أسلمة الأرض وتبعيث السماء
بقلم : عماد حسن
العودة الى صفحة المقالات

في حقب الدكتاتوريات (التي لم نخرج منها بعد)، يصعب أن نقرر من هم الأعداء  ومن هم الأصدقاء. هذه الفكرة التي غالباً ما أجد نفسي بمواجهتها حين أفكر  في الماضي القريب الذي نجونا منه بمعجزة تساوي معجزات الأنبياء ذاتهم.  المعجزات تلك، كانت أيضا صيغاً بدائية لصدف محضة أستطيع اليوم تصنيفها على  أنها تجليات ساخرة لزمن غارق في جديته. أهناك أكثر جدية من الموت؟ ذلك الذي  يضع حداً لكل سخرية ممكنة.



أتذكر هذا في مقارنة (لا تصدر إلا من بطر على الحياة) بين مصائر الكثير ممن عرفتهم وأحببتهم؛ أصدقاء وجيران، زملاء صف، رفاق تسكع، رفاق طفولة وأقارب. واحد ربما كان الأقرب إلى نفسي في تلك السنوات وكذالك واحد من الذين حصلوا على أشد المصائر حزناً وإيلاماً، هو ابن عمتي (جبار). لا أعرف! عليَّ أن أتذكر جيداً هذا الصبي، فالسنوات التي مرت فيما بعد كفيلة بمحو أي ذكرى حدسنا أنها عصية على الانمحاء.
كان العام 1991 وكنت عائدا (إلى الناصرية) من البصرة مخلفاً ورائي أربعة أعوام جامعية مجنونة قضيتها (بمحض الصدفة أيضا) في بقعة هي ساحة حرب أكثر من كونها مدينة. كانت الحرب على الأبواب وكنا مستبشرين بان الخاسر الوحيد في هذه الحرب سيكون نظام البعث الذي أثقل أرواحنا بمشهد دم طويل. كان ذلك قبل أن تصرخ جموع مُدَوّخَة بخمور الدكتاتورية: (ماكو ولي إلا علي، ونريد قائد جعفري) فقلبت أميركا موازين الحرب وأطلقت يد صدام ليعاقبنا على قصر نظرنا وطائفيتنا المضمرة. في هذه الأيام العصيبة ونحن ننتظر الحرب بتوجس أقرب إلى الرجاء، حدث ورأيت ابن العمة ذاك كان بمثل عمري وكان وسيماً، هادئاً وعميقاً كعادته. جلس أمامي صامتاً متأملاً ابنه الصغير (وسيكون الوحيد) الذي كان يخطو خطواته الأولى بطريقة أقرب للتدحرج منها للمشي. انتبه إلى نظرتي التي بَقيتْ معلقة في ذهوله وحيرته كقطرة ندى وحيدة على ورقة شجر منسية، نظر إلي وكأنه يراني للمرة الأولى منذ سنوات. ابتسم بمرح مبالغ فيه لكنه لم يخف حزناً جلياً استطعت أن اختزنه في ذاكرتي بعد كل تلك السنوات.
منعتني من رؤيته مرة أخرى ظروف القيامة التي فتحت الطائرات غطاءها السري على أكثر الأماكن حميمية وقرباً إلى نفوسنا واستكملتْ بذلك مجزرة تركها صدام في منتصفها. أعقبت ذلك انتفاضة الخارجين من حربين خاسرتين؛ قُطعتْ طرق السماء والأرض خلالها وانتهينا إلى ضياع شبيه بنجوم فاجأها الصباح. ذهب كل منا في اتجاه مختلف وكأننا خاضعون لأقدار (لا يبررها إلا عبث قادر) رُسِمتْ خطوطها قبل ملايين السنين.
علمتُ (وأنا نزيل معسكر للاجئين على حدود العراق مع الكويت) بأن ذلك الفتى الحالم قاتل لثلاثة أيام متواصلة دون طعام أو نوم حتى أصيب برصاصتين في ساقه ووقع أسيرا بيد قوات جيش واستخبارات صدام. فهمت حينها بوضوح (لم أشهده من قبل) سر تلك النظرة الحزينة والشبيهة بالغيبوبة، التي كان يوجهها لابنه الصغير.
ومن بين أصدقاء ثلاثة (كنتُ قريباً منهم). أوراس الكردي الأشقر المولود في مدينة الشطرة والذي هرب وعائلته إلى شمال العراق بعد احتلال الجيش للمدن (وهو الآن يحتل منصباً مرموقاً). وتحسين مجيد، المنحدر من عائلة شيوعية صلبة قضى معظم أعضائها مقتولين غيلة. المتدين الصلب، بمثل صلابة شيوعية عائلته، هرب إلى إيران وعمل مع المجموعات الدينية هناك (عاد للعراق متخفياً ونفذ مع اثنين آخرين عملية اغتيال عدي صدام حسين الفاشلة، واغتيل هو الآخر في إيران فيما بعد وصورته الكبيرة تستقبل القادمين قبل ولوجهم جسر الشطرة الرئيسي).
أقول من بين الأصدقاء الثلاثة، بقي (جبار) أكثر المصائر مدعاة للأسى. إذ لم يسمع عنه أحد ولم يره أحد كذلك (ذكر أحدهم لعمتي الهائمة على وجهها منذ ذلك الحين، بأنه في أحد سجون الرضوانية، في بغداد، رأى جبار يقتاده اثنان من الحرس وهو يعرج وقد نمت لحيته وبدا كميت يمشي). ولم يستطع أحد من تأكيد هذه المعلومة. وجابت عمتي المسكينة كل السجون وكل المواقف وكل المعتقلات، كل دوائر الأمن والاستخبارات وبعد 2003 فتشت المقابر الجماعية قبراً قبراً سألتْ الناجين من تلك المحرقة فردا فرداً، شكت، صرخت، بكت، قبلت أيدي كل الذين جاءت بهم أمواج ذلك العام المخيف؛ ولم تجد شيئاً.
بعد عودتي إلى العراق عام 2007 زرت عمتي، وكانت عمياء، كليلة وضئيلة ككوم رماد مبتل. قبلتني وقالت لي: أنني آخر الأشياء التي تذكرها بابنها البعيد (ما زالت تعتقد بحياته). أنا الذي أخرجتني الصدفة لفيلم صامت، جلست في ذات المكان الذي جلست فيه معه قبل زمن طويل، وبدلاً من وجوده كانت على الحائط صورة قديمة مكبّرة بإطار ذهبي جمعتني معه في لحظة ميتة هي الأخرى الآن، لحظة ليس لها وجود في ذهن أي أحد سوى وجودها في ذهن صورة (حفظتنا بشكل أقلق الزمن الجاري إلى لا نهائيته) كُتِب تحتها عبارة "الشهيد السعيد، ولا أظنه كذلك، جبار كاظم حافظ". فقط. عبارة كتبت بتقليدية غايرت كل ما حدث له: صورة غائمة وقطعة أرض قدمتها الحكومة، تقاسمها أخوته الأربعة.
وتلك الحقب التي دخلنا فيها يوماً ولم نخرج منها ضيعّتْ من ضمن ما ضيعت، قدرتنا الفطرية على التمييز. فكل صديق يحمل في داخله عدوا كامناً لا يظهر إلا حين تحكه (كمصباح علاء الدين). صديق من الممكن أن يرسلك (كعدو أزلي) إلى الفناء، إنها أحد وأهم دروس الدكتاتوريات (التي لم تبتدئ في تموز 1917 ولم تنته بنيسان 2003).
كل الذي سبق أعاده علي خطابين فقيرين (كحال كل خطابات الساسة العراقيين منذ 1958 إلى اليوم). الأول لأحد التجليات الكارثية للحاكم "بول بريمر" واعني سعادة أطول مستشار أمني في تاريخ العراق "موفق الربيعي". في تصريحه (الدون كيشوتي ): سنطارد البعثيين حتى السماء. والثاني لسياسي حالم حين قال: نريد أسلمة المجتمع. وبين هذا وذاك، بين صورة البعثيين الهاربين إلى سماء (ليس من السهولة الوصول إليها بفكرهم البدائي) وبين مطارد لهم (لم تمنحه شهادة الطب التي يحملها المعرفة بان السماء ليس لها مغاليق تُفتح). ومن الجانب الآخر بين من يجهل الاختلاف بين أسلمة مجتمع ما وبين دستور تبناه نفس المجتمع، يضمن له حرية الفكر والتعبير والاعتقاد.
وبين الجميع ضاع (جبار) في اللامكان واللازمان وضعت أنا في غربة (عرضها السماوات والأرض) وضاع العراق في العراق.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 02-12-2011     عدد القراء :  1797       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced