في 23 آب قبل 11 عاما اغتيل المثقف الحيوي المناضل (كامل شياع) قبل ان تتحقق احلامه، وكان بذلك الوافد الأخير الى الموت في بغداد،
بعد ان قضى شطرا من حياته في الغرب، يحلم بالمجيء الى بغداد لتحقيق احلامه الثقافية. وهو الذي نظم وكتب وصايا اهم مؤتمر للمثقفين العراقيين في باريس، وما تزال وصاياه في ادراج مكاتب وزارة الثقافة تنتظر من يعيدها الى الحياة، في الاقل استذكارا لكاتبها الكبير كامل شياع. وقلما نعثرعلى انسان مفرط في انسانيته، ويجسد رؤيته للحياة وسلوكه. كامل شياع انسان وهب نفسه وتاريخه للثقافة. وبيت المدى يعتز باستذكاره ثانية لانه من أسس الثقافة الرصينة في العراق.
صاحب مشروع ثقافي
بيت المدى كما عودنا باستذكارالرموز الثقافية داخل العراق وخارجه لا سيما تلك الرموز التي قدمت خدمات جليلة للثقافة والعراق. اليوم نقف امام قامة ثقافية شاهقة غيبت قسرا عبر "الاغتيال السياسي" الجبان لانه كان شمعة مضيئة وصاحب مشروع ثقافي تنويري، وهوالكاتب ووكيل وزارة الثقافة الاسبق "كامل شياع"، الذي لم يغب ابدا عن الذاكرة والحضور، بل هو حاضر بينا بأخلاقه العالية وفكره النير ومشروعه الثقافي الذي ينادينا دائما لتبنيه واستحضاره. وفي مبادرة لاقت الاستحسان بين جمهور الجلسة الكثيف وزعت عائلته 65 وردة حمراء بقدر سنوات عمر كامل وكراسا عن حياة الفقيد.
المثقف القربان
قدم للجلسة الناقد "علي الفواز" فأشار إلى:- نستذكر اليوم المثقف القربان والحالم، الذي حلم كثيرا بثقافة غير ثقافة اليوم. ثقافة تضع الحالمين عند عتبة الحياة الانبل والاجمل. الحديث عن شياع ذو شجون.. شجون تمتد الى شخصيته.. ومشروعه الثقافي الناهض.. كما تمتد الى حضوره وفاعليته ودوره الكبير في محاولة النهوض بالثقافة العراقية وبناء مؤسسة ثقافية جديدة تتصدى لتحولات مرحلة ما بعد 2003 سواء على مستوى بناء المؤسسات الديمقراطية او بناء العقول او على مستوى الاسئلة الجديدة. لاننا بدون الاسئلة سنظل نتمسك بالاجوبة التي كتبها التاريخ سابقا، وكررها فقهاء الظلام. شياع قدم مشروعا ثقافيا مهما جاء عبر نضاله الاجتماعي والسياسي، ومن خلال رؤيته الثقافية الواضحة، ومن خلال ايمانه بالعقائديين الذين سبقونا، للكيفية التي تبنى بها الدول الحديثة.
المثقف عتبة أساسية للسياسي
ومثلما ادرك مثقفو الثورة الفرنسية في القرن 18 ان المثقف الحقيقي هو العتبة الاساسية للقائد السياسي. وان يكون مشروع الثورة بمعناه القيمي والفكري والاخلاقي والتاريخي الذي يملك المؤهلات التي تعطي للعقل قوته وفاعليته بان يكون واضحا وحالما. ادرك شياع الامر من خلال الفلسفة والايديولوجيا والوطنية والخبرة الثقافية لديه، ليواجه تحديات كبرى، اكثرها رعبا هي تحديات التاريخ وتحديات الاستبداد والظلام. لذلك كانت مهمته ايقاد شمعة مضيئة في الظلام. من خلال (كيف نبني مؤسسة ثقافة حقيقية. وكيف لنا ان نفصح عن حلم، وكيف لنا ان نفكر بشكل جدي)، ان الدولة الثقافية والمؤسساتية والحقوقية هي الفضاء الذي يجب ان نناضل ونسعى لخلقه. اليوم نستذكره حتى نعيد ذلك الحلم الذي راوده كثيرا. ونستعيد فكرة التنوير، وان يكون المناضل مثقفا.
قتل شياع هو قتل لمشروعه الثقافي
في حين قال اول المتحدثين الاستاذ رضا الظاهر:- اهم الاسئلة المثارة في اغتياله، يجيب عليها تألق شياع ومشروعه ونموذجه الوطني الديمقراطي النادر في سلوكه وفكره التنويري وحياته البسيطة تلك المواصفات التي جعلت اعداء الانسانية تخاف منه ومن مشروعه الثقافي فقرروا تصفيته. وقتله معناه قتل المشروع الثقافي الذي كان يريد تنفيذه. وهو مشروع للعقلانية والثقافة الحقيقية. كان شياع متوازنا بين الهم اليومي والمرتجى الثقافي. واغتياله لم يكن مجرد تصفية مثقف، بل كان معركة على البديل الاجتماعي، وعلى مصائرها تقف نتائج التطور الاجتماعي والثقافي في البلاد. كما استذكر الظاهرعلاقتهما في بريطانيا فقال:- رغم انه يتوقع اغتياله او تغييبه لكنه كان ثابتا في مواقفه ومتمسكا بمشاريعه في اعادة قراءة المشهد برؤية جديدة، وهذا يتطلب وعيا جديدا يختلف عن الوعي السابق والسائد لصياغة الافكار الجديدة. فقلت له لا يمكن ان نخترق السائد الا برؤية ثورية ديمقراطية تنسف وتطيح ماهو موجود. كما تحدثنا عن الماركسية وآفاق تطورها وعن الفن وجماليته. والتباسات ما بعد الحداثة. وحدثني عن الموسيقى الكلاسيكية التي احبها. وكيف يصغي برهافة حسه الى كونسرتو كمان بذات الحس الوطني بقضايا شعبه ومشاريعه الثقافية. كان عميق الفكرة وشفاف الروح ورفيع اللغة وكثير التواضع. وتواعدنا ان نلتقي في بغداد لنكمل المشوار لكن للاسف تحولت بغداد الحلم الى كابوس.
من قتل كامل؟
وقال الدكتور جمال العتابي:- لم تكن رجلا/كنت انسانية/لم تمتشق قلما،لم تمتشق بندقية/لم تمتشق الا دمك/كان دمك مكشوفا من قبل ان يسفك/ومن رآك رأى دمك/هو الوحيد الواضح، الوحيدالحقيقي. هكذا رثى محمود درويش غسان كنفاني.
من قتل كامل...؟؟! السؤال الذي لم أجد له جواباً في سجلات الشرطة العراقية، ولم يشهد القضاء جلسة محاكمة واحدة لمتهم، ولم يكشف عن مصير التحقيق في الجريمة، بل جرى عمداً إغلاق ملفها، ومرتكبو الجريمة أحرار طلقاء بعلم الحكام وأجهزة السلطة، وسبق لمسؤولين أن أعلنوا جهاراً وعبر وسائل الإعلام، معرفتهم بالجناة، والجهات السياسية التي تحميهم وتقف وراءهم..
الأعوام الـ 11التي مضت حافلة بالأحداث، وأنا لا أكف عن طرح الأسئلة، ومحاولة التوصل إلى الأجوبة، فالقاتل عندي مكشوف الوجه، غير مقنع مثلما يراه شركاؤه، القاتل هو أبو جهل، لا أعني بالطبع ذلك الرجل المسمّى عمر بن هشام بن المغيرة المخزومي، المعروف بشدة عدائه للإسلام ونبيه، فالرمز هنا إشارة وإيماء وتلميح لا للحدث التاريخي، إنما للجهل ذاته بما يتضمن من طاقة إيحائية تعبر عن التخلف عبر التاريخ، فقطعاً إن قرار تصفية كامل جرى في دهاليز القتل التي تصنع الموت للفكر النير ودعاته، خمس سنوات من العمل المشترك في وزارة الثقافة العراقية كانت بالنسبة لي شخصياً، درساً في العفة والنزاهة والشعور العالي بالمسؤولية والانفتاح على العطاء الثقافي قال:-. ظل السؤال يلح علي دائماً، من سيحمي كامل؟ الرصين، المتواضع، المؤدب، ثم صار السؤال من قتل كامل؟ غير أولئك الذين يغذون الاحتراب الطائفي والديني، لتعزيز امتيازاتهم، أولئك الذين يريدون عراقاً بلا نخب، بلا علماء ومفكرين من خميرة الإبداع. لم يعد الأسى كافياً في الكشف عن القتلة فهل نحن مدركون لحجم الأخطار في ظل التردد والخوف والصمت، وملوك الطوائف ما زالوا يعبثون في البلاد؟
الراحل خيب ظن القتلة
كما تحدث شقيق الراحل فيصل شياع فقال:- فرحت بدعوة الناقد الفواز حول عقد مؤتمر ثان للمثقفين والادباء يحمل اسم الراحل. وهو افضل وفاء لهذا الشهيد. الذي شكل وغيابه اكبر خسارة للثقافة العراقية، لكنه ربح هذه الذكرى المعطرة التي قدمتها المدى. اتذكر انه زار المتنبي يوما باحثا عن كتاب قاموس اعتبره لقية. وكان القاتل في ظني يحوم حوله يراقبه ويتفحص ملامحه. اليوم يعود كامل الى المتنبي، الذي احبه وتعلق به منذ صغره حين كان يأتيه بمعية والده. يعود بين محبيه ينثر فكره وآراءه، التي حاول قاتله ان يمنعها. وبذلك خيب كامل ظنه! شكرا للمدى على اصداراتها الاخيرة عن كامل، وهي كتابات سبق نشرها في جريدة الحياة والوطن ومجلة ابواب في لندن. كما كان يكتب افكارا مهمة في الفكر الفلسفي ويناقش فوكوياما بنظرية نهاية التاريخ، وينظر في اختفاء الاتحاد السوفيتي واسبابه والكثير من القضايا الدولية التي تهمنا كعرب. وقد وزعنا اليوم 65 وردة حمراء وكراسا يضم بعض اوراقه بخط يده.
إعادة التحقيق باغتياله
الباحث رفعت عبد الرزاق قال:- سبق ان احتفلنا بشياع قبل ثمانية اعوام. كما اصدرت المدى بعض كتبه، الى جانب ملحق"عراقيون". والشهيد يستحق الاكثر منا ومرة سألناه لماذا لا تضع لنفسك حماية وانت "وكيل وزير" فاجاب (لا يصيبنا الا ماكتب الله لنا). ودعا عبد الرزاق الى احياء قضية غتياله واعادة فتح التحقيق بمقتله والكشف عن القاتل وتسليمه للعدالة. وقال المؤرشف هادي الطائي:- كان شهيد الفكر العلمي والثقافة التقدمية. وتعارفنا في احتفال الحزب الشيوعي بثورة 14تموز فطلب مني كتاب عن الثورة فيه وثائق كتبها الدبلوماسيون الاجانب. طلبه لينشره في طريق الشعب وقال ان الاوربيين يهتمون بالثورة اكثر منا نحن العراقيين. وشبه الثورة بيوم القيامة كما شبهها من قبل الجواهري.