حكاية الغفران لماجدة الرومي في مستشفى"الرشاد"
بقلم : وائل نعمة
العودة الى صفحة المقالات

فراش من إطار معدني ، وفنجان من البلاستيك وبعض  الملابس الرثّة هي كل ما  يملك ( هـ. ك) " نتحفظ على اسمه الحقيقي لخصوصية المريض ". كان قد حصل على  شهادة البكالوريوس من إحدى الدول الأوروبية، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة  ليس عن الجرائم التي ارتكبها ، ولكن لمرضه!.

(هـ.ك) هو واحد من  1500  مريض يعيشون وراء القضبان في مستشفى الرشاد ، وهي مؤسسة الرعاية الصحية العقلية الوحيدة في العراق.
الطريق إلى "الشماعيّة "
الطريق من حيث انطلقنا إلى "الشماعية " – التسمية الشائعة – لم يكن بالسهولة التي تخيلناها ، فالمطبات والشوارع "المحفورة " والمياه الآسنة ، تملأ المنطقة المحيطة بالمستشفى، وواجهتنا صعوبة في الدخول إلى بعض الأفرع لأنها مفروشة بالأطيان والازبال  .
استمرت السيارة- التي تقلنا- بالسير قرابة الساعة في أزقة ضيقة ، يصطف بجانبها حيوانات جر "العربات " ، ويتجول في المنطقة أطفال شبه عراة وحفاة ، يقفون بالقرب من مخلفات الحيوانات التي تنتشر في المنطقة وتفوح رائحتها بشكل طاغ. ويبدو أن المنطقة هي تجمع لبائعي الغاز والنفط المحمول على ظهر "الحمير " ، وملتقى الشباب والأطفال "العتّاكة " الذين يبحثون في القمامة عن علب "البسبسي " وغيرها من المعادن .
طال بنا الطريق حتى اعتقدت أننا وصلنا إلى آخر نقطة في الكرة الأرضية بعد ان اختفى من حولنا الناس وأصبحنا وحيدين في المكان حتى شعرنا ببعض الخوف  .  لا اعلم السبب الذي دفع المعنيين الى  وضع المستشفى في هذا المكان البعيد و"المزري " .
يقول الأهالي: إن هذه المنطقة والتي تقع قرب "السدة " شهدت أحداثا عنيفة في فترة القتال الطائفي ، وهو المكان المقابل للمستشفى والذي تملأه المستنقعات. ويعتقد البعض بأنها لو جففت الآن لظهرت  الجثث "المجهولة " المدفونة في داخلها ويغطيها القصب!!.
عند بوابةِ "الرشاد"
وصلنا قرب البوابة الحديدية الكبيرة الخاصة بـ"الرشاد " ، وتقدم إلينا احد الحراس بالزي العسكري ، الذي بدا متعكر المزاج ولا يرغب بإدخالنا أو يبحث عن مبرر لدفعنا بعيدا عن الباب  حتى قبل أن يسألنا لماذا جئنا وعن أي شيء نبحث .
قال وهو يقرأ كتاب "تسهيل المهمّة " المعنون من وزارة الصحة إلى المستشفى ، والذي من دونه لا نملك الحق في الدخول " انتم  الصحفيون فضحتونا " ، وختم كلامه وهي يأخذ " أمر الصحة " بيده إلى غرفة الاستعلامات بضحكة باردة. أرسل إلينا رجلا ضخما وبملابس مدنية ليرافقنا إلى الداخل . تحركت السيارة إلى الأمام  فواجهنا مجموعة من الرجال المسنين الذي يرتدون "دشاديش " ويصرخون بأصوات عالية ، حينها قلنا " أهلاً بمستشفى الرشاد".
بدأت علامات الاستغراب تظهر ببطء على ملامح المستقبلين لنا من إدارة المستشفى ، ودب الخلاف بيننا وبينهم اثر رفضهم السماح لنا بإجراء المقابلات مع الأطباء والتجوال في ممرات "الرشاد " ، على الرغم من أننا وضعنا أمامهم ورقة رسمية من وزارة الصحة تؤكد إمكانية إجراء التحقيق في المستشفى ، ولكن على ما يبدو أن نزاعا على الصلاحيات حدث بين الوزارة ودائرة صحة الرصافة، التي رفضت استمرار وجودنا في هذا المكان. وبعد مداولات طويلة استطعنا أن نقنع احد المسؤولين هناك بإجراء التحقيق ،  ولكنه أكد انه "يخشى منا ويعرف ماذا نريد أن نظهر للقارئ من أمور سلبية"!
أرسل معنا رجل من الإعلام الخاص بالمستشفى وكان الأخير حريصا كل  الحرص على إلا نشاهد أي مريض او نلتقط صورة لأي ركن " قد يثير الرأي العام "، وكان يتمنى أن يمسك بأيدينا كمن يرافق طفلا الى المدرسة في يومه الدراسي الاول!.
الموسيقى بدل "الكهرباء "
في الباحة الخارجية لـ"الرشاد" حيث كانا متوجهين الى "المشاغل " الخاصة بالمرضى ، كانت المساحات الخضراء فقيرة والأشجار تشكو العطش والإهمال، وهو ما اعتبره وكيل مدير المستشفى للأمور الإدارية :انه أفضل ما يكون ، معللا الإهمال بقلة الفلاحين الذين لا يتعدون الستة أشخاص، والذين يعملون على ارض مساحتها 90 دونما.
قبل الوصول إلى  المشغل أو ما يسمى بـ"المشاغل التأهيلية "، صادفنا عدد من المرضى يحملون "عصي" كالتي يستخدمها "رعاة الغنم " ،  يجلسون بجانب مجموعة من الأغنام .
يقول عنها مسؤول "المشاغل " بأنها جزء من التأهيل العلاجي للمرضى فهم يحبون أن يكونوا "رعاة "
في المشاغل وجدنا قاعة كبيرة نسبيا ومزينة بالألوان وبأحواض السمك ، تتوسطها "سبورة " بيضاء كتب عليها أشبه بجدول حصص المدرسة، ووضع على المناضد الزجاجية المنتشرة في الغرفة أوراق بخطوط مبعثرة استطعت أن اقرأ إحداها بصعوبة لرداءة الخط ، وكانت رسالة إعجاب من احد المرضى  بالمطربة ماجدة الرومي ويطلب في الرسالة من الله أن يغفر لها.
يشير مساعد الطبيب كريم ومسؤول العلاج التأهيلي في المستشفى الى ان هذا الجانب مهم في مراحل علاج المريض ومكمل للأدوية . مؤكدا تطبيقهم منهاجاً جديدا في العراق يكاد يكون منفردا في المنطقة العربية يعتمد على مجموعة برامج لتأهيل المريض وإعادة اندماجه في المجتمع بعد الشفاء ، ويتضمن حصصا في الموسيقى وجلسات في الاسترخاء، ومحاضرات في سبل مواجهة الحياة.
ويضيف "  استطعنا من خلال برامجنا أن نستغني عن الجلسات ( ect ) "الكهربائية " عبر الغناء والموسيقى الهادئة والرسم ". لافتا إلى وجود مواهب من المرضى في الغناء والعزف على آلات الموسيقى المختلفة .
البرنامج الجديد يعرض لنا احد المرضى الذي يطلق عليه بالمفاهيم الطبية النفسية  " تخشبي " ، ويعني بأنه يحتاج إلى جلسات كهربائية ، بسبب رفضه الكلام وانعزاله عن الجميع  ، لكن استطاعت الموسيقى تغيير وضعه الصحي، وأصبح يطلب التواصل مع البرنامج الموسيقي ويرفض الخروج من الدرس .
ويؤكد كريم : الموسيقى تعيد الذاكرة للمريض لأنها تعود به الى  حقبة معينة . مضيفا :  نفكر بإنشاء فرقة موسيقية من المرضى ، فضلا عن أنهم شاركوا في مهرجان الربيع في داخل المستشفى مع المنتسبين وألبسناهم زيا موحدا حتى نقلل "الوصمة " على المريض " حتى أصبح من الصعوبة التفريق بينهم .
المرضى يشاركون في عروض مسرحيات متعددة منها "الغريب " و"شيزوفرينيا " ، ويسعى القائمون على العلاج التأهيلي إلى إلحاق كل الراقدين في المستشفى ببرنامجهم الخاص  ، لكنهم يواجهون مشكلة قلة الكادر والحاجة إلى ورش للعمل وقاعات جديدة ، لأنهم  التي لا يملكون غير واحدة فقط .
قاطعنا اتصال من دائرة صحة الرصافة يؤكد رفضه إجراء "كادر المدى " لقاءات في المستشفى ، وبدأت جولة الاتصالات من جديد ، حتى اعتذرت الصحة بشكل لائق ومحترم لـ"المدى " عن عدم قدرتها حل الموضوع بسبب تعنت "صحة الرصافة "!
لم نستطع بعدها إكمال العمل واعتمدنا على معلومات سطحية من بعض العاملين، وعلى حوارات خجولة .
ممنوع الدخول !
استطعنا من خلال المصادر القريبة في المستشفى والتي رفضت ذكر اسمها ، الحصول على بعض المعلومات المتعلقة بحالة المرضى والردهات الداخلية التي منعنا منعاً باتا من دخولها.فعلى طول ممرات الرشاد توجد أقفال  ثقيلة معلقة على الأبواب المعدنية لتأمينها من الاختراق ويحظر فتح جميع النوافذ حتى لا تمر أنوف " الصحافة " الحشورة.
يؤكد احد العاملين انه في باحة واحدة من العنابر الخاصة في المستشفى  يجلس عشرات الرجال  على الأرض في انتظار الغداء. التي تصلهم في أوعية معدنية كبيرة ، ومغرفة الأرز والعدس توضع على لوحات ورق ، وتستقر مرة أخرى على أرض الواقع. ولا توجد أي كراسي او طاولات."الغذاء أمر فظيع وليس هناك ما يكفي" ، كما يقول العامل. مضيفا دمرت سنوات الحرب عمليا النظام الصحي في البلاد ، مما تسبب في هروب الآلاف من الأطباء وترك المستشفيات دون الأدوية والمعدات.
بالمقابل، يؤكد حسن عوفي المعاون الإداري للمستشفى أنهم يقدمون 4 وجبات غذائية يوميا، من ضمنها وجبة فاكهة. (ونحن لم نستطع أن ندخل إلى المطبخ) !
معظم المرضى في الرشاد يعاني الانفصام  المزمن ، ويقول الأطباء إن ما يقرب من نصفهم يمكن أن يعيش في المنزل ، ولكن الحرب التي أفقدت ذويهم  ووصمة العار التي تحمل على المريض دفعهم إلى الاحتفاظ بهم في المستشفى.

انقطاع التواصل بين المرضى وذويهم
"الإهمال هو المشكلة الأكبر التي يشعر بها المريض من قبل ذويهم "، حيث يؤكد المتخصصون هناك :أن 10% فقط من النزلاء يزورهم ذويهم ولكنهم لا يريدون استعادتهم  . لافتين الى ان التواصل مع الأهل أمر ضروري في إكمال العلاج . 
ويقول معظم المرضى الراقدين في "الرشاد " أنهم لا يملكون أي شخص يستطيع إعالتهم وأسرهم تركتهم ،والمجتمع لا يقبلهم  ، وهم هنا فيما يشبه  السجن " .
يرفض المعاون الإداري تسمية المستشفى بالسجن ، مشددا على أنها مستشفى اعتيادية وتعليمية ، ولكن فترة الرقود للمريض تطول ربما لعشرين عاما.
"عوفي" ينفي وجود حالات هروب حدثت في "الرشاد " حتى في فترة الحرب والعنف الطائفي ، وان المريض يمكن أن يخرج بعد نهاية العلاج دون أن يمنعه احد.
على الرغم من ان المعاون الإداري اقر بان القوات الأمريكية في فترة ما بعد الحرب ألقت القبض على المدير السابق للمستشفى دكتور ساهي بتهمة يقول عنها بأنها "غير حقيقية" .
و كانت مصادر قد ذكرت بان الكثير من العاملين القي القبض عليهم وآخرين تم قتلهم في فترتي الحرب والعنف الطائفي  ، وفر الموظفون الآخرون ، ونهبت مباني المستشفى ، والمئات من المرضى لاذوا بالفرار. يقول المريض "(هـ.ك) "  "لقد كانت مخيفة ، مخيفة جدا ، والناس من الخارج هاجمونا في المستشفى" ، كما يتذكر - حسب وصف احد العاملين-
انه تم العثور على بعض المرضى يتجولون في الشوارع ، وكان يعاد بهم إلى "الرشاد " من قبل الجيران ، ولكن البعض الآخر لم يعد أبداً. يقول بعض العاملين "كانت هذه منطقة حرب ، وهربنا من المستشفى فقط لننقذ حياتنا ".
"وصمة " مستشفى الشماعيّة
الأطباء والعاملون هناك يعانون "وصمة " مستشفى "الشماعية " كما يحلو للبعض تسميتها ، يشير المعاون الطبي "كريم " الى انه يسكن في منطقة قريبة من مكان المستشفى ، وانه اعتاد على نظرة المجتمع حين سماعهم بأنه يعمل في "الرشاد " ، فبعضهم يضحك والآخر يخاف ، لكنه يقول " أحب المرضى وأحب عملي " .
الكثير من الأطباء يرفضون العمل هناك ، وحين يأتي الأمر الإداري من وزارة الصحة بنقل احد الأطباء إلى "الرشاد" ، تصيبه حالة من الكآبة ، سرعان ما تزول بعد فترة ويمتنع عن النقل وترك المستشفى ،-حسب وصف احد العاملين هناك-  الذي يضيف قائلا : أنها مستشفى مريحة وتعمل مع نوعية مرضى لا حول لهم ولا قوة ، وغالبا ما تتعاطف معهم وبسرعة ولا تستطيع تركهم ".
المعاون الإداري حسن عوفي يضع " وصمة " ونظرة المجتمع إلى المريض والطبيب الموجود في المستشفى بأنه في مكان يملأه "المجانين " احد الأسباب التي يعانيها المكان وتؤثر سلبا على حالة النزلاء.
أمراض الشذوذ الجنسي
يتم تشغيل المستشفى بكامله من قبل عدد قليل من الأطباء يقل عن عشرة أشخاص ، ولو أننا لم نلتق بغير طبيب واحد .ويقول احد العاملين "لدينا أخصائي أمراض جلدية لأكثر من 1000 مريض " . وتنتشر في المستشفى وحدات خاصة بالأمراض النفسية من ضمنها ما استحدث مؤخرا وهي شعبة الاضطرابات الجنسية ، التي تعنى بحالات الشذوذ الجنسي والأمراض النفسية الجنسية ، يقول الطبيب سالم الزبيدي المسؤول عن القسم الجديد " استعطت أن اجلب الى المركز على الرغم من خجل المريض ، أكثر من 300 حالة " . مؤكدا أن اغلب الأمراض النفسية الجنسية تنحصر في قضايا البرود الجنسي والشذوذ .لافتا الى ان حالات العلاج  في تصاعد لاسيما بعد أن لمس الكثير منهم نتائج ايجابية بعد العلاج.
وينوه الزبيدي بان المستشفيات الخاصة بالأمراض النفسية تعاني أمراض الشذوذ التي تكثر في المجتمعات الأحادية ، التي تضم "رجالاً أو نساء" فقط.
أمراض ما بعد 2003
أطباء النفس في العراق يقولون: إن الحرب والعنف وازدياد  عدد القتلى اثر بشكل كبير على الصحة النفسية بأكملها ، وأن عددا من الاضطرابات العقلية آخذة في الارتفاع في جميع أنحاء البلاد. مؤكدين أن الطلب على العلاج النفسي سوف يرتفع  بسبب ما حدث على مدى السنوات الماضية .
وتسعى وزارة الصحة الى إعداد برنامج جديد ، يهدف إلى إنشاء مراكز الرعاية النفسية في المستشفيات في أنحاء البلاد.ولكن وحسب وصف الأطباء فان هذا قد يستغرق سنوات في بلد يبلغ  عدد سكانه ما يقرب من 30  مليون نسمة ،بوجود 70 طبيبا نفسيا فقط.
يعتقد الطبيب الشاب جاسم حنون " طب عام " : أن  في هذه الأيام لم يعد تخصص الطب النفسي  مهنة أكثر جاذبية،  فالشباب يفضلون الذهاب إلى الجراحة أو طب الأسنان ، حيث انه الأسهل لكسب المال" . مشككا في مدى قدرة المراكز الجديدة للأمراض النفسية على إحداث فارق كبير للمرضى في  الرشاد.
وكان قد أشار تقرير سابق صادر عن منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية الى  انه بعد سنوات من الحرب والعنف يوجد في البلاد واحد من كل ستة عراقيين يعاني مرضا عقليا ولكنه يرفض العلاج الطبي بسبب المحرمات.
وفقا لهذا التقرير فقد كشف ان  16،5 ٪ من العراقيين يعانون أمراضا عقلية ولكن فقط 2،2 ٪ منهم من حاول التماس العلاج. وشملت الدراسة الحالة النفسية لـ 4332 شخصا على مدى 18 سنة من العمر، في جميع أنحاء البلاد. واضطرابات القلق والاكتئاب هي الأكثر انتشاراً  وحسب التقرير ، فإن العراقيين يبدون قدرة كبيرة على مقاومة آثار العنف في حالتهم النفسية. وعثر على مستويات من أمراض الاضطراب النفسي  ما بعد الصدمة في 3،6 ٪ من الذين شملهم الاستطلاع ، الذي كان أقل مما هو متوقع من قبل خبراء المنظمة.
المدى

  كتب بتأريخ :  الإثنين 26-09-2011     عدد القراء :  1903       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced