«ميديا» لكيروبيني: المرأة حين يدفعها الظلم الى الانتقام
نشر بواسطة: Adminstrator
الجمعة 02-10-2009
 
   
الحياة
منذ العصور الاغريقية الأولى، وصولاً الى المخرج الايطالي الراحل بيار - باولو بازوليني في آخر القرن العشرين، مروراً بكبار المسرحيين والموسيقيين، لم يبق فنان كبير إلا وافتتن بحكاية «ميديا». ولعل الافتتان الأساس لدى الفنانين جاء من اتاحة هذا العمل الفرصة للوصول الى شتى أنواع التأويلات والتفسيرات. ذلك ان الحكاية تحمل من الأبعاد ما يتيح الغوص، عبرها، في السياسة، في العواصف، في القضايا الاجتماعية، بأساليب تراوح بين الكلاسيكية المطلقة والواقعية الصريحة والرومنطيقية الساحرة. ومن هنا كان من الطبيعي لموسيقي كبير من طينة لويجي - ماريا كيروبيني، أن يجعل من حكاية «ميديا» موضوعاً لواحدة من الأوبرات الرئيسة والكبرى التي وضعها عند نهاية القرن الثامن عشر، زمن التغيرات الكبرى والعواطف الجامحة.
> لم يكن كيروبيني أول من حول المسرحية الاغريقية الكبيرة الى أوبرا، بل سبقه الى ذلك كثر من أمثال شاربانتييه وسالومون وجان فيليب رامو وكريستوف فوجيل، وغيرهم، لكن عمل كيروبيني يبقى الأهم والأبقى في هذا الاطار. وعرف عن ماريا كالاس، في القرن العشرين تفضيلها لعب «ميديا» كيروبيني على أي دور آخر. بل ان كالاس، حين اقترح عليها بازوليني ان تخوض فن السينما، وهي في ذروة تألقها الفني، في بداية السبعينات من القرن الماضي، بادرته بأن الطريق الوحيد لخوضها السينما يكون عبر أفلمة «ميديا» كيروبيني. وهكذا كان.
> ولويجي - ماريا كيروبيني، كان موسيقياً لامعاً في زمنه، لكنه كان رجل ثقافة واسعة في الوقت نفسه. ومن هنا، فإن أعماله اتسمت بذلك الطابع المزدوج الذي يجعل العمل الفني ينطلق من موهبة أكيدة ولكن أيضاً من ثقافة كبيرة. وينطبق هذا، في صورة خاصة، على أوبرا «ميديا». فهذا الفنان الذي كان صديقاً لهايدن وفيبر وبيتهوفن بين آخرين، كان عرف بأنه رجل ثقافة عبقري، يقف في منتصف الطريق بين الكلاسيكية والرومنطيقية. وحسبنا أن نذكر ان هذا الفنان المولود في فلورنسا، والذي عاش ردحاً طويلاً في باريس، دفن حين مات في «سانتا كروتشي» الفلورنسية الى جانب كبار كلاسيكيي الفن والأدب. ولعل هذا يعطي صورة عن المجد الذي بلغه، حتى وإن كان كثر يرون أن هذا التكريم كان بفضل أعماله الدينية الكبيرة مثل «القداس» ناهيك بأعماله السيمفونية. ومع هذا يرى المؤرخون أن كيروبيني، جعل حتى من عمل مثل «ميديا» تأملاً روحانياً عميقاً.
> وعلى رغم أن الايطاليين يفخرون، عادة، بهذا العمل، من المهم أن نذكر هنا أن «ميديا» تعتبر في نهاية الأمر أوبرا فرنسية، ذلك أن كيروبيني صاغها انطلاقاً من اقتباس أعدّه الفرنسي بنوا هوفمان، عن مسرحية «ميديا» لكورناي. كما ان الأوبرا قدمت للمرة الأولى في باريس في العام الخامس للتقويم الثوري (المصادف العام 1797). ما أعطى العمل بعداً سياسياً مباشراً.
> من ناحية الموضوع، لا تختلف أحداث أوبرا «ميديا» كثيراً عن الصياغة التي اتبعها كورناي في اقتباس مباشر عن الأصل الاغريقي. إذ لدينا هنا، أيضاً، البطل جازون، وقد تمكن من الاستيلاء على الجرة الذهبية، بمساعدة الساحرة ميديا التي هجرت بعد ذلك شعبها وديارها، إذ خانتهما لمصلحة جازون، متبعة هذا الى موطنه في كورنثه مغرمة به، حيث انجبت له ابنين. ولكن ها نحن هنا أولاً في كورنثه، وها هو جازون يضرب عرض الحائط بغرام ميديا به، وبتضحيتها من أجله، إذ انه يستعد للاقتران بالحسناء كريوز، ابنة كريون ملك المدينة. غير ان ميديا لا تبدي أية رغبة في الرضوخ الى هذا المصير، فتقاوم محاولة بقوة أن تحول بين جازون وتحقيقه مشروع الزواج، لكن هذا يرفض التراجع ويرفض حبيبته السابقة بعنف ولا مبالاة، فلا يكون منها إلا ان تهدده بأبشع انتقام. ويتدخل هنا الملك كريون مصدراً أمره الى ميديا بأن تبارح المدينة في الحال، فتنضم اليها خادمتها نيريس، وتتوسل ميديا الى الملك ان يدعها تبقى في المدينة يوماً آخر فقط مع ولديها. والحقيقة ان ميديا كانت تريد مهلة يوم لكي تنفذ التهديد بالانتقام الذي وعدت جازون به وقد آلت على نفسها ان يكون انتقاماً يسبب للحبيب الخائن أقصى درجات الحزن والألم. وفي أثناء ذلك، اذ تزعم ميديا انها، أخيراً، رضخت الى مصيرها، تبعث الى غريمتها كريوز، جواهر سحرية كهدية زواج لها. لكن الجواهر مسمومة... وعلى ضوء هذه المعلومة ينتهي الفصل الأول ليطالعنا الفصل الثاني (من بين الفصول الثلاثة التي تتألف منها الأوبرا).
> وفي هذا الفصل الجديد، تطالعنا هذه المرة ميديا وهي قاب قوسين أو أدنى من تنفيذ وعيدها، إذ ها هي حاملة الخنجر تريد به طعن الولدين، غير أن حس الأمومة لديها يستيقظ فجأة مانعاً إياها من التنفيذ... غير أن الأحداث تتسارع هنا، إذ وفيما هي تقاوم رغبتها في قتل الولدين، يتناهى اليها عويل جازون وشعبه يبكون على موت كريوز. وإذ يدرك الجميع ان ميديا هي التي تسببت في موت كريوز، تبدأ مطاردتها من الجموع الثائرة الغاضبة، فلا يكون من ميديا الا أن تلجأ الى معبد، مع خادمتها والولدين... وبعد قليل نراها تخرج من المعبد محاطة بالجموع الغاضبة، وهي تلوح بخنجرها يقطر دماً... إذ انها بهذا الخنجر أجهزت في الداخل، حقاً، على الولدين. وإذ تقف ميديا أخيراً في مواجهة جازون الذي هزه الألم وكل تلك الأحداث المتلاحقة، تصرخ ميديا بحبيبها قائلة ان ظلها (أو شبحها) سينتظره عند ضفاف نهر ستبكس، ثم، وفي حركة سريعة تضرم النار في المعبد وترمي بنفسها داخل اللهيب مختفية عن أنظار الجميع.
> كما أشرنا، نظر النقاد والمؤرخون دائماً الى «ميديا» على أنها أقوى أعمال كيروبيني وأكثرها تحديداً من ناحية التلوين العاطفي، إذ انها تتراوح في شكل متواصل بين الضوء والعتمة، بين الحنان والقسوة، وبين الحب والكراهية، محولة كل تناقضين هنا الى شعور موحد. ويتجلى هذا بخاصة، طبعاً، في الموسيقى التي رسمت المناخ الفجائعي بأفضل ما يكون، بصفتها موسيقى تراجيدية تتجاور فيها العفوية مع التأمل، في مزيج حققه كيروبيني، وربما للمرة الأولى، بين أفضل ما في الموسيقى الفرنسية والإيطالية والألمانية، مبتعداً من الذوق الايطالي الذي كان سائداً في الأوبرا في ذلك الحين محولاً إياها الى تتابع من أغنيات فردية أو ثنائية أو جماعية. إذ هنا عرف كيروبيني كيف يستفيد من تجديدات غلوك، ليعطي العمل طابع التتابع السردي المتواصل الذي لا يقطع وحدته قاطع.
> عاش كيروبيني بين 1760 و1842. وكان  في الثالثة عشرة حين كتب أول «قداس» له. وفي العام 1780، حين بلغ العشرين، ألّف أول أوبرا في عنوان «كوينتو فابيو»... صحيح ان ذلك العمل لم يحقق نجاحاً لكنه فتح له الطريق ليؤلف أوبرات كثيرة خلال السنوات التالية. وهو عاش بين 1784 و1786 في لندن، في خدمة الملك جورج الثالث بصفته موسيقيه الخاص. وفي العام 1788 استقر في باريس... وهو بقي في فرنسا نحو عقدين شهد خلالهما الأحداث الثورية الكبرى. وفي العام 1805 توجه الى فيينا حيث التقى بيتهوفن الذي تأثر في موسيقاه الصوتية بأعمال الفلورنسي. وفي وقت لاحق اتجه كيروبيني الى الموسيقى الكنسية، وترأس اكاديمية فيينا حتى عام موته. وكتب كيروبيني نحو 30 أوبرا، اضافة الى أعماله الأوركسترالية، ومن أشهر أوبراته: «بيغماليون» و «اليومان» و «صاحب النزل البرتغالي».

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced