الربيع العربي وخيار الديمقراطية: الأسباب ـ المخاطرـ الآفاق
بقلم : د.عامر صالح
العودة الى صفحة المقالات


" متى يتعلم الإنسان أن يوفق بين اندفاعاته العاطفية والدينية وبين مبتكرات العقل يتسع نطاق الممكنات عنده "
                                                                                                        غوستاف لوبون
إن الزخم الجماهيري والشعبي الذي تتمتع به ثورات الشباب الربيعي اليوم في الوطن العربي يذكرنا في الكثير من مظاهره في ذات المد الجماهيري الذي عصف في المنطقة العربية في حقبة النضال ضد الاستعمار والذي أدى إلى انجاز بعض من مهمات مرحلة التحرر الوطني المتمثلة بنشوء " الدولة الوطنية " وإرساء بعض من ملامح الاستقلال الوطني من خلال المحاولات لتأسيس البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة للاستقلال الفتي. فكما كان لذلك النضال مبرراته التاريخية والموضوعية المتمثلة في طرد المستعمر والخلاص من وصايته المباشرة, فكذلك الحال  بالنسبة لأسباب الربيع العربي, فهو الآخر له أسبابه الموضوعية والتي تكمن في توقف الزمن لأكثر من نصف قرن في العالم العربي تحول فيه الاستقلال واختزل إلى دول عربية بوليسية لا قيمة لمعنى الاستقلال الحقيقي فيها, فقد اندمجت وتوحدت بل انصهرت الدولة في النظام وانحصر النظام جملة وتفصيلا في ترسانة الحزب الواحد وقائده أو زعيمه وفشل مشروع الدولة الوطنية الذي قدمت من اجله الحركة الوطنية قوافل من الشهداء, من مواطنين ومناضلين وقيادات  وطنية وميدانية !!!!.

لقد اختزلت الدولة ومفهومها وجعلت منها أداة طيعة بيد الحزب الحاكم, بل جعلت من الدولة أداة تابعة للحزب وفي خدمته حصرا ولضرورات بقائه, وأصبحت الدولة لاحقة لا سابقة على نظام الحكم, الذي ينبغي أن يكون الحزب محكوما بالقواعد الأساسية للدولة, بل سيطر الحزب على الدولة وعلى أجهزتها العسكرية والأمنية وعلى مؤسسات المجتمع المدني, وقد أضفت على ذلك شرعية " دستورية " من خلال التكريس القانوني لقيادة الحزب التاريخية وبدون انقطاع, وإيجاد هيكلية موالية للحزب في كل السلطات, التشريعية منها والقضائية والتنفيذية, بل وحتى سلطة دينية شمولية ومرجعية لها رموزها ومنظريها, ودمج كل هذه السلطات فكرا وممارسة في فكر وممارسات الحزب القائد, مما سبب في نشوء أوضاع شاذة ومرضية استمرت لعقود, أدخلت الوطن والمواطن في غيبوبة انعدام الفهم الصحيح للوطن والمواطنة ولمفهوم الحرية والعدالة الاجتماعية, وتشويه معنى الدولة التي يفترض أن تكون في خدمة الشعب أولا وأخيرا, فلا مجال لآليات الفصل مابين " القوة والسلطة والحاكم" ولا مجال لآليات صنع القرار السياسي المستقل من خلال الإرادة الحرة الديمقراطية !!!!.

ولا نستغرب والحالة هذه أن تستدرج أجهزة الجيش والدفاع والأمن إلى حماية الحزب الحاكم وحاشيته, بعد أن تحول الحزب إلى المالك الوحيد لهذه الأجهزة وتأتمر بإمرته, فتتحول هذه الأجهزة بفعل الدور الذي تؤديه إلى أجهزة قمعية للمواطن وليست في الدفاع عن أمنه وسلامته من الأخطار الخارجية والداخلية الحقيقية, طبعا إلى جانب إمكانيات الحزب وأجهزته في إقحام المجتمع بالمشكلات والصراعات القبلية والطائفية والمذهبية والاثنية وزجها في آتون الصراع المميت في اللحظة المناسبة ولأغراض بقاء الحزب ونظامه في الحكم بأي ثمن, بل إن بعض من هذه الأحزاب ذهب بعيدا وأنهى الدولة ومؤسساتها لأنها تشكل ضغط وعائقا وعبئا عليه حتى وان كانت تحت إمرته, كما في نموذج نظام معمر ألقذافي التعسفي, الذي حول الدولة إلى ركام وحول المجتمع إلى شتات قبلي أصم لا تعرف فيه إلى أين المسير !!!!.

ويمكن القول هنا أن ثورات الربيع العربي لم تكن ولادة قيصرية في سياق اجتماعي هادئ ومستقر, أو استجابة انفعالية لأخذ " الثأر العربي " عن دم الشهيد البوعزيزي الذي فجر الثورة التونسية, بل هي تعبير عن نضوج العوامل الموضوعية لإحداث الفعل الثوري وتجسيد حي لمنطق التاريخ وحكمه, فالثورات لا تحدث في الفراغ أو هي فعل عبثي يقرره الجموع الثائر, بل تحدث نتيجة وجود مقدمات وشروط محددة تبرز في إطار تطور المجتمع, تؤدي إلى وجود تناقضات أساسية تتحدد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج, وشكل التملك الخاص, ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة " وهي في بلداننا تشكل النظام العربي وحاشيته " ضد فئات الشعب, وتؤدي هذه التناقضات إلى نشوء " أزمة سياسية " عميقة تحمل معها نشوء حالة " ثورية " تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة, مثل الاضطرابات والمظاهرات والاجتماعات والاعتصام, وان الحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها !!!!.

وفي العالم العربي حيث توقفت فيه عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعقود خلت, أفرزت ظواهر الفقر المدقع, والتدهور المستمر للحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, والعلمية والصحية, والتعليمية والخدمية, وانخفاض مستوى العيش بصورة عامة, وفي وقت عملت فيه الأنظمة الاستبدادية عبر عقود على منع تشكيل أي كتلة حرجة ثورية منظمة ومقاومة عبر ممارسات التفتيت والإجهاض والترغيب والترهيب والرقابة الأمنية والبوليسية المشددة وأبعاد وقتل أي بادرة للتفكير البديل. ونستطيع القول هنا انه لا توجد شريحة اجتماعية واقتصادية إلا ولحق بها التهميش والحرمان والإقصاء باستثناء النظام وحاشيته. لقد خلقت هذه الأوضاع نواة التغير الثوري في رحم هذه الأنظمة. وعلى خلفية ضعف دور العامل الذاتي المتمثل بضعف الأحزاب السياسية التاريخية والنخب السياسية الحقيقية, جاءت الثورات العربية شبابية بطابعها العام متأثرة بعوامل كونية, كالثورة المعلوماتية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة, الذي سهل اندماجهم في مجموعات فاعلة وايجابية وشكل لديهم دافعية اكبر للفعل الثوري تتجسد ملامحه واضحا اليوم على الأرض العربية مبتدئة بالشرارة التونسية المعجلة لذلك, إلى جانب كون الشباب يشكلون كتلة سكانية كبيرة تتجاوز نسبة 50% من مجموع السكان, وبالتالي فهي معنية بالتغير والمستقبل قبل غيرها, إلى جانب الشرائح السكانية والاجتماعية الأخرى !!!!.

أن الثورات العربية اليوم ليست معنية فقط بإسقاط النظم الاستبدادية, فتلك هي خطوة أولى في مسيرة الألف ميل كما يقال, ولكنه ليست هدفا لذاته, وبالتالي تشكل التحديات والمهمات الداخلية والخارجية والقدرة على إيجاد الحلول لها من ابرز المعضلات التي تقف أمام الثورة ونظمها الجديدة القادمة ووضعها على طريق المستقبل الذي ينشده الجميع. ولعل ابرز هذه المهام والتحديات هي: تحديد الهوية والانتماء فيما يتعلق بالدولة وطبيعتها ومرجعيتها, وهي قضية تأخذ من الاهتمام والقلق الكافي في الشارع العربي ونخبه المثقفة, وتتمحور حول الدولة المدنية, والمرجعية الإسلامية, والنظام العلماني, وحقوق الأقليات الدينية والعرقية والانتماء العربي والإسلامي وحتى الإقليمي. ويشكل بناء نظم تؤمن بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة من خلال ممارسة الديمقراطية الحق عبر صناديق الاقتراع, إلى جانب الإيمان بحرية التعددية الدينية والمذهبية والقومية والثقافية والاجتماعية للأقليات وحمايتها هاجسا مشروعا في تأمين دولة المواطنة والوطن للجميع. ونتذكر جيدا تجربة العراق ودستوره الذي تحول إلى ألغام بدأت تتفجر عند تنفيذه على ارض الواقع وإشكالات مستعصية على الحل إلى زمن غير معلوم !!!!.

تنوء المنطقة العربية بإرث ثقيل من التخلف والفساد والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية, وهناك أولويات للثورات العربية, وهي إعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية, وإعادة بناء علاقات سليمة وعادلة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج, بما يوفر المزيد من فرص العمل عبر إعادة هيكلية الاقتصاد, واستحداث المزيد من المشاريع الإنتاجية والخدمية, ويشكل ذلك ضمانة لتحسين ظروف الحياة الإنسانية والارتقاء بها, إلى جانب محاربة الفساد الإداري والمالي والاقتصادي, والاستغلال الأمثل للموارد والثروة الوطنية, وقبل ذلك كله استتاب الأمن الوطني والاجتماعي باعتباره الشرط اللازم لانطلاق الحياة من جديد  !!!.

وبفعل ما تعرضت له الأحزاب والأفكار المعارضة من قمع وتشتيت وإقصاء خلال عقود تظهر آثاره جليا بعد سقوط أنظمة الاستبداد في فراغ المؤسسات والهيكليات والأفكار اللازمة لإعادة البناء, مما يسبب بعض من الفوضى تشكل ارض خصبة للانقسامات والأخطاء التي تنجم عن إذعان منفعل ومتسرع لجهة ما أو المطالبة بمطالب يستحيل تنفيذها على الفور, ومن هنا تأتي أيضا أهمية الحفاظ على ما هو ايجابي من بقايا النظام السابق, من مؤسسات وكادر وقيادات مهنية وتقنية وعلمية وعسكرية وخبرات مختلفة لازمة لبناء الوطن لاحقا. وفي الوقت الذي لا يجري التسامح به مع من تلطخت أيديهم بجرائم ضد الإنسانية في نظم الاستبداد, يجب الابتعاد عن التصفيات الجسدية  والعنف العشوائي الذي يخلق بدوره عنف مضاد وترك ذلك للقضاء الجديد العادل, وخلاف ذلك فأنه يدخل البلدان في دوامة العنف والصراعات المستديمة, السياسية منها والدينية والمذهبية, الأمر الذي يهدد مستقبل الثورات العربية, ويشكل أرضا خصبة لانتعاش التطرف والإرهاب بمختلف أشكاله الدينية والسياسية والعرقية !!!!.

ومن القضايا التي ستسهم برسم ملامح مستقبل الثورات العربية هو ظهور حركات الإسلام السياسي على الواجهة وباندفاع اكبر مما مضى, على الرغم من أن هذه الحركات لم تكن ملهمة للثورات العربية كما لم تكن رائدة لها, إلا أنها سارعت للالتحاق بركب هذه الثورات وانخرطت في صفوفها بل وتوجيهها في محاولة منها للمشاركة الواسعة في الحكومات القادمة, كما تحاول جاهدة لتقديم نماذج معتدلة عن الإسلام السياسي. وفي الوقت الذي لا نؤمن فيه بإقصاء أي طرف مهما كان توجهه للمشاركة في السلطات والحكومات القادمة فذلك منطق الديمقراطية الحق, تبقى هناك أسئلة مشروعة في أذهان اغلب المراقبين والمهتمين بشأن الثورات العربية وآفاقها, ومن هذه الأسئلة الملحة هي: ماذا تعني الديمقراطية بالنسبة للإسلام السياسي, هل تعني آلية فقط للتصويت ومختزلة في صناديق الاقتراع التي تمكن الأغلبية من فرض تصورها وقيمها على الأقلية, أم أن التصويت هو احد آلياتها الأساسية في قواعد اللعبة وقيمها وأسسها الفكرية والفلسفية الضامنة لعدم اضطهاد الأغلبية للأقلية مهما كانت, وذلك أن الاضطهاد والحرمان من الحقوق الأساسية وعلى رأسها حرية التعبير, ينفي وجود الديمقراطية كيفما كان شكل الانتخابات ونتائجها, هل هناك " خصوصية ديمقراطية " للإسلام السياسي تختلف عن المفهوم الكوني للديمقراطية الذي لا يسمح لأية خصوصية " إلا ببعض السياقات التي تختلف من مجتمع للآخر" والتي تقف على رأسها احترام الحريات وفصل السلطات وسمو القانون والتدبير العقلاني للشأن العام والابتعاد عن فرض قيم دينية بشكل شمولي, وغيرها من الأسئلة ذات الصلة المباشرة بتحديد سقف و مدايات الديمقراطية الموعودة !!!!.

وعلى الصعيد الخارجي الذي يمثل تحديا آخرا أمام ثورات الربيع وحكوماتها القادمة, فنحن نعرف كما يعرف الآخرون أن الغرب وأمريكا لهم مصالحهم الإستراتيجية في المنطقة ودولها, وعلى هذا الأساس جاء سلوكهم متقلبا فيما يخص الثورات والموقف منها وخلط ما بين هو أنساني وديمقراطي ومصلحي, فعندما أحست أمريكا بقرب زوال النظام المصري والتونسي قدمت نفسها نصيرا لشعبي البلدين, وفي ليبيا في مرحلتها الأولى, ثم أظهرت تحفظا حيال الأحداث في سوريا ثم موقفا أكثر تشددا لاحقا, وكذلك الحال بالنسبة لفرنسا من تعاون قصي بين نظام ألقذافي إلى عدو لدود تقود ضده العمليات العسكرية, وكذلك الموقف من اليمن بين السكوت والدعوة إلى الإصلاح من داخل النظام إلى رفع يدها عن النظام لاحقا, إلى جانب السكوت والمجاراة للكثير من أنظمة خليجية قمعية. وإذا كانت السياسة مصالح متداخلة بين جميع الأطراف بالدرجة الأولى, فعلى حكومات الربيع العربي أجادة اللعبة وامتلاك الحس الاستراتيجي في إقامة التحالفات الخارجية بما يضمن المصالح العليا للأوطان, وخاصة في ظروف نحتاج فيها الغرب وأمريكا لإعادة البناء وبالمقابل سيجد الغرب وطأة قدم للحصول على المزيد من عقود النفط والمشاريع الاقتصادية, وخاصة في ظروف لا يزال التحالف الأمريكي والإسرائيلي والأوربي على أشده ولم يميل كبيرا لصالح القضية الفلسطينية وعدالتها !!!!.

وختاما نقول أن الديمقراطية وبنائها ليست عمل سهل ومناط فقط بما يجب أن تقوم به الحكومات القادمة ولن تأتي جرعة واحدة, فذلك مجافاة لظروف المجتمعات التي تعتبر ببعض من وجوهها معوقا للديمقراطية ونشأتها بسلاسة, فهناك منظومة القيم التقليدية الموروثة, من ثقافة تقليدية وأنماط سلوكية مانعة بطبيعتها للديمقراطية, والتطرف السياسي والديني والإيديولوجي الشمولي, والفتن الطائفية والمذهبية والعرقية, ثقل الكتلة البشرية الذي يسببه الانفجار السكاني الذي تسببه ارتفاع نسبة الولادات المستمر حيث تبلغ نسبته أكثر من 3% سنويا والتي تلقي بآثارها السلبية على عمليات التنمية القادمة لتحسين ظروف الحياة المعيشية, الموقف المتخلف من المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية, تفشي الأمية الأبجدية والحضارية وآثارها السلبية في تقبل التغير الايجابي, وغياب منظمات المجتمع المدني, إلى جانب ضعف تقاليد العمل السياسي الضامن لبناء الديمقراطية, وغيرها من العوامل التي يصعب حصرها, إلا أن خطوة الألف ميل قد بدأت وان ساعة صفر بناء الديمقراطية لابد لها أن تستمر فذلك منطق البقاء للأصلح !!!!!. 

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 28-09-2011     عدد القراء :  1785       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced