تبوأت المرأة في تاريخ مصر القديم مكانة بارزة في شتى مناحي الحياة جعلتها شريكة للرجل إن لم تكن أحد الأسباب الرئيسية في نمو الحضارة المصرية، لذا لم يكن من الغريب على المجتمع قديما توقير المرأة والنظر إليها نظرة "تقديس" لآلاف السنين جعلتها حاضرة بقوة في المشهدين الديني والدنيوي.
سبقت الحضارة المصرية حضارات الشرق القديم في تولي المرأة مناصب عليا في البلاد، فكانت ربة في مجمّع الأرباب، وعنصرا أساسيا في أسطورة خلق الكون، وكاهنة لأكبر معبودات مصر، وملكة شاركت زوجها الملك في إدارة شؤون البلاد، أو وصية على العرش، أو ملكة انفردت بالحكم في ظل غياب وريث للعرش، فضلا عن دورها الأساسي كأم وزوجة.
اعتلت المرأة عرش مصر أو شاركت فيه أكثر من مرة في ظروف سياسية وتاريخية أحاطها الجدل، وحملت ألقابا عبر العصور من بينها "سيدة مصر العليا والسفلى" و"سيدة الأرْضَين" و"الحامية" و"العالمة" و"ابنة الإله" و"الحاكمة" و"قوية الذراع" و"القابضة على الأرضين" و"سيدة التجلي"، إلى جانب مجموعة أخرى من الألقاب الشرفية مثل "جميلة الوجه" و"عظيمة المحبة" و"صاحبة الرقة".
وتقول العالمة الفرنسية ماري-آنغ بونيم، أستاذة دراسات تاريخ مصر القديم بمعهد التاريخ التابع لجامعة باريس الرابعة، في مجموعة دراسات حضارية بعنوان "عالم المصريين"، إنه بداية من عهد الأسرة الثانية، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم "قرر المصريون أنه في وسع المرأة أن تشغل وظيفة ملكية".
وأضافت بونيم أن تاريخ مصر قديما عرف اعتلاء المرأة للعرش كحلقة في سلسلة انتقال للسلطة ضمانا لاستمرارية الأسرة الحاكمة، وأن مؤرخي الدولة الحديثة، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم : "أسقطوا عمدا، على سبيل المثال، اسمي الملكة حاتشبسوت والملكة تاوسرت من قوائم الملوك، لأنهما شغلتا منصب الملك في ظروف كانت وراثة العرش تعاني من أزمات، واعتبرتا مغتصبتين للعرش".
وإن كان المصريون القدماء لم يألفوا كثيرا حكم المرأة، إلا أنه لم يمنع من اعتلاء بعضهن العرش في ظروف اتسمت فيها الدولة بالضعف والاضطرابات السياسية، أبرزهن ملكات حكمن بمفردهن مثل "مريت نيت (الأسرة الأولى)" و "خنتكاوس (الأسرة الرابعة)" و "نيت إقرت (الأسرة السادسة)" و "سوبك نفرو (الأسرة الثانية عشرة)" و"حاتشبسوت (الأسرة الثامنة عشرة)" و" تاوسرت (الأسرة التاسعة عشرة)".
مريت نيت أقدم ملكات مصر
اختلفت آراء علماء تاريخ مصر القديم في شأن الملكة "مريت نيت"، نظرا لبعد الفترة الزمنية وندرة المصادر التاريخية القاطعة بشأنها، فهل حكمت البلاد بالفعل بمفردها أم كانت شريكة في الحكم؟
ويقول العالم الفرنسي نيقولا غريمال، رئيس كرسي دراسات تاريخ مصر القديم في معهد كوليج دو فرانس والمدير السابق للمعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، في دراسته بعنوان "تاريخ مصر القديمة"، إن رابع ملوك الأسرة الأولى الملك "دن" ترك ذكرى عهد ملكي مجيد ومزدهر، وربما بدأ عهده بفترة حكمت فيها "مريت نيت" كوصية على العرش.
وأضاف غريمال : "ساندتها سلطة كبار الموظفين ودعمتها، مما اضطر الملك دن إلى الحد من هذا السلطان".
والثابت تاريخيا أنها واحدة من ملوك الأسرة الأولى تولت الحكم بعد الملكين "حور عحا" و"جر"، وعثر علماء على نقش يحمل اسمها على لوحة في مقبرة في أبيدوس، بخلاف مقبرتها الأخرى في سقارة.
خنتكاوس والدة الملوك
ورثت "خنتكاوس" عرش البلاد بعد فترة حكم قصيرة جدا للملك "شبسسكاف"، آخر ملوك الأسرة الرابعة. وهي والدة ملكين حكما الوجهين القبلي البحري هما "ساحورع" و "نفرإيركارع"، وفقا لما ورد في مقبرتها في الجيزة.
ويقول غريمال إن "خنتكاوس" هي نفسها الملكة "ردجدت" التي تحدثت عنها بردية وستكار حين بشرها الساحر "جدي" في حضرة الملك "خوفو" بأنها سوف ترزق من الإله "رع" بملوك الأسرة الخامسة الثلاثة الأوائل.
وأغلب الظن أن الملك "شبسسكاف" تزوج "خنتكاوس"، ابنة "جدف-حور" الأخ غير الشقيق للملك "جدف-رع" ابن الملك "خوفو"، توثيقا لعرى الروابط بين فرعي العائلة المالكة، واعتبرها المصريون الجدة الأولى للأسرة الخامسة، ويبدو أن "شبسسكاف" لم ينجب منها وريثا للعرش، لذا يعتقد العلماء أنها كانت شريكة للملك في الحكم.
ويقول العالم المصري سليم حسن في دراسته الإنجليزية "حفائر في الجيزة" إن "خنتكاوس" اتخذت لنفسها ألقابا من بينها "ملكة مصر العليا والسفلى" و "أم ملك مصر العليا والسفلى"، ويعتقد أنها كانت وريثة شرعية للعرش، وانتقلت هذه الشرعية إلى الأسرة الخامسة.
نيت إقرت رادوبيس اليونانية
تولت "نيت إقرت" حكم البلاد في نهاية الأسرة السادسة في فترة اتسمت بالضعف والاضطراب، وتشير قائمة أبيدوس الملكية إلى اسم ملك حكم بعد الملك "بيبي الثاني" يدعى "مرنرع الثاني"، لم يدم حكمه أكثر من عام واحد، ويبدو أنه تزوج من الملكة "نيت إقرت" التي كانت في رأي المؤرخ مانيتون آخر ملوك الأسرة السادسة.
جاء ترتيب "نيت إقرت" على جدول أسماء الملوك في بردية تورينو في مرتبة تالية للملك "مرنرع الثاني" كملكة للوجه القبلي والوجه البحري، وعلى الرغم من ذلك لم يرد ذكر اسمها في قائمتي "سقارة" و "أبيدوس" الملكيتين.
ويقول غريمال : "في العصر اليوناني استحوذت الخرافة على سيرة هذه المرأة وحولتها الأسطورة إلى (رادوبيس) كما نسبت إليها تشييد هرم الجيزة الثالث، وهي أولى الملكات المعروفات اللاتي تولين السلطة السياسية وحكمن مصر"، ويقف التاريخ عاجزا عن تفاصيل أخرى عن عصر هذه الملكة.
سوبك نفرو سيدة الأرْضَين
تولت "سوبك نفرو" عرش البلاد في نهاية الأسرة الثانية عشرة في ظل تدهور أحوال البلاد بعد وفاة الملك "أمنمحات الرابع"، وخلافات على ولاية عرش مصر.
وتعد هذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر القديم التي يشار إلى سيدة كامرأة وفرعون في آن واحد، واتخذت ألقابا من بينها "ملكة مصر العليا والسفلى" و "المنتمية للربتين" و " المنتسبة لحور" و "سيدة الأرضين". وثمة اعتقاد بأنها ربما أخت أو زوجة للملك "أمنمحات الرابع"، ويُنسب إليها هرم مزغونة الشمالي إلى الجنوب من منطقة دهشور.
وعُثر على جزء علوي لأحد تماثيلها محفوظا حاليا في متحف اللوفر بباريس، يمثل الملكة وهي ترتدي ملابس بأسلوب فريد غير مألوف، وفوق ردائها الأنثوي، وضعت الإزار مثل الملوك، وعلقت في عنقها الختم المزدوج الخاص بملوك الدولة الوسطى.
وتجمع القوائم الملكية على حكم هذه الملكة للبلاد فترة قصيرة لم تتجاوز ثلاث سنوات، وتحدد بردية تورينو الفترة بثلاث سنوات وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما، وربما انتهت فترة حكمها نهاية مضطربة، ودفنت بجوار "أمنمحات الرابع".
الدولة الحديثة، الأسرة الثامنة عشرة، وهي ابنه الملك "تحوتمس الأول" والوريثة الشرعية للعرش في ظل غياب وريث شرعي ذكر للبلاد، باستثناء أخ غير شقيق لها من أبيها هو "تحوتمس الثاني" الذي أضفى شرعية على توليه العرش بزواجه من حاتشبسوت.
أنجب "تحوتمس الثاني" من حاتشبسوت ابنتيهما "نفرو رع" و"مريت رع-حاتشبسوت"، كما أنجب من زوجة أخرى الخادمة "آست اي إيزيس" ابنه "تحوتمس الثالث" الذي تزوج من الأميرة "مريت رع-حاتشبسوت"، وأصبحت له شرعية تولي العرش، لكن صغر سنه حالت دون توليه الحكم، ليصطدم بطموحات زوجة أبيه وتصبح حاتشبسوت وصية على العرش بعد وفاة زوجها "تحوتمس الثاني".
ويوضح نص للكاتب المصري القديم "إينيني" نقلته إلى الفرنسية العالمة كلير لالويت، أستاذة التاريخ والأدب المصري القديم بجامعة باريس سوربون، في دراستها عن "طيبة ونشأة الإمبراطورية" صورة واضحة لمشهد وراثة العرش:
"وحل مكانه ابنه، بصفته ملك القطرين. وحكم متربعا على عرش هذا الذي أنجبه. وكانت الزوجة الإلهية حاتشبسوت تدير شؤون البلاد. وخضعت الأرضان لسلطانها. وعمل الجميع من أجلها وحنت مصر رأسها من أجلها، من أجل بذرة الإله النورانية. إنها رباط مصر العليا ووتد رسو أبناء الجنوب، ورباط مصر السفلى وسيدة الأوامر، خيّرة هي مقاصدها والشاطآن راضيان عندما تتحدث".
تبوأت حاتشبسوت مقاليد الحكم في ظل حداثة سن "تحوتمس الثالث" وجعلته واجهة أمام الشعب فقط لا يظهر اسمه إلا على الوثائق الرسمية أحيانا لمدة تسع سنوات، حتى انفردت بالحكم تماما لمدة 13 عاما، ونصبت نفسها ملكة للبلاد تحمل لقب "ملكة مصر العليا والسفلى" وتزينت بلباس الملوك الرجال كما يتضح من تماثيلها في معبدها بالدير البحري في مدينة الأقصر.
وتقول العالمة الفرنسية كرستيان ديروش-نوبلكور في دراستها بعنوان "المرأة في زمن الفراعنة" إن حاتشبسوت "اغتنمت الفرصة للانطلاق على طريق مغامرتها الكبرى، بمجرد بدء الاحتفالات الخاصة باعتلاء العرش وتنصيب الوريث".
سعت حاتشبسوت إلى إقناع الآخرين بأن أباها "تحوتمس الأول" فضّلها وأشركها في شؤون البلاد، وهو ما يظهر في بعض الوثائق التي يحتفظ بها متحف اللوفر بباريس، ويظهر عليها اسم "تحوتمس الأول" و"حاتشبسوت" جنبا إلى جنب، لكنها نصوص ربما حُررت لخدمة هدف الملكة في فترة لاحقة بعد استئثارها بالحكم.
ولإضفاء شرعية دينية على حكمها اختلقت الملكة أيضا قصة "الولادة الإلهية" التي جامع فيها الإله "آمون-رع" أمها الملكة "إعح-مس" وتمثل لها بشرا وبشّرها بولادة الابنة "حاتشبسوت" التي سوف تجلس على عرش مصر وحدها.
أمرت بنقش القصة على جدران المعبد الجنائزي في الدير البحري، ووصفها العالم الفرنسي فرانسوا دوما بالمتتالية المسرحية لأن النصوص والصور أشبه بفصول تعبر عن ثلاثة موضوعات رئيسية : (الأولى) الحمل والولادة، (الثانية) القبول في عالم الخالدين، (الثالثة) المُلك الأرضي.
وحفاظا على العرش عمدت حاتشبسوت إلى تكوين حاشية من المخلصين ، فاستعانت بكبار موظفي الدولة على رأسهم المهندس "سننموت" والوزير القاضي رئيس الكهنة "حابو سنب".
مر عهدها دون حدوث معارك بين مصر والدول المجاورة لها، واهتمت بالشؤون الداخلية للبلاد فقط، وتنظيم الرحلات التجارية مثل الرحلة الشهيرة لبلاد "بونت" التي سجلت تفاصيلها على جدران معبدها، وأهملت الشؤون الخارجية مما دفع دولة ميتاني إلى تحريض دويلات أخرى ضد مصر، الأمر الذي ساعد في ظهور "تحوتمس الثالث"، قائد الجيش ووريث العرش، على الساحة السياسية من جديد مغتنما الفرصة لتوطيد أقدامه واسترداد عرشه.
ولا توجد أي تفاصيل تاريخية تشير على وجه التحديد إلى ظروف نهاية حاتشبسوت، إلا من بعض الأساطير التي تقول إن الملك الجديد أخذ يطارد ذكراها ومحا اسمها من كل أثر وهشم تماثيلها ليختفي اسمها إلى الأبد، ليتربع على العرش لمدة 30 عاما، ويصبح واحدا من ألمع وأقوى ملوك مصر القديمة وأكثرهم مهابة على مر العصور ومؤسسا للإمبراطورية المصرية في الشرق.
تاوسرت زوجة الملكين
تزوج الملك "سيتي الثاني"، أحد ملوك الأسرة التاسعة عشرة، من سيدة تدعى "تاوسرت" ومنحها لقب "زوجة عظيمة"، ويبدو أنها لم تكن من سلالة ملكية، وبعد وفاته تولى شاب يدعى "رعمسيس -سي بتاح" يعتقد العلماء أنه ربما كان أخا غير شقيق لسيتي الثاني أو ابنا له من زوجة أخرى.
بالفعل أستأثرت "تاوسرت" بالسلطة بمساعدة حامل الأختام "باي"، رجلها الموثوق به الذي يقال إنه من أصول سورية، وأجلسا "رعمسيس-سي بتاح" على العرش وتزوجته، وهو الرأي الذي تدعمه العالمة كلير لالويت، وتطرح سؤالا هل كان الملك في بداية الأمر واجهة صامتة تستتر وراءها طموحات تاوسرت وباي؟
ولا تساعد الوثائق التاريخية في معرفة كيف انتهت سنوات حكم "رعمسيس -سي بتاح"، ولكن حدث بعد وفاته أن اتخذت "تاوسرت" لنفسها قائمة بألقاب ملكية أهمها "ابنة رع" و"محبوبة الإله موت"، وحكمت البلاد سنوات وظل "باي" مساعدا لها.
وبلغ حد التعاون بين الشريكين إلى أمرهما بحفر مقبرتين في وادي الملوك، وهو شرف ملكي كان حتى هذه اللحظة حكرا على الملك الفرعون فقط، كما أمرت "تاوسرت" بنقش صورتها على جدران مقبرتها بصحبة زوجيها الملكين المتعاقبين "سيتي الثاني" و"رعمسيس -سي بتاح".
لا شك أن المرأة المصرية تمتعت بكافة الحقوق المساوية للرجل على نقيض الحال في معظم الحضارات القديمة، كاليونان والرومان. وإن كان ذلك غير مألوف أيضا في حضارات الشرق القديم إلا أنه انعكس بوضوح جلي في وثائق وكتابات المصريين القدماء، التي استحضرت المرأة بقوة في جميع الأعمال الأدبية والفنية.
وتقول ديروش-نوبلكور : "إن المساواة التي لا نزاع فيها بين الجنسين في مصر القديمة لم تكن وليدة صراع خاضته ابنة النيل للحصول على ترقية تشتهيها. لقد خلق الإله المرأة ... وظل التثقيف والتعليم أمرين أساسيين بالنسبة لتكوين وإعداد المرأة التي ستُطالب بمجابهة الكثير من المسؤوليات، كما لم يشهد الواقع على وجود حاجز أو عائق قاوم رفعة المرأة في كل طبقات المجتمع المصري".