مشاهدات من «العراق الجديد»: البصرة.. فينيسيا الشرق ودولة المواني.. تشكو العطش
نشر بواسطة: Adminstrator
الأربعاء 23-12-2009
 
   
الشرق الاوسط
سبع سنوات، تقريبا، مضت على تغيير النظام في العراق. سبع سنوات مرت من حياة العراقيين الذين يستعدون في بداية العام المقبل للمشاركة في ثالث عملية انتخابات برلمانية. سبع سنوات انطفأت، أو اشتعلت، في التاريخ العراقي الجديد الذي صار يصنف، حسب الأحداث، بما قبل أو ما بعد السقوط أو التحرير أو الاحتلال الأميركي لبلد عرف بأنه وأهله، عصي على الاحتلال والمحتلين. بلد استطاعت شعوبه وعبر آلاف السنين نسج مجتمع متعدد الأديان والطوائف والقوميات، هذا النسيج يبدو حتى اليوم، قويا على الرغم من التفجيرات والاقتتال والتدخلات الإقليمية التي تتشابك مصالحها فوق أرضه وبين ناسه.
سبع سنوات مضت على وعود السياسيين الجدد والأحزاب، التي عارضت بالأمس نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وبشرت بوعود بناء «العراق الجديد»، كما أطلق عليه الأميركيون لدى الغزو، كدولة مؤسساتية فيدرالية يسودها ربيع النظام الديمقراطي بعيدا عن خريف الانقسامات، وينتصر فيها القانون للمظلومين.
ولكن كيف هو وضع العراق الجديد بعد سبع سنوات من التضحيات الجسام والتفجيرات والاختطافات وسيادة الميليشيات وغياب القانون في أجزاء كبيرة من ربوع الرافدين اللذين يعانيان الجفاف؟ فهل هذه السنوات السبع العجاف، والتي ستليها، سنوات خير أم أن جفاف الأرواح والأفكار والحياة سيستمر كعنوان لهذا البلد؟
«الشرق الأوسط» لم تذهب إلى السياسيين الذين وعدوا العراقيين، وما زالوا، بحياة مؤثثة بالربيع، بل ذهبت إلى الناس، رصدت حياتهم عن قرب وفوق أرضهم لتنقل صورا من «العراق الجديد» من غير تزويق أو تحريف.

بدأنا برصد الحياة في العاصمة بغداد، ثم هبطنا إلى البصرة، ثاني مدن العراق «وثغره الباسم»، لنصعد إلى شماله في كركوك «مدينة التآخي» التي تتحدث بأربع لغات، ومن هناك اجتزنا بوابة إقليم كردستان لنتوقف عند قلعة أربيل، قبل أن نصل إلى السليمانية (بيروت كردستان).
وفي هذه الجولة، تعمدنا التوقف في «لاليش» حيث معابد اليزيديين؛ الدين الذي اختلف فيه كثير من الباحثين الذين حملوه أكثر مما يجب من العناوين الغريبة. هنا صور وخرائط عن «العراق الجديد». كانت المسافة التي تربط العشار، مدينة البصرة، وميناء أبو الفلوس، مؤثثة ببساتين النخيل. مساحات شاسعة تزدحم بها أشجار النخيل لدرجة أنه من الصعوبة أن يتسلل شعاع الشمس من خلال سعف النخيل المتشابك. بساتين تنتج ما يقارب مائة نوع من أفخر التمور في العالم، بينما تتخلل هذه البساتين الأنهار التي يطلق عليها تسمية «الشاخة» ومنها تتفرع شبكات من السواقي التي تسقي حتى آخر شبر في تلك البساتين ووفق آلية المد والجزر التي تحكم شط العرب بحكم ارتباطه بالخليج العربي، من غير أن يكون الفلاح «البصراوي» بحاجة إلى مضخات لسحب المياه من الأنهار.
انطلقنا من العشار باتجاه قضاء أبو الخصيب، ومن هناك سيكون علينا التوجه إلى ميناء أبو الفلوس عبر مناطق الخورة ومهيجران وحمدان، والسبيليات ونهر خوز التي تشتهر بنوع نادر من الحلويات يسمى «حلاوة نهر خوز»، وتتوارث صناعتها عائلة واحدة لا تفشي سر مكونات هذه الحلاوة لأحد.
المنظر أقسى من أن يتحمله أي شخص كان قد عرف البصرة من قبل، كان قد تاه في تلك البساتين لكثافة نخيلها وتشابه دروبها الضيقة، وكان قد عرف أنواع تمورها، ذلك أن البساتين انحسرت لصالح الأراضي اليابسة، مئات الآلاف من أشجار النخيل غيبتها الحروب، فقد كانت القوات العراقية تتخذ من هذه البساتين معسكرات لدباباتها ودروعها. وجذوع النخل المقتول تحولت إلى جسور وقناطر لآليات الجيش، لم يفكر أي أحد بحياة أي نخلة وكم من الوقت والجهد بذلته أجيال من المزارعين من أجل أن تكبر تلك الأشجار وتعطي تمورها. أما القسم الأكبر من هذه الأشجار فقد مات بفعل المواد الكيماوية التي استُخدمت ما يقرب من عقدين من الحروب والانفجارات، لهذا بدا منظر النخيل برؤوسه الميتة والمعوجّة إلى أسفل مثل شخص مشنوق أكثر من محزن وقاسٍ.

يضاف إلى هذا وذاك قيام أصحاب غالبية من البساتين ببناء فيلاتهم وقصورهم وبيوتهم وسط هذه الأراضي الزراعية متجاوزين القوانين التي تمنع استخدام الأراضي الزراعية لأغراض سكنية. واليوم يبدو أن أسهل ما يمكن فعله في العراق هو التجاوز على القوانين، إما بقوة النفوذ وإما بقوة الرِّشى التي تُدفع للموظفين لتحويل الأرض الزراعية إلى سكنية أو أي تجاوز قانوني يمكن فعله بواسطة الفلوس.
كان سامي العاشور، وهو أحد أبناء البصرة وينحدر من عائلة بصرية عريقة ومدير شركة «بركة العاشور»، ينظر إلى البساتين التي زحف التصحر إليها وهو يسترجع ذكرياته مع هذه البساتين حيث كانت تقوم مراكز تجميع التمور قبيل تصنيعها وتصديرها إلى دول العالم حيث كانت عائلته تمتلك واحدا من أولى وكبرى معامل تصنيع التمور التي تصدر إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، منذ نهاية الأربعينات، يقول: «كانت لنا مصانع لكبس التمور على ضفاف شط العرب وكنا متخصصين في تصدير أنواع متميزة منها، وفي عام 1976 اشترينا باخرة إنجليزية سمّيناها (محمد علي)، حيث كانت تصل بمنتَجاتنا من التمور المصنعة إلى الهند عبر اليمن».
يسمي العاشور البساتين بأسماء أصحابها المعروفين، والأنهار بعناوينها التي تُتداول منذ مئات السنين: «هذا نهر حمدان وذاك نهر مهيجران وهناك يقع بويب»، النهر الذي تَغنّى به الشاعر بدر شاكر السياب وخلّده في قصائده.

لكن غالبية هذه الأنهار قد جفت، وما تبقى منها على وشك الجفاف، فالبصرة التي كانت تضم المئات من الأنهار، والتي كان يطلق عليها تسمية «بندقية الشرق» (فينيسيا الشرق)، وهي التي تقع على أهم ثلاثة أنهار في بلد سُمّي عبر التاريخ «بلاد ما بين النهرين»، أو «وادي الرافدين»، تشكو البصرة اليوم الجفاف والعطش ويشتري أهلها قناني المياه المصنَّعة في السعودية والكويت! والبصرة (600 كيلومتر جنوب بغداد) التي تُعَدّ أول مدينة بُنيت في العصر الإسلامي خارج حدود الجزيرة العربية، أمر ببنائها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب وجعل عُتبة بن غزوان واليا عليها، تعد المنفذ المائي الوحيد للعراق، وكانت حكايات «ألف ليلية وليلة» قد خلّدتها عبر «رحلات السندباد البحري السبع»، إذ كان يخرج منها إلى بحور الدنيا ويعود إليها، لهذا تقع فيها جميع المواني العراقية، بل هي دولة المواني في هذا البلد، إضافة إلى أن أرضها تحتوي على مخزون كبير من النفط.
وتوجد في البصرة أربعة موانٍ، هي حسب تاريخ إنشائها: ميناء الفاو كمرفأ خدمي عام 1917، والمعقل على نهر شط العرب وسط مركز البصرة وأنشئ عام 1919، ثم ميناء أم قصر على الخليج العربي وتم إنشاؤه في عام 1964، وميناء أبو الفلوس على شط العرب وبالقرب من مدينة السيبة عام 1977، ثم تم بناء أرصفة لاستقبال البضائع في ميناء خور العمية الذي يعد آخر نقطة في المياه العراقية وتم إنشاؤه عام 1986، ثم ميناء خور الزبير الذي أُنشئ عام 1989.

ويعد ميناء أم قصر أكبر المواني العراقية، وهو من مشروعات مجلس الإعمار في العهد الملكي، إلا أن عبد الكريم قاسم رئيس أول مجلس لوزراء العهد الجمهوري هو من وضع حجر الأساس له عام 1961. يلخص لنا الكابتن البحري كاظم فنجان الحمامي، الذي يُعتبر من المؤرخين للمواني والملاحة في العراق والخليج العربي، قصة المواني العراقية، قائلا: «يُعتبر ميناء مدينة الفاو التي تقع عند مدخل شط العرب من جهة الخليج العربي، من أقدم المواني في العراق على الإطلاق، إذ تم تأسيسه عام 1860 كمرفأ بسيط بإدارة شركة الهند الشرقية وذلك لتقديم الخدمات للسفن المتخصصة بحفر السد الخارجي (شط العرب من جهة الخليج)، وفي عام 1917 جرى توسيع المرفأ حيث أضيفت إليه أرصفة مبنية من خشب الصاج والأبنوس القادم من الهند».
ويشير الحمامي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أهمية مرفأ ومدينة الفاو باعتباره ملتقى الطرق البرية والبحرية لثلاث قارات هي آسيا وإفريقيا وأوروبا، مشيرا إلى أن خط القابلو للاتصالات التلغرافية الدولية والذي كان يستخدم الخطوط السلكية في إرسال البرقيات، بلغة موريس، كان يمر عبر العراق قادما من أوروبا برا ثم ينغمر في المياه عند الفاو ليصل إلى جاسك (ميناء على الساحل الشمالي لخليج عمان في منطقة مكران)، وينتهي في كراجي بالهند.
وتحول هذا الميناء عام 1917 إلى مرفأ خدمي، أي أنه لم يكن يستقبل البواخر التي تحمل البضائع أو تقل المسافرين، وحسب توضيح الحمامي، فإن الفاو كميناء، خُصص وقت ذاك «لتقديم خدماته اللوجستية للسفن والملاحة في الخليج العربي، من خدمات الاتصال والإمدادات في الوقود والطعام والمياه والسيطرة والمراقبة وإجراء المسوحات تحت الماء، وفي هذا المرفأ كانت توجد السيطرة البحرية الوحيدة على عموم الملاحة في الخليج العربي برمته وكذلك تزويد فنارات الدلالة بالوقود من مضيق هرمز وحتى شط العرب».

في أوائل الستينات وضع عبد الكريم قاسم رئيس أول حكومة في العهد الجمهوري حجر أساس أول ميناء لتصدير النفط في خور «العمية» والمشروع كان من تخطيط مجلس الإعمار التابع للعهد الملكي وبرئاسة رئيس الحكومة آنذاك نوري السعيد، وتم إنجاز هذا الميناء عام 1964 بواقع رصيفين، وأضيف إليه عام 1978 رصيفين حيث كان يستقبل أربع ناقلات نفط عملاقة ليزود كل واحدة 25 ألف طن مكعب من النفط الخام القادم من حقول الرميلة، وهذا الميناء غير مستخدم اليوم. وفي عام 1975 تم بناء ميناء البكر النفطي في خور الخفقة بواقع أربعة أرصفة، وكان يعد واحدا من أكبر وأهم مواني تصدير النفط في المنطقة.
ويؤكد الحمامي أنه «لم يتم بناء ميناء لاستقبال البضائع في الفاو إلا في نهاية السبعينات حيث تم إنشاء رصيف واحد في منطقة المعامر شمال المدينة لاستقبال البواخر المحملة بالمواد الغذائية للتخفيف عن كاهل ميناء المعقل».
ليس هناك من لا يعرف ميناء أو منطقة المعقل في البصرة، فهي النواة التي بُنيت حولها مدينة البصرة الحديثة. ويقع هذا الميناء على الضفاف الغربية لشط العرب، ومعه بنى البريطانيون مدينة المعقل ذات الطراز المعماري البريطاني لإسكان الموظفين العاملين في الميناء، وشهدت هذه المنطقة وجود أول إشارة مرور ضوئية في العراق، وما زالت حتى اليوم.
تم تأسيس ميناء المعقل عام 1915 بواقع أربعة أرصفة، وكان يطلق عليه اسم «نمرة أربعة» أي «الرقم 4»، ولأهميته حيث كان يُعتبر الميناء الوحيد في العراق الذي يستقبل البضائع من العالم، فقد تم بناء الكثير من الأرصفة فيه حتى بلغت في منتصف السبعينات 15 رصيفا.
ويوضح رئيس المهندسين أثيل عبد علي، مدير ميناء «أبو فلوس» التاريخ الحديث للمواني العراقية قائلا: «كان ميناء المعقل هو الوحيد في البصرة، وكان يتكون من أربعة أرصفة فقط، حيث تم ما بين عامَي 1970 و1980 بناء نحو 15 رصيفا فيه، وسُميت هذه الفترة بالسنوات الانفجارية أو الخطة الانفجارية، إذ شهد العراق خططا إعمارية وتجارية ضخمة للغاية تطلبت استيرادات لمختلف البضائع الإنشائية ومواد مختلفة منها الحديد والسيارات بأحجامها وأنواعها كافة، وكلها كانت تصل عبر البحر وميناء المعقل، حتى إن عدد البواخر المنتظرة في عرض الخليج العربي بلغ في بعض الأحيان أكثر من 475 باخرة تنتظر دورها للوصول إلى ميناء المعقل، وقد سجل كتاب غينيس للأرقام القياسية هذا الرقم الضخم الذي لم يشهده أي ميناء في العالم. وأشار إلى أن هذا الزخم على الميناء أدى إلى تحطم الرصيف رقم 6 إثر إنزال حمولة ثقيلة من خشب الصاج عليه.

ويستطرد عبد علي قائلا إنه «بعد أن تحطم الرصيف رقم 6 عام 1975 اضطرت الحكومة العراقية إلى إرسال وزراء الصناعة والنفط والمواصلات، حيث أقاموا في مدينة البصرة لفحص الأرصفة، ليقرروا في ما بعد بناء أرصفة سريعة لمواجهة مشكلة السفن المنتظرة، كما قرروا بناء ثلاثة أرصفة في منطقة (أبو فلوس) لإيواء السفن المحمَّلة بالمواد الغذائية المبردة والفواكه، واستطاعت شركة «توا هاربر» الكورية إنجاز بناء الأرصفة الثلاثة عام 1977، وفي ذات الفترة تم إنجاز رصيف المعامر في شمال الفاو.
على الرغم من أن ميناء «أبو فلوس» الذي تجولت «الشرق الأوسط» بين مرافقه يعد أصغر مواني العراق، فإن الحركة فيه تشهد ازدحاما مطّردا. يقول رئيس المهندسين عبد علي إن ميناء «أبو فلوس» يتكون من ثلاث أرصفة ويستقبل بواخر صغيرة، طول الباخرة 100 متر بغاطس خمسة أمتار، وتحدد القناة الملاحية حجم وعدد البواخر التي تصل إلى الميناء خصوصا أن الطمي يعرقل حاليا وصول غالبية البواخر إذ لم تجرِ أي عمليات حفر وتنظيف للقنوات الملاحية في شط العرب منذ سنوات طويلة، موضحا أن هذا الميناء، الذي تديره سلطة المواني العراقية التابعة لوزارة النقل، يستقبل أسبوعيا عشر بواخر غالبيتها قادمة من مواني دول الخليج العربي، خصوصا دولة الإمارات العربية، بالإضافة إلى الدافعات (ماكينات طافية تدفع العوامات المحملة بالبضائع)، وتبرز أهميته في ظل توقف العمل في ميناء المعقل منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) وحتى اليوم.

تبلغ إيرادات هذا الميناء أكثر من 700 مليون دينار عراقي شهريا، باستثناء واردات الجمارك، وهناك فكرة لطرحه للاستثمار من قِبل شركات متخصصة، عراقية أو أجنبية حيث تقوم بإعادة إعماره وتنظيف ممراته المائية وحفرها بحيث يسمح بتشغيل 85% من الكادر المحلي. ويشير مدير ميناء «أبو فلوس» إلى أن «أهم مشكلاتنا في المواني العراقية هي وجود الغوارق من البواخر التي تم قصفها خلال الحروب وغرقت في مياهنا وبالقرب من موانينا وفي ممراتنا الملاحية، حيث توجد حفارة ضخمة (الخليج العربي) ضمن هذه الغوارق».
ويوضّح المهندس عبد علي أن من أبرز الشركات التي تقوم بتشغيل الميناء واستثمار نشاطه التجاري هي شركة «بركة العاشور» التي تعد من أقدم من عمل في مجال النقل البحري في البصرة.
ويعزو الكابتن الحمامي تسمية بـ«أبو فلوس» إلى أن «هذه المنطقة كانت عام 1914 مقر الأقسام الإدارية والمالية والأرزاق للجيش التركي، لكونها تقع مباشرة على ضفاف شط العرب ويسهل التنقل خلالها، وعندما حدثت الحرب العالمية الأولى اضطرت القوات التركية إلى الانسحاب سريعا من المنطقة أمام هجمات القوات البريطانية التي دخلت إلى الأراضي العراقية عن طريق الفاو، وقد قام الجيش العثماني بدفن الأموال والوثائق الخاصة بهم في ذات المعسكر الذي كانوا فيه ثم انهزموا على أمل العودة ثانية لأخذ هذه الأموال والوثائق، وبعد انسحابهم هب الناس إلى معسكر الأتراك وحفروا الأرض، وقد عثر قسم منهم على الأموال، وهناك أموال أخرى لم يُعثر عليها حتى اليوم، وبسبب هذه الأموال سُميت المنطقة (أبو فلوس)».
ويذهب الحمامي إلى أنه للسبب ذاته، ولكن بصيغة مختلفة، أطلق الناس على الجزيرة القريبة من ميناء «أبو فلوس» تسمية «جزيرة أم الرصاص»، وذلك لأن القوات البريطانية تركت في هذه الجزيرة غالبية عتادها وأسلحتها غير المجدية، وانسحبت، وأيضا ذهب الناس إلى هناك لنقل العتاد والأسلحة، إذ إن العراقيين يطلقون تسمية الرصاص على أي عتاد، فسمّوا الجزيرة «أم الرصاص».

لكن ميناء «أم قصر» الذي يقع على مسافة 60 كيلومترا شمال مركز البصرة، يعد الأضخم في العراق، وكما لتسمية ميناء «أبو فلوس» قصة، فإن لـ«أم قصر» (وهي منطقة قديمة كانت تسمى «الصابرية»، وتقع جنوب مدينة الزبير وشرق خور عبد الله) قصة هي الأخرى، ذلك لوجود منزل مبني من الطين (سمي قصرا لضخامته) قديم كان يقع في هذه المنطقة البرية النائية يعود إلى تاجر من البصرة يُدعى أحمد بن رزاق أو عبد الرزاق، حيث كان يقصد هذا القصر مع أصحابه لصيد الصقور والغزلان، لكن القصر اختفى مع الزمن وبقي الاسم عالقا في الذاكرة الجمعية المتوارثة.
كانت رئاسة المواني العراقية، وقتذاك، تقوم ببناء مجمعات سكنية متكاملة إلى جانب إنشائها للمواني كي توفر السكن وبقية الخدمات من مدارس وأسواق للعاملين في الميناء، متتبعة خطط الإنجليز لدى بنائهم حي المعقل في البصرة مع ميناء المعقل، وقد بدأت مدينة أم قصر بألف منزل ثم سرعان ما تنامت المدينة لتشتمل اليوم آلاف المنازل.
ولميناء أم قصر قصة طريفة مع الحوت، رواها لنا صيوان حسين، الذي كان سائق كرين (رافعة) ضخم عند افتتاح الميناء في الستينات، يقول: «كان هناك حوت قد تتبع سفينة أسترالية كانت تنقل خرافا إلى العراق، وعندما شعر قبطان السفينة بالخطر على سفينته وحمولته أخذ يرمي للحوت خرافا مسمومة حتى إذا ما وصلت إلى ميناء أم قصر ماتت هناك، وفي رواية ثانية هي أن الحوت عندما وصل إلى ميناء أم قصر شعر بتقييد حركته لأن عمق المياه والمساحة المتاحة لحركته ضيقة للغاية، فمات هناك، وشكّل موت الحوت عقبة كبيرة أمام رسوّ البواخر الكبيرة في الميناء مما تتطلب إخراجه بواسطة أضخم كرين في الميناء وهو كرين (الرافعة) الذي كان يحمل اسم عنتر».
ويستطرد حسين قائلا: « عندما مُدّد جسد الحوت على الرصيف ازدحم السكان لالتقاط الصور التذكارية إلى جانبه، وقد بدا حجم الأشخاص صغيرا إلى جانب الحوت الذي لم يكن أصلا من الحجم الكبير، وتم دفنه قريبا من الميناء كي يتفسخ ويُعرض هيكله العظمي في متحف العلوم الطبيعي التابع لجامعة البصرة، وهذا ما حصل بالضبط.

يقول الفنان التشكيلي أحمد السعد، وهو من السكان الأوائل لمدينة أم قصر: «كنت في الدراسة الابتدائية عندما جئت مع عائلة شقيقي الذي كان معلما، إلى أم قصر، كان عدد البيوت والمدارس والمحلات التجارية محدودا للغاية، لكننا كنا سعداء بأن نمضي أوقاتنا بين البحر والصحراء وتنمية مواهبنا في القراءة والرسم والرياضة لأنها كانت متنفسنا الوحيد وقتذاك».
المدينة التي كانت نائية ومحصورة ما بين الصحراء ومياه خور عبد الله الذي يشكل امتدادا للخليج العربي كانت تجاورها قاعدة الخليج العربي البحرية، والتي تشكل في حد ذاتها مجمعا عسكريا وسكانيا لضباط وجنود القاعدة، لكن القاعدة اختفت منذ تم تحرير الكويت (عام 1991) إذ تم ضم أراضيها إلى الكويت ضمن التحديد الذي فرضته الأمم المتحدة على النظام السابق، كما تم مد أنبوب حديدي كعلامة حدودية فاصلة بين البلدين، وهذا ما يشكل هاجسا يُشعِر السكان بالغبن، حسبما يقول زكي جبارة، وهو ضابط متقاعد كان يخدم في قاعدة الخليج العربي البحرية خلال الحرب العراقية الإيرانية، يقول: «كنت أسكن مع عائلتي هناك»، يشير إلى الموقع السابق للقاعدة البحرية، «لكن بيوتنا والأرض التي كانت تقوم عليها القاعدة صارت كويتية بعد أن فُرض على النظام السابق شروط قاسية أجبرته على القبول بها، لكن هذه الشروط لن تجبر الناس على القبول بالأمر الواقع ما داموا يشعرون بالظلم، وأنا كعسكري قاتلت طوال ثماني سنوات مدافعا عن هذه الأرض وعن الكويت أيضا أعتبر أن هذه الحدود هي قنبلة موقوتة، إذ سيبقى العراقيون رافضين لهذا الإجراء».
ويستقبل ميناء أم قصر البواخر العملاقة ذات الغواطس العميقة التي لا تتحملها مياه شط العرب، وحسب حسين محمد عبد الله معاون مدير المواني العراقية، فإن ميناء أم قصر يعد أكبر المواني العراقية، مشيرا إلى أن الميناء يحتاج تطوير البنية التحتية وإنشاء أرصفة إضافية وتبليط الأرصفة القديمة ووضع حد لمشكلة انقطاع التيار الكهربائي.
ويؤكد عبد الله أن وزارة التجارة تعتمد على الميناء بشكل كبير في استيراد السلع الغذائية، فالميناء يستقبل سفنا بحمولة 50 ألف طن وتفرَّغ فيه يوميا 489 شاحنة.
ويكشف أحد المسؤولين في الميناء -رفض نشر اسمه- عن أرباح الميناء خلال السنوات الثلاث الأخيرة قائلا إن «الإيرادات في عام 2006 بلغت 141 مليار دينار عراقي مقابل 60 مليار دينار نفقات، بينما إيرادات عام 2008 بلغت 131 مليار دينار مقابل 128 مليار دينار نفقات. مشيرا إلى أن سبب انحسار الأرباح إلى «الزيادة التي طرأت على رواتب الموظفين»، مضيفا أن «هناك فائضا غير مبرر في أعدادهم (عددهم نحو 2800 موظف) ومعظمهم قليل الخبرة.
وحسب مسؤول هندسي في الميناء فإن ميناء أم قصر الذي أضيف إليه رصيفان لاستيعاب الزخم في البواخر الواصلة بحاجة إلى إعادة تعمير وتجهيز أجهزة حديثة، قائلا إن «الموضوع يتعلق بعمر الميناء الافتراضي الذي انتهى عمليا، حيث إن الآلات والأجهزة عملت كل هذه الفترة دون أن تجري عليها صيانة فعلية، وكذلك بانقطاع التيار الكهربائي وخراب حتى شوارع الميناء الذي يفترض به أن يربط بين الغرب والشرق».

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced