ميسان.. مدن وآثار بين رحى الحروب والأسرار غير المعلنة
نشر بواسطة: Adminstrator
الأربعاء 12-12-2012
 
   
العمارة.. المدينة الغافية - الصاحية على عالم عتيق أسمه سومر، ومدن ما زالت تحتفظ بأسرارها غير المعلنة، وهي تؤرخ لتاريخ شعب، وحكاية وطن تتوزعه الأطماع والخلافات وتتقاذفه رحى الحروب، منذ بدء الخليقة، وحتى أوان الساعة.. آثار تغطي وجه المدينة، وأهوار جفّ دمعها من زمن بعيد وغطى جسدها بقايا من رماد نارها، وتلال تدحرج رملها باشتهاء الريح، ومنعطف الطريق، وبقايا آثار سومرية تنطق بأسماء "حفيظ" و"الهفة" وآثار أخرى ما زالت تنتظر شهادة ميلاد بسبب أن دائرة الآثار لم تجر على مدى عقود عديدة أية عمليات تنقيب فيها، إلى جانب مواقع أخرى كالطيب والفكة وقلعة صالح  التي ما زالت تحتفظ برموز بكر لم تُفضّ شفرتها.
غياب رقابي
زيارة إلى مواقع الآثار والأوابد في ميسان تظهر حجم الإهمال والتخريب الذي طال منطقة الهفة الأثرية التي تعود إلى بدايات الحضارة السومرية عبر قصة مؤلمة تبدأ مأساتها مع منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حيث حول النظام السابق مياه الأهوار الى صحاري خالية من الحياة بعد أن جففها بذريعة الحرب العراقية الإيرانية، وأخذت الجرافات تحمل الأتربة والأحجار من موقع الهفة الأثري، بغض الطرف عن قيمة الأحجار والأواني والأختام وغيرها من المواد التي تروي حكاية تاريخ بلد وحضارة عالم.
كل ذلك كان يجري والعالم ومنظماته المعنية صامت إزاء ما يحدث بشواهد حضارة إنسانية ينبع منها التاريخ البشري، وتستمر مسيرة الدمار وتكتمل بعد سقوط النظام السابق، حيث ظلت المواقع الاثرية عرضة لأعمال السرقة ، وخلال تجوالنا في موقع الهفة لاحظنا خلوها من الحرس او أية رقابة لهذه الآثار، والحال ينطبق على  بقية المواقع الأثرية الأخرى، لذا كان لزاما علينا أن نسلط الضوء على هذه الحقيقة التي تجري وسط ظروف أمنية شجعت البعض من ضعاف النفوس على عمليات السرقة ونبش الآثار بغية تهريبها إلى خارج العراق، وحرمان البلد من هذه الكنوز الاثارية المهمة التي توثق عمق الحضارة ورسوخها من خلال ما عثر عليه من لقى آثارية مهمة تتمثل بالأختام الاسطوانية والمسكوكات الذهبية والفضية والنحاسية والتماثيل والأواني بمختلف الإشكال والألوان.
سراق نخشى تسميتهم
عصابات للسرقة من جهات إقليمية تقوم بالسطو على آثار ميسان والمواقع الاثارية التي تمتد على رقعة واسعة من شرق المحافظة قريبا من الحدود الإيرانية.
وفي مناطق تل الواجف (الواقف) وعزيزة وأم الديري وشلال التي تضم بين طياتها آلاف القطع الأثرية التي يعود تاريخها إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد تعرضت للنهب والنبش من قبل عناصر لا تهمها حضارة ميسان وتراثها وآثار الحضارة العراقية العريقة ليسرقوا ما فيه من ارث الأجداد العظام بهدف طمس حضارتنا وهويتنا. ويوجد مكان بين تل الواجف وعزيزة وهو عبارة عن نهر جاف (بزل) يضم رفات ملوك أكد داخل التوابيت الفخارية المزدانة بأنواع الزخارف الملونة والمؤطرة بالوارنيش، حيث كان هذا المكان في السنوات التي سبقت سقوط النظام محاطا بحراسات مشددة إلا انه أصبح الآن متروكا ومهملا.
مواقع بانتظار شهادة ميلاد
ويستمر هذا الإهمال المتعمد لآثارنا دون أن نجد من يحاول أن يوقف هذه المؤامرة على إفراغ البلاد من محتواها الحضاري وتاريخها القديم، حيث أن هناك أكثر من (380) موقعا آثاريا في مدن محافظة ميسان لم ينقب فيها حتى الآن وهي وتعود إلى عصور تاريخية مختلفة، وبينها موقع( أبو صخيرات) الذي يقع في منطقة الطيب عند الحدود مع إيران (75 كم شرق مدينة العمارة) والذي يعود إلى العصر البابلي القديم، وموقع المذار في منطقة عبد الله بن علي قرب ناحية العزير التي تبعد (70 كم) عن مركز مدينة العمارة وكذلك موقع السور الذي يقع في منطقة الطيب وتبلغ مساحته(1000 دونم) ويحيط به سور دائري يضم بعض التماثيل ويعتقد انه يعود إلى العصر المقدوني الذي سادت فيه اللغة السريانية.
وهناك مواقع كبيرة يتجاوز عددها (6) مواقع تقع في منطقة كميت (20 كم شمال مدينة العمارة) وتعود إلى العصور الساسانية والإسلامية والعباسية ولا تزال أبنيتها شاخصة للعيان إلى يومنا هذا، فضلا عن وجود مدينة أم عبيدة الاثارية التي تقع في منطقة سيد احمد الرفاعي.
وتشير الدلائل والبراهين التاريخية إلى أن ميسان مملكة تاريخية قديمة تعاقب على حكمها 23 ملكاً وسكنتها أقوام آرامية وعربية، وتعاملت باللغة الآرامية، فضلا عن وجود المسكوكات التي كتبت عليها عبارات باللغة العربية أسماء الملوك الذين حكموا المملكة، والتي كان بعضها محفوظا في قاعات عرض داخل متحف ميسان ولكنها تعرضت لعمليات السلب والنهب في عام 1991.
بعد هذه الجولة التقينا الباحث التاريخي فلاح العيساوي ووضعنا أمامه أسئلتنا، فردّ قائلا:
- إن جميع آثار المحافظة هي كنوز لها قيمة علمية تاريخية لا تقدر بثمن، ولهذا السبب تعرضت إلى نهب وسطو من قبل سراق الآثار، حيث قاموا بسرقة أكثر من 15000  قطعة اثارية تمثل حضارة بلاد وادي الرافدين منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى العصور الإسلامية المتأخرة، فيما تمت استعادة 4000  قطعة آثارية فقط.
* وماذا عن بقية القطع الأثرية؟
- بقية القطع الأخرى والتي تعد بالآلاف معروضة بصورة علنية في كبريات متاحف فرنسا وأميركا، وكذلك في متاحف الأردن والسعودية والكويت، أما الثلث المتبقي منها فما زال مفقوداً ولا نستطيع استرجاعه كاملاً وفعلاً قامت الجهات العراقية بمفاتحة المنظمات الدولية المعنية بالسرقة وزودت بقوائم الآثار المفقودة إلا أننا مع الأسف لم نلمس أي موقف ايجابي من بعض الدول.
وضمن إطار خطة وضعتها وزارة السياحة ستباشر كوادرها أعمال التنقيب في المواقع الاثارية الموزعة في محافظة ميسان والتي تزيد على 380 موقعا آثاريا  لكشف النقاب عن حضارة العراقيين القدماء في هذه المدينة التي شهدت حقبا زمنية زاخرة.

شناشيل العمارة..
نحو الاندثار
لا يقتصر الإهمال على الآثار القديمة فحسب، بل طال إرث الماضي القريب الذي يتضمن فنون العمارة المختلفة من شناشيل وأسواق وبيوتات حتى لم يبق من البيوت التراثية في مدينة العمارة إلا خمسة أو ستة.
ففي مناطق الجديدة والمحمودية والسرية والسراي والصابونجية والسوق المسكوف تنتشر بيوت الشناشيل التراثية التي تضيف جمالا على الأمكنة. دقة صنعة هذه البيوت تعطي انطباعا على مهارة المعماري العماري في الزمن الجميل.
يقول الأديب والباحث حامد حسن الياسري عن بيوت الشناشيل في العمارة:
- كانت النساء تستخدم الشُرف التي تطل من وسط البناء للنظر إلى ما يجري في الأزقة من احتفالات أو مناسبات دينية أو للمشاركة في أحاديث مع جيران آخرين.. تتميز بيوت الشناشيل بواجهاتها الخشبية التي رسم عليها نقوش عديدة وكذلك تكتب على واجهات المنازل كلمات للتبرك أو آيات الحفظ، والمعوذتان، أما الخشب المستخدم في صناعة الشناشيل فهو نوع يسمى (القوق) بأحجام مختلفة وفي كل بيت توجد ساحة صغيرة تسمى (الحوش)، وهي محاطة بالغرف الصغيرة المبنية بالطابوق، وتحولت الكثير من هذه البيوت في شارع التربية الى محال تجارية والى عيادات للأطباء وكذلك صيدليات ومختبرات تحليل طبية وستديوهات تصوير ومحال لبيع الأحذية والملابس المستعملة. واسهم هذا الإهمال في تدمير بيوت كانت لها مميزات متفردة  في مدينة العمارة.
أسطوات من الشام
أما الباحث والمؤرخ لتاريخ ميسان، عبد الحبار عبد الله الجويبراوي فتحدث عن مراحل بناء هذه البيوت بالقول:
- في عام 1900 جلب الحاج محمود المهدي اثنين من الأسطوات الشاميين فبرعا في بناء بيوت الشناشيل وعلى يد هؤلاء تتلمذ عدد من "الخلفات" الذين أصبحوا يجيدون بناء بيوت الشناشيل ومنهم السيد حسين الدرازي وسيد رزوقي وسيد احمد السامرائي وحسن خميس والحاج فيلح حسن والحاج محسن ليلووغيرهم. بعد سقوط نظام الدكتاتور قامت منظمة إنسانية عالمية تهتم بالتراث بإعادة الحياة إلى ثلاثة بيوت تراثية وتم اعمارها فظهر الجمال من جديدة ورحل غبار الخراب.. واليوم يوجد العديد من البيوت التراثية بحاجة إلى رعاية واهتمام وترميم فالدول العظيمة تهتم بشوارعها التراثية وبيوتها لتظهر مدى عمق الحضارة والثقافة قي أماكنها وهذا ما يجب أن نعمل عليه في إعادة الحياة للبيوت التراثية في ميسان.
- وأضاف قائلا: شيد سوق العمارة المسكوف عام 1870، وهو انجاز  معماري فريد إذ يقوم سقفه بدون أعمدة ويعد من أهم المواقع الأثرية في العراق، وفي البداية ضم السوق محال التجار العراقيين ومحال اخرى للتجار اليهود والذين كانوا يسكنون بالقرب من السوق في محلات التوراة والسرية والسراي وحتى أن معبدهم ( التوراة ) ما زالت آثاره موجودة الى يومنا هذا.
وينشطر سوق العمارة المسكوف إلى نصفين احدهما صغير والآخر كبير الذي يكون قبالة شارع المعارف والذي يعد من أهم وأجمل الشوارع في العمارة والجنوب وقد طارت شهرته في جميع المدن العراقية لما يتمتع به من حضور اجتماعي واقتصادي وقد كتب عن هذا الشارع الكثير من القصائد وكذلك الأغاني.
وهناك أيضا المكتبة العصرية والتي يعود تاريخ ولادتها إلى العام 1930 والتي هي جزء مهم من سوق العمارة المسكوف والتي يجتمع عندها جميع مثقفي وأدباء العمارة.
السوق المسكوف في خارطة بنائه يتعرج ويمتد وكأنه نهر دجلة الذي اخذ من جماله جمال الشكل والحركة. ومن أشهر المحال والمطاعم في سوق العمارة المسكوف الموجودة حاليا باب الكاظمين ومرطبات الشكرجي والمكتبة العصرية.
يتمتع السوق المسكوف في مدينة العمارة بالعديد من جماليات المكان في مجال العمران فإنه مبني على طراز معماري إسلامي مميز حيث أن السقف الذي يمتد على مسافة مئات الأمتار لا توجد فيه أية أعمدة خشبية أو حديدية، وإنماء قدرة المهندس المعماري جعلت السقف يرتفع بدونها من خلال هندسة البناء ودقة التصميم.
ويضيف رئيس جمعية إحياء التراث في ميسان عبد المحسن داغر قائلا:
- إن البيوت التراثية لا يزال بعضها قائماً ويحتاج إلى الصيانة وإعادة التأهيل لتتم الاستفادة منها، ولتبقى شاهداً على مهارة المعمار العراقي، وأن اغلب هذه الأبنية القائمة تم تشييدها قبل بداية القرن العشرين، وعلى سبيل المثال لا الحصر في شارع التربية والسوق المسكوف إن هذا التشكيل العمراني هو جزء من تاريخ وتراث المدينة، تتجسد فنه أحداث تعايشت وعاشت معها المدينة، وفيه عبق من الماضي عاشه وتعايش معه معظم الأهالي. إن هذه المباني والتشكيلات العمرانية التراثية تحمل خزيناً فنياً للتفاصيل العمرانية والمكونات التي جاءت نتيجة الخبرة التي اكتسبها البناة المهرة على مر العصور، والتي نماها وطورها هؤلاء البناة ليتحول كل ذلك إلى رصيد يستفيد منه البناؤون الحاليون والذين هم أحفاد الأجداد العظام، من هنا تتبين لنا أهمية الموروث من المباني والفنون المعمارية الحاضرة في مدننا القديمة.


المدى-العمارة/ حسين صالح

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced