«حكايات قاسية» لدي ليل آدام: أغرب من الموت والحياة معاً
نشر بواسطة: Adminstrator
الجمعة 16-08-2013
 
   
إن كان النقاد والباحثون قارنوا دائماً بين كتابات الفرنسي أ. فيلييه دي ليل آدام من ناحية، وكتابات زميله الأميركي إدغار آلن بو والرومانسيين الألمان من ناحية ثانية، فمن المؤكد أن هؤلاء الأخيرين لا يمكن أن يكون بينهم من تمكّن من رسم المناخات المقابرية التي عرف الكاتب الفرنسي كيف يرسمها ولا سيما في مجموعتيه الروائيتين اللتين صدرتا تباعاً في عامي 1883 و1885، وفي عنوان متطابق تقريباً «حكايات قاسية» و «حكايات جديدة قاسية»، ذلك أن الرعب في حكايات دي ليل آدام، لا يأتي من المواقف المتعمدة أو من الخطر الداهم، أو حتى من أي صراع بين الشخصيات. بل يأتي مباشرة من الجو الذي يرسمه الكاتب، ومن المقارنة المدهشة التي يضعها دائماً بين موتين: موت الجسد وموت الروح، معتبراً أن موت الروح هو الموت الحقيقي. ولعل في المشهد الآسر والمرعب لواحدة من قصصه الأكثر شهرة في مجموعته «حكايات قاسية جديدة» ما يشرح ذلك بوضوح: ففي هذه القصة يرسم الكاتب مقارنة بين مجموعة من الجثث موجودة في المشرحة، وبين مجموعة من رجال الأعمال الأحياء الجالسين في مقهى. والقاسم المشترك بين المجموعتين هو أن رجال الأعمال في هذه القصة يبدون لعيني القارئ مثل جثث المشرحة جامدين في أماكنهم من دون حراك. ويقول لنا دي ليل آدام على سبيل الاستنتاج إنه «إذا كان أصحاب جثث المشرحة اغتالوا أجسادهم آملين بأن يتمكنوا من الحصول على شيء من راحة البال»، فإن «رجال الأعمال في المقهى، إذ يقبعون جامدين على ذلك النحو يتأملون تأمل الموتى إنما اغتالوا أرواحهم، وهم أيضاً يأملون في الحصول على شيء من راحة البال». أما استنتاج دي ليل آدام الأساسي فيما وراء هذا التأكيد المزدوج، فيقول: إن مشهد رجال الأعمال الذين فقدوا أرواحهم أشد كآبة ومدعاة للحزن والشفقة من منظر أصحاب الجثث الذين، هم، لم يفقدوا بالأحرى سوى أجسادهم وربما بقيت لهم أرواحهم.

> والحال أن الموت الذي يشكل خلفية المشهد في هذه الحكاية، بل حتى مبررها الأساسي إن نحن عرفنا كيف نقرأ ما يبدو مسكوتاً عنه في اللغة العلنية للكاتب، هذا الموت يبقى حاضراً على الدوام في كل ما كتبه دي ليل آدام من حكايات، وحتى في أشعاره وفي بقية نصوصه. ذلك أن الرجل عاش دائماً في هاجس الموت. وعزز من وضعيته تلك أنه أحس دائماً، في القرن التاسع عشر حيث عاش، بأن أحداً لا يفهمه وأنه إنما يكتب في فراغ ويعيش في فراغ. كما أنه شعر دائما بمقدار كبير من الاحتقار إزاء معاصريه، هو الذي آلى على نفسه دائماً ألا يكتب أبداً لكي يقرأه «جمهور تافه يحب ألا يفهم شيئاً عن معاني ما يقول». وحسبنا أن نقرأ الحكاية التي أشرنا إليها هنا، بل حتى كل حكايات المجموعتين، حتى ندرك كمّ الاحتقار - والافتتان بما هو خارج كل سائد، بما في ذلك الموت - في كتابات هذا الرجل، إزاء أبناء زمنه. ومن الواضح أن هذا الكمّ هو الذي قاده إلى فتح حوار متواصل ومقابري - وغير ذي جدوى في نهاية الأمر - مع العوالم الأخرى، مع الموتى، مع القوى الخفية، حيث إن نصوص دي ليل آدم تعتبر حواراً دائما مع كل ما يمت إلى البشرية الحية بصلة.

> إن الشخصيات التي تملأ حكايات دي ليل آدام، وتقوم بأدوار البطولة في تلك الحكايات كما في بقية نصوصه، «تعيش - وفق ما يفسر دارسو أعمال الرجل - في مناخ بالغ الغرابة. وهو مناخ غالباً ما يكون مرتبطاً بالموت، ناهيك بأن الأحلام، لا سيما منها الأحلام الأكثر غرابة تشكل فيها عنصراً لا بد أن يكون أساسياً. كما أن الحلم يأتي مع ضروب التواصل البدهي» مع العوالم الأخرى، مع الافتتان بالموت، وهذا الافتتان يبدو على أية حال وكأنه يتواكب - وهنا واحد من وجوه الغرابة وربما أيضاً التناقض لدى الكاتب - في امتزاج مدهش مع الحياة يعطي هذه الحياة في نهاية الأمر مذاقاً غير مذاقها المعهود، بل نكاد نقول: مذاقاً ينقض كلياً مذاقها المعهود.

> فمثلاً في القصة الأولى، في مجموعة «حكايات قاسية» وعنوانها «فيرا» لدينا بطلة الحكاية «فيرا» نفسها التي تعيش أحلامها في شكل يجعل هذه الأحلام أشد واقعية من الواقع نفسه. ذلك أن فيرا تواصل العيش مرتبطة بذكريات حبيبها الذي قضى ميتاً، حتى اليوم الذي يراها فيه هذا الأخير ميتة في... حلمه. وفي قصة عنوانها «كلير لينوار» لدينا ظل لينوار الذي تقمص في شخص آخر حتى يتمكن من أن يحضر ويقطع رأس السير هنري كليفتون عشيق زوجته. وفي قصة أخرى تالية تطالعنا مجموعة من الإشعاعات الضوئية التي تقترح علينا أن ثمة روابط سرية غامضة بين الأرض وعالم الأعالي... وهو ما يبرهنه في حكاية أخرى الإنذار الذي يصل إلى البارون كزافييه في كابوس يلح عليه، محدّثاً إياه عن الموت القريب لصديقه الأب موكومب. وفي حكاية عنوانها «ضيف الأعياد الصاخبة» يطالعنا سيد قصر سادي لا يجد متعته إلا في الحلول مكان الجلاد الذي يكلفه هو قطع رؤوس الناس الذين يحكم عليهم بأن تقطع رؤوسهم...

> إن تأثير إدغار آلن بو واضح تماماً في كل هذه الحكايات، ولكن من الواضح أيضاً أن دي ليل آدام يتجاوز ذلك التأثير. وهو ما يؤكده في حكايات المجموعة الثانية، التي - بعد خمس سنوات من إصداره المجموعة الأولى - أصدرها كنوع من التحدي وهو لا يتوقع لها من النجاح ما يفوق ذاك الذي حققته الأولى... التي لم تكن حققت أي نجاح يذكر على أية حال. ذلك أن أجواءها المقابرية وسوداويتها وقسوة أشخاصها ردعت القراء عن قراءتها حقاً. ولنذكر هنا في هذا السياق أن دي ليل آدام عاد وكرّر المحاولة مرتين بعد ذلك، ودائماً في حكايات مشابهة تزداد سوداوية وسخرية وقطعاً مع القراء المعاصرين أكثر وأكثر، إذ أصدر في العام نفسه الذي صدرت «حكايات قاسية جديدة» (أي المجموعة الثانية) مجموعة في عنوان «حكايات فريدة» ثم أصدر في عام 1886 مجموعة مختصرة تحت عنوان «الحب الأسمى». ولعل من المفيد أن نلاحظ هنا أن دي ليل آدام حين تحدث عن الحب أخيراً في مجموعته هذه، وصل إلى نوع من الصفاء المدهش في تصوره للحب.

> ودي ليل آدام الذي رحل عن عالمنا في عام 1889، أي بعد سنوات قليلة من اكتمال عقد مجموعاته الحكائية الأربع التي أشرنا إليها ها هنا، كان طوال عمره يشعر بأن القدر نفسه يتلاعب به، لا سيما خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته حين أقعده المرض. فما كان منه إلا أن رد بالزواج بخادمته التي كانت تفانت في خدمته وأنجبت له ابناً من دون أن تنتظر على كل ذلك أجراً أو شكراً. والكاتب كان ولد قبل ذلك بواحد وخمسين عاماً، أي في عام 1838، لأسرة ثرية نبيلة، حدث أن بذّر أبوه ثروتها، ما جعله على رغم نبله يعيش في فقر مدقع، من المؤكد أنه هو ما جعله يعيش كل مرارته وسوداويته وإيمانه بلا جدوى أي مسعى، وتعبيره عن ذلك في شكل مستديم. وهو بدأ مساره الأدبي في عام 1867 بنشر قصصه في الكثير من المجلات. وظل ذلك هو دأبه حتى أيامه الأخيرة، حتى وإن كانت حكاياته - خلال حياته - عجزت عن أن تجد لها قراء يكفون لصنع المجد الأدبي الذي تأخر، لكنه عاد وأحاط بالكاتب... بعد سنوات من موته حين بدأ النقاد الجادون يلتفتون إلى أعماله ويرون فيها أبعد قليلاً مما كان يراه السابقون.

alariss_(at)_alhayat.com

الحياة

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced