توسعة كنيسة "مسكنته" في الميدان.. الحداثة بمعية التراث
نشر بواسطة: mod1
الأحد 03-08-2014
 
   
د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي /المدى

ضمن "ريبرتوار" النشاط التصميمي العراقي المتنوع، ثمة نشاط مميز، يجعل من واقعة حضور "التراث" في المشهد، منطلقاً لاجتراح مقاربة معمارية، تنطوي على اهتمام مضاف لخصوصية ذلك التراث، واحترام سماته. لم يكن ذلك النشاط، بالطبع، في نسخته المبدعة والخلاقة أسير محاكاة استنساخية محضة لعناصر الجسم التراثي، وإنما كان معنياً في التقصي عن مهام التأويل المبتكر، والاشتغال على ايجاد طرق متنوعة لادراك كنه ذلك التراث وجوهره، ومن ثم قراءته قراءة جديدة، بغية استدعاء "روحه" وعدم الاقتصار على تشكيلات مفرداته الظاهرة.

بمعنى آخر، يتوق المصمم الفطن، الذي يعمل بجوار الجسم التراثي وبمعيته، أن لا يكون فعله التصميمي، معتمداً اساساً على الجانب المحاكي /"المُعارضَي" <الباستيشي> Pastiche، لعناصر ذلك التراث، وإنما يسعى وراء صفة الاجتهاد، الذي يضفي على الفعالية التصميمية عبق التراث، من دون أن يكون ذلك مشروطاً في استخدام مباشر وسريع لعناصر تراثية، تزعم، بان صيغ تشكيلاتها الفورماتية، قابلة للاستخدام دوماً، رغم تبدل الظروف والأزمنة، وبالضد من تحولات الذائقة الجمالية او اشتراطات العصر ومراعاة قيمه في حالاته الراهنة.

قد تكون محاولة المعمار العراقي "هنري زفوبودا" (1928-2005)، في عمله على توسعة كنيسة مسكنته ) <1967-1970> (كنيسة القديسة مريم العذراء ام الاحزان، كما تسمى ايضاً) بحيّ "كوك نزر" في الميدان ببغداد، التابعة الى الطائفة الأرمنية، قد تكون ضمن تلك المحاولات التى تدخل ضمن الرؤية التى تحدثنا عنها تواً: التوق لبلوغ مقاربة تصميمية تعمل بصحبة التراث وحضوره، ولكن بالنأي بعيدا عن الصيغ "الباستشية" المحاكية للعناصر الجاهزة المألوفة، واستخداماتها المكررة والمعادة كثيرا. بيد ان علينا التفريق بين طموح المعمار ورغبته تلك، وبين ما هو متحقق تصميمياً. إذ قد لا يكون مسعى الطموح لوحده كافياً لانجاز تلك المهام. فثمة أمور عديدة يتعين توفرها، على أمل الدنو الحقيقي من ضفاف نهر تلك المقاربة الذكية، ذات الخصائص المميزة، هي التى تستقي تميزها التكويني من مجرى مياه ذلك النهر المتدفقة والمتحركة.

دعونا، اولاً، "نقرأ" ما قام به المعمار من أعمال تجديدية في موقع تلك الكنيسة، التى عُدّت من أقدم كنائس بغداد العاملة حالياً. لكننا قبل ذلك، سنعرج على ذكر أهمية الموقع وقيمته التراثية، اللتين ستحددان ، لاحقاً، اسلوب مقاربة المعمار التصميمية. يجمع كثر من الدراسين، بان موقع الكنيسة "مسكنتة" اياها، ارتبط ارتباطاً وثيقاً بحادثة تاريخية، يشير معظم الذين تناولوا تاريخ المبنى الى صدقية حدوثها وحدثها، وما ترتب عنها من نتائج. وملخص تلك الحادثة، التى يعود زمنها الى النصف الاول من القرن السابع عشر، وتحديدا الى سنة 1638 م، عندما تمكنت الجيوش العثمانية بقيادة السلطان مراد الرابع (1612-1640)، بعد آمد طويل من حصار بغداد، الدخول اليها في 25 كانون الاول من تلك السنة. كان تمكين ذلك الدخول وتحقيقه يعود، جزءاً منه، الى نباهة وشجاعة احد القواد العسكرين المشاركين في تلك الحملة. كان اسمه، كما تقول الروايات، "كيورك نزريتان"، وهو من ضباط المدفعية. وكان من أصول أرمنية. وقد ابلى بلاءً حسناً في تلك الحملة، ما دعى السلطان الذي كان حريصا جدا على نيل هذا الفوز، ان يكافئه مكافئة خاصة، هو الذي كان معروفا عنه ولعه بالشعر ومعرفته العميقة بالموسيقى، بان يطلب ما يشاء ويتمنى. وقد جاء طلب "نزريتان" ذكياً وغير متوقع، بان يمنح السلطان طائفة "ارمن بغداد"، قطعتي ارض، احداهما في شمال المدينة، والثانية في جنوبها. الاولى وموقعها بالقرب من باب المعظم: ستخصص الى بناء كنيسة خاصة بالملة، والثانية، عند باب كلواذا (الباب الشرقي حاليا)، وستكون مدفناُ لموتى الأرمن وبقية مسيحيي بغداد. وكان له ما اراد. واصدر السلطان مرسوما بهذا المعنى. وقد كان ذلك الإجراء امراً هاماً وملحاً، خصوصا اذا عرفنا بان السلطات العثمانية، حالها حال بقية من حكموا بغداد سابقا، كانت تحظر قبل هذا التاريخ بناء اية كنيسة او معابد للملل الأخرى. وبعد صدور مثل هذا البيان، فان الامر تغير جذريا بالنسبة الى المسيحيين والأرمن على وجه الخصوص، اذ تم الاعتراف الرسمي بهم بفورمان همايوني، "بالسكن والاستقرار في بغداد". وسرعان ما تم بناء كنيسة مسكنته عام 1639م. (بعض المصادر تشير الى 1643 كسنة التشييد للكنيسة). اهتم القائد الارمني بهذه الكنيسة اهتماماً كبيرا، وجلب، كما يعتقد، ذخيرة اربعين شهيدا، استشهدوا إبان اضطهاد ديني وقع في مدينة "سباستيا" (سيواز حالياً احدى ولايات وسط تركيا) ، باعتباره أحد ابناء تلك الديار، ووضعت تلك الذخيرة في كوة بالجدار الشرقي من الكنيسة. دُعي الحيّ الذي شيدت فيه الكنيسة، بحيَ "كوك نزر" على اسم القائد "كيورك نزريتان"، بعد ان تم تحريف الاسم الى اللهجة المحلية. وما برح الحي البغدادي يعرف بهذا الاسم لحين الوقت الحاضر. جدير بالذكر، بان الكنيسة مثلما يؤمها رعاياها المسيحيون، فان كثرأ من المسلمين (خصوصا النساء منهن) يزورها للتبرك والشفاعة، وهو تقليد، داب البغداديون المحافظة عليه ضمن أعراف المجتمع الخاص بهم.

في مثل هذا الموقع المميز:المترع بالاحداث الدينية والحافل بعبق التاريخ وحكاياه، طلب من المعمار "هنري زفوبودا" في عام 1967 ان يوسع فضاءات الكنيسة باحياز اقتضتها متطلبات مستحدثة. كان منهاج التوسعة يتضمن اضافة قاعة صلاة جديدة مع تشييد اربعين غرفة إضافية لادارة الكنيسة وزوارها الذين يقضون لياليهم فيها. بيد اننا، ومرة اخرى، سنؤجل الحديث عن ذلك لهنيئة بعد ان نتعرف، في البدء، على معمار التوسعة، حتى ندرك ادراكا عميقا طبيعة المتحقق وتأمل خلفياته الفكرية.

قد لا يكون اسم "هنري لويس زفوبودا"، معروفاً على نطاق واسع لدى بعض المثقفيين العراقيين، وربما لم يسمع به كثر من المعماريين الشباب. لكن منزلة "زفوبودا" ومكانته في المشهد المعماري العراقي عالية بالتأكيد، مثلما هي راسخة. وهو وإن ابعد نفسه عن "صخب" الحياة المهنية وطرقها المثيرة للجدل احيانا، فان منجزه التصميمي معترف به ومشهود له؛ هو الذي، انهى دراسته المعمارية في الخمسينات بمدرسة "الجمعية المعمارية" (A. A.) اللندنية المشهورة (بالمناسبة زهاء حديد، هي الأخرى خريجة هذه المدرسة)، بعد ان كان يعمل قبل ذلك "رساماً هندسياً" في أمانة العاصمة. معروف ايضا، ان عائلة "زفوبودا" ذات الاصول الجيكية، استقرت للعيش في الموصل منذ القرن التاسع عشر، وعرفت بتجارها للزجاج والبلور، ومن المهنة الاخيرة اكتسبت عائلة زفوبودا لقبا آخرا هو "البلولجي" ما يعني تجار البلور والكريستال، وفقاً لطريقه التسمية الموصلية، كما يقول صديقي المعمار هيثم خورشيد، الذي زودني بمعلومات وافية عن هنري ، هو الذي كان صديقا مقربا له طيلة سنين عديدة. كما ان بعض المعلومات الواردة في النص عن زفوبودا هيأها الصديق د. احسان فتحي الذي يمتلك سجلا توثيقيا نادرا عن معماري العراق. عرف عن هنري زفوبودا متابعته الجادة للشأن الثقافي العراقي والمعماري على وجه الخصوص. وانجز هو شخصياً كثير من المباني ذات اللغة التصميمية المعبرة، كمبنى منظمة الاسكوا التابعة للامم المتحدة في (1977)، والواقع على طريق المطار. وعمل ايضا مشاركا لمكتب مكيه ومدحت علي مظلوم، كما صمم مبنى متعدد الطوابق على شارع ابي نؤاس للشقق السكنية (1978). كما صمم وبالاشتراك مع رفعة الجادرجي المبنى المتعدد الطوابق الخاص الى "دائرة البريد والاتصالات المركزية" في السنك بشارع الرشيد ببغداد (1971). وعمل تدريسيا في قسم العمارة منذ تأسيسه في 1959 ولحين تركه العمل عندما كلف برئاسة قسم العمارة في المركز القومي للاستشارات الهندسية والمعمارية الذي تأسس في سنة 1972.

يعرف "هنري زفوبودا" بأن المهمة التى أوكل اليها، لتوسعة كنيسة مسكنتة، يتعين أن تراعي في المقام الأول خصوصية المكان، وقيمة المبنى الذي ينهض فيه. يعرف، أيضاً، بان الارتهان للماضي لاجل تحقيق عمارة التوسعة، أوالتغاضي عن ما حدث ويحدث في الخطاب المعماري، سيقلل من مصداقية ما يود ان ينجزه تصميمياً. عليه، إذاً، ان يتأمل مساره التصميمي بكثير من الاعتناء والحيطة. والاهم ان لا يغالي ولا يفرط في إستدعاء ماضوية الحدث الموقعي، مثلما عليه ان يتجنب اشهار توجهاته التصميمية الطليعية المبالغ فيها. في تلك السنين: سنين نهاية الستينات، شاع في خطاب الممارسة التصميمية المحلية نزعة استخدام الطابوق المحلي بشكله النظيف مع "امتزاجه" بالخرسانة: الخرسانة المكشوفة والعارية. في عمارة توسعة الكنيسة، تحضر هذه النزعة التصميمة بصورة لافته. انها ما انفكت تمثل الحدث التصميمي الاهم في صياغة تشكيل هيآت المباني المصممة.

في قاعة الكنيسة المستحدثة، التى جاء مسقطها على شكل مستطيل منتظم، بأبعاد 6.5× 13.0 مترا، كُسيت جدرانها الخارجية بمادة الطابوق الأصفر المحلي، في حين أعتمد تسقيفها على استخدام أقبية Vault خرسانية، تتيح نهاياتها العقدية امكانية تشكيل نوافد علوية تنير فضاء القاعة. لكن الانارة الأساسية لها تتأتى من الفتحات الأربع المنفذة في الجدار الشرقي من القاعة. وهي عبارة عن عقود آجرية تتدرج فتحاتها بصيغ منظورية نحو الداخل. تكتسب القاعة خاصية جمالها التصميمي من قوة الشأن "التكتوني" Tectonic ووضوحه، الشأن المتولد عن طبيعة العناصر الانشائية والأساليب التركيبية للمبنى. يسعى المعمار وراء تفعيل عنصر التضاد، ليجعل منه عنصراً تكوينياً يضفي نكهة خاصة للحل التصميمي لمبناه. فيوظف الحركة الإيقاعية الدينامية التى تخلقها منظومة أشكال الاقبية البرميلية، التى تظهر جلية في أعلى المبنى، والمعمولة من الخرسانة، ويجعل منها مفردة تعمل في تضاد محتدم مع كتلة القاعة الراسخة والمستقرة ذي الشكل الهندسي المنتظم. خالقاً من ذلك التضاد أداة مهمة لاحراز قوة تعبيرية تضيف خاصية جمالية الى كتل المباني المصممة. ثمة تشكيل من العقود الخرسانية، ينهض بصورة حرة امام مدخل القاعة. في اعلاه مخروط ثماني الأوجه، تستدعي هيئته المميزة، أشكال أبراج الأجراس في الكنائس الأرمنية التقليدية، والتى اعتبر حضورها بمثابة "لوغو" المباني الارمنية الدينية. ونرى هذه التشكيلة المميزة، في مواقع مختلفة، كما انها تؤدي وظائف متنوعة. فهي مرة تدلل برمزية واضحة الى وجود المدخل، وآخرى، تعمل بمثابة نقطة اتصال موفقة بين كتل المبنى واقسامه، وثالثة نراها تعمل كبرج مائل لناقوس مثمن الأوجه، كُسيت أوجهه بالزجاج الملون.

ولئن اصطفي المعمار مادة الطابوق المحلي، مادة أساسية لاكساء جدران مباني التوسعة، (التى شملت، اضافة الى القاعة، التى ذكرناها توا، تشييد جناحين بطابقين من الغرف)؛ فاننا كنا نتوقع ان تحضر "التفاصيل" بابهى صيغها وباكمل حذاقتها البنائية. لكننا، مع الاسف، لم نرَ ذلك التوق التصميمي حاضرا بقوة في الحل المعماري. اذ جاءت اشكال التفاصيل المستخدمة وتنويعاتها، تعيد وبتكرار ممل، ما هو مألوف تقليدا، وما هو معلوم حرفياً، من دون ان تكون هناك مداخلة جادة من المعمار في ذلك الاتجاه، خصوصا وان "هنري زفوبودا" كان معروفا عنه ولعه بالتفاصيل، ومقدرته المهنية العالية في كيفية ترسيخها بالخطاب، لاسيما، اذا علمنا بان الدرس الاساس الذي عمل عليه لسنين عديدة، في قسم العمارة كان مكرسا لمادة التفصيل المعماري واهميته في إثراء الحلول التصميمية. وبهذا اضاع المصمم، في اعتقادنا، فرصة فريدة وسانحة لحضور "التفصيل" بصيغ مبدعة،عالية الاجتهاد. على اننا، اذا ما تحدثنا عن ايجابيات التصميم للتوسعة، فينبغي علينا الاشارة، من ضمن إشارات، الى خصوصية "المقياس" ونوعيته، الموظف في تحديد كتل المبنى. انه اختيار، في اعتقادنا، موفق جدا وملائم جداً. وفيه تبدو الاحياز المصممة وكتلها متسقة مع طبيعة الأشغال للمبنى وانشطته. فالمبنى يعمل مزاراً، يؤمه الكثيرون، بغض النظر عن نوعية ديانتهم كما اشير سابقاً. من هنا، يغدو، في راينا، توافق اصطفاء المقياس وتواضعه، احد النجاحات المهنية المهمة لهذه التوسعة. وفي العموم، تظل تعتبر عمارة توسعة كنيسة مسكنته، كأحد التمارين المعمارية النوعية التى تطلع مصممها ان تكون حدثاً معماريا مميزاً في الممارسة المعمارية العراقية، كونها أولت اهمية واضحة الى خصوصية المكان وقيمته التراثية، وما ترتب عن ذلك من نتائج اسهمت في صياغة نوعية الحل التصميمي لتلك التوسعة. وما نراه، في الاخير، هو اشتغال تصميمي مثابر وحدائي.. بمعية التراث.

اثناء وجودي في بغداد، حاولت ان أصور مبنى كنيسة "مسكنته" وهي ذاتها كنيسة "ام الاحزان". لكن "التصوير" في بغداد كان وما فتئ يعتبر من "المحظورات" التى يتفنن رجال الأمن في اختلاق أسباب عديدة للتمسك بها، وترسيخها ضمن "سلطتهم" التى لا تعرف المنطق او المحاججة. بالطبع، لم يتسنَ لمهمتي ان تكون سهلة. وبالتالي تعذر تصوير المبنى من الداخل. التقطت، خلسة، بعض اللقطات من الخارج. لكن الحصيلة لم تكن مشجعة، بيد ذلك احسن من "الماكو". الصورة الاخرى المنشورة، وجدتها في الانترنيت. اقول هذا ولا اقصد فقط تصوير هذا المبنى تحديدا، فـ "الحظر" يشمل كل شئ وجميع المباني، ورؤيتك مع "كاميرتك" بمثابة خرق كبير وانتهاك لذلك الحظر غير المنطقي سيما في عصرنا الحاضر: عصر الاقمار الاصطناعية والامكانات الهائلة للتصوير عن بعد. في حين يتطلب العمل البحثي الجاد حضور الصورة، كاحد المقومات الاساسية والمهمة لادراك المنتج المعماري بصورة متقنة وواضحة، وايضا.. سديدة وشاملة. لكن الاسهاب في ذلك، حكاية حزينة.. آخرى، من حكايات وطننا العراق!

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced