في الساعة الثالثة من بعد ظهر (23 آب 2008) وعلى طريق محمد القاسم وسط العاصمة بغداد، أغتيل المستشار بوزارة الثقافة الشهيد كامل شياع برصاص مسلحين من مسدسات كاتمة للصوت.. وسجّل الحادث ضد مجهول.
في العام 2004،كنت عضوا في هيأة الرأي بوزارة الثقافة ، تقدم نحوي شاب بشوش الوجه وسلم عليّ كأنه يعرفني من سنين.
دخلنا غرفته في الوزارة.. كانت لا تتعدى مساحتها 3 في 4 مترا ،اقتطعت من ممر بحواجز خشبية.. لتكون مكتب مستشار وزارة الثقافة!.. الأديب كامل شياع عبد الله السوداني.
توثقت الصداقة بيننا يوم عملنا معا في التحضير لأول مؤتمر ثقافي تقيمه وزارة الثقافة بعد التغيير، حضره مثقفون وفنانون ومفكرون من محافظات العراق كافة، ( وحدث في قاعة المؤتمر أن اصيب الراحل الفنان الكبير جعفر السعدي بوعكة صحية)..وخرج بتوصيات لو أنها اعتمدت لاستعادت الثقافة العراقية دورها الريادي عربيا وعالميا.
كان كامل.. كامل الأخلاق.. ودودا هادئاً بقلب مفعم بالمحبة وعقل مزدهر بالفكر. فبعد ان عمل في الجزائر مدرّسا للّغة الانجليزية، توجه في 1983 نحو مدينة لوفان الايطالية ليحصل منها على شهادة ماجستير فلسفة في موضوع (اليوتوبيا ..معيار نقدي)، ويؤلف قاموسا (انجليزي – ايطالي – عربي) للسائحين ورجال الأعمال.. ولتتنوع لديه مجالات المعرفة، من الفلسفة أم العلوم الى السينما والمسرح والفن التشكيلي.. اوصلته الى ان يحقق مكانة مرموقة بين الجاليات العراقية في بلدان المنافي واوربيين من جنسيات متنوعة، ومكنته ان يكون محاضرا مطلوبا في الندوات والمؤتمرات الثقافية وصاحب برامج في راديو(أف، آر، تي الدولي في بروكسل) وقسم التلفزيون الدولي لوكالة اسوشيتد برس ، وكاتبا لصحيفة (الحياة) اللندنية ومجلات :الوسط ،ومواقف، والثقافة الجديدة التي يصدرها الحزب الشيوعي العراقي والتي عمل فيها كامل من يوم كان عضوا في الحزب في سبعينيات القرن الماضي الى ان صار عضوا في مكتبه السياسي.
كان من بين أهم مؤلفاته (تأملات في الشأن العراقي) و(قراءات في الفكر العربي والاسلامي) و(الفلسفة ومفترق ما بعد الحداثة)،وأخرى يعمل اخوه فيصل على توحيدها وتقديمها للطباعة.. واخرى تعطيك اليقين بان كامل شياع كان مثقفا من طراز رفيع.. واستنتاجا مأسويا، ان كل مثقف منفتح يعمل على استعادة دور الثقافة العراقية في بناء الانسان والمجتمع واشاعة ثقافة الحب والجمال والحياة، يكون هدفا للتصفية من سلطة احزاب اسلامية اعتبرت العراق غنيمة لها وتقاسمت مؤسساته بين عوائل قادتها! ،بدأتها مبكرا بالمفكر قاسم عبد الأمير عجام في بابل (2004)، مرورا بعلاء مشذوب في كربلاء 2009، وصولا الى الدكتورة رهام يعقوب في البصرة (2020) و الشهيد ايهاب الوزني (2021).. الى الأسماء التي كتبت على لافتات المتظاهرين (انا الشهيد التالي!)..وصاروا بالمئات..يوم تعاملت احزاب السلطة مع المتظاهرين الشباب وكأنهم اعداء غزاة!
ومع ان كل مثقف تقدمي هو مشروع شهيد في ظل قادة احزاب وكتل سياسية مصابة بحول عقلي، ومنغلقة على معتقدات ماضوية وخرافية، ومأزومة بعقدة الضحية التي تبرر لها الاستفراد بالسلطة والثروة، الا ان خوفي عليه دفعني الى ان انصحه بمغادرة العراق في الوقت الحاضر، فكان جوابه لي انه عاد برسالة عليه ان ينجزها وان كلفته حياته.. وكانت رسالته: ايمانه بأن الثقافة هي التي تمنح الانسان الوعي في صنع حاضر ومستقبل العراق، وتجعل الآخرين مثله ..يعشقون الحياة والحب والجمال.
وكان اوجع لقاء به يوم فارقنا الأديب الكبير والأكاديمي المرموق الصديق الراحل الدكتور عناد غزوان. افجعني خبر موته، فاسرعت لأصل بيته مبكرا في مدينة الشعب.. كان مسجى في تابوته تعلو وجهه ابتسامة لا تفارقه استحضرت لحظتها نكاته يوم كنا معا استاذين زائرين بجامعة صنعاء باليمن. وكنا بداخل الغرفة ستة.. نرفع التابوت مكبرين ونعيده مهللين مغردين بدموع احبة مفجوعين.
وحين حانت لحظة التشييع واكتمل المشيعون، اتصلت بكامل لأبلغه بضرورة الحضور ممثلا لوزارة الثقافة، وكان يومها الأمن مفقودا وخطر جدا على شخصية مستهدفة مثله. بعد اقل من ساعة وصل كامل ليشارك في موكب التشييع..رغم انه ما كانت له صلة معرفة شخصية بالعالم الكبير عناد غزوان.
وافترقنا على أمل ان نلتقي ليفجعني خبر استشهاده..والأوجع ان الحكومات المسؤولة عن حياة مواطنيها لم تصل طوال (13) سنة الى قتلة كامل.. لتسجل كلها ضد مجهول، من كامل شياع وعلاء مشذوب الى رهام يعقوب،وايهاب الوزني.. الى التالي الذي قد يكون أنت أو أنا!