحياة القصيرة والمليئة بأحلام ورموز لم يحتملها مصيره وربما لم نحتملها نحن، نحن الذين شهدنا هروبه الأسطوري المبكر. هرب الرجل من مصيره المولود معه في ذات اللحظة التي جاء بها إلى الحياة. الصدفة وحدها من قررت مصيره الحزين والملتبس، مصيره الجغرافي أكثر من أي شيء آخر، البقعة الداكنة الملطخة بزيوت الأرض والتي تسمى العراق.
كثرة الباكين تقلل من سطوة الموت وتجعله مقبولاً، لكنها تزيد من غموضه والتباسه وتحيل الكتابة إلى ثقل بغيض دون طائل. تصبح ما يشبه تدوين يوميات على سطح بركة منسية ستجف بعد أيام أو محاولة إرسال مراث لعوالم غير موجودة في أي مكان. وهذه هي تماماً مزحة الموت الأبدية. ففي كل مرة  ندعي فيها فهمه، سرعان مايطل علينا ساخراً بليغاً مردداً مع القديس أغسطين: بأن كل موت هو أول وكل موت هو فريد.
ولد هادي المهدي وفي دمه يجري اسم سافحه وعلى مؤخرة رأسه، حيث مرقت الرصاصتان الساخنتان وحيث لم ننتبه لها كثيراً لأننا مقصيون عن الغيب، كُتب اسم من كانت له قدرة اجتراح موت صامت ووحشي. لذا كان يسعى دون علم منه وبغفلة منا جميعاً، إلى اجتراح أسبابه، المنطقية جداً في ذهن غائب ومتعال، للعودة إلى تلك النقطة التي سينطلق منها للعدم.
مَنْ منكم شاهد الموت وهو يتبع خطوات هادي، السندباد البري الذي اعتقد بطفولة الحياة فعاد ليواجه بلوغ الموت؟ كم منكم بإمكانه أن يشهد بأنه شاهد، قبل يومه هذا، رجلاً ميتاً يمشي ويأكل ويضحك ويحب ويذهب إلى احتجاجه الأسبوعي ومن ثم يعود لينام، مطمئناً، ربما، في ذات المكان الذي سَيُسفح عليه دمه ذات يوم. لماذا يبدو الموت محايثاً وعصياً على الفهم إلى هذا الحد؟
حسناً يارجل لماذا تورطنا بموتك؟ لماذا تولعنا بعبثك الذي طال حتى الموت؟
صامت هو الآخر كما الموت، كما الأرض التي عانقها لحظة سقوطه المدوّي، كما الآلة الصامتة التي اختطفت ضجيج الكون من رأسه، كما اللقطة التي تجمدت في عقله قبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة. ربما لم يغمض عينيه، ربما بقيتا مفتوحتين على اتساعهما لكن المؤكد إن الكون قد جمد بعدها.
ويبدو أن الصمت هو الشيء الوحيد الذي اتفق عليه الثلاثة، أقصد هادي وقاتِلَيه، الرجل الذي أطلق النار والمسدس الذي أطلق النار هو الآخر. الجميع صامتون، هادي الذي ذهب إلى أقصى الكون بزفرة مسدس والمسدس النائم في دُرج مظلم في انتظار رأس أخرى يرصدها الرجل والرجل النائم في أحضان زوجته الجميلة التي يعشقها.
هل يمكن لقاتل هادي أن يعشق؟ إذا كان نعم فلماذا قتله إذن؟
آه.. هادي لو كان للأسئلة صمت قاتليك!!
هل تعرف أن السكين هي أداة القتل المُثلى طوال تاريخ البشرية المخيف! مثاليتها تكمن في صمتها وفي إتقانها للغيلة. لذالك وطوال الأيام الأخيرة التي لم تعد فيها على سطح هذه الأرض، فكرت أن اغتيالك كان بسكين. ربما بسكين أوتوماتيكية صنعت بمصنع نظيف ولامع يعمل فيه آلاف الرجال الذين يريدون إطعام أولادهم الصغار، كأولادك الذين تركتهم للمجهول، أهنالك تناقض؟ لايهم.. لنعد إلى موتك النظيف. أقول نظيفاً لأنك لم تقاومهم ولم تراوغ طعنات رصاصهم. هل على المثقف مراوغة الموت؟ هل يستطيع؟
ربما فكر الرجل الذي قتلك، بيُسر موتك وسلاستك وأنت تُقْتل (ألم يقل أحدهم بأنك كنت تهم بتضييف قاتلك لأنه أحد أصدقائك؟). وربما طلب من ربه أن يكون كل ضحاياه من الحالمين أمثالك. وربما صلى ركعتين شكر لآله يبتسم له الآن وهو يراه يسوق إليه الأضاحي طمعاً في مرضاته. وربما كان طيباً ومُحتسباً يقوم الليل ويصوم رمضان ويصلي خمساً في اليوم ولم يرد إلا نصرة أحزاب الله الكثيرة والمنتشرة في هواء البلاد.
مَنْ يدري يا هادي.. مَنْ يدري؟!
بعدها انسحبوا إلى مناطقهم الخضراء الكثيرة وتركوك طافيا في بركة حمراء ثخينة هي كل دمك.
حسناً فعلت يا رجل بهروبك من هذه الجمهورية البغيضة ولا أقصد الجغرافيا هذه المرة، فمن السهولة مغادرتها كما فعلتها من قبل، بل قصدت أن تهرب من وجودها في رأسك، رأسك الذي فجروه بطلقتين ضئيلتين. ولو لم يفعلوها يا هادي لبقيت قابعاً في قدرك إلى الأبد.
حسناً فعلت برحيلك إلى أُمنا الطبيعة، عارياً كما أتيت إلا من امتلاكك حرية الذهاب، كأي حر آخر في الكون. استرح وانزع عن رأسك المثقوب بقايا جمهورية كاتم الصوت الخالدة. استرح وتأمل موتك العجيب ولا تنس أن تتذكر موتاك الذين هم نحن. وإن قدر لك أن تعيش حياة أخرى فلا تعود إلى قدرك. كن طيراً أو مسرحاً أو كتاباً، كن طفلاً يلهو برمل المجرات، كن صديقاً لنا في بُعدك. لكن إياك أن تعود، فالموتى الذين هناك أرحم عليك من الموتى الذين هنا.
كان بودي الاسترسال في وصاياي إليك، لكني مقيّد  بعدد الكلمات التي أقول أو أكتب، مقيّد بمؤقتيتي إزاء بقائك. فأنا مازلت بمواجهة قدري الذي هربت منه أنت.
وداعاً هادي المهدي. مَنْ عرفك نَدِمَ ومَنْ لم يعرفك نَدِمَ أيضاً.
ربما سنلتقي في بستان الله الذي ستمنع من دخوله قاتليك.. لكن ماذا سيفيد هذا بعد أن قتلوك بكراهيتهم؟ كل يوم ومنذ رحيلك أتذكر قول عمّنا بورخس فهو بحسه الكبير قارب هذا حين قال: كل حالة هي كيان مستقل. فلا الانتقام ولا العفو ولا السجن ولا حتى النسيان قادر على تعديل الماضي المتعذر.
المدى

  كتب بتأريخ :  السبت 24-09-2011     عدد القراء :  1819       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced