يحيي المنتفضون هذه الأيام، الذكرى الثانية لانطلاق انتفاضة تشرين 2019 التي مثلت أكبر فعل سياسي واجتماعي بعد العام 2003 ضد نظام المحاصصة وقواه المتسلطة. ومن بين الفئات الواسعة التي انخرطت في هذا الحدث المدوي، جاءت مشاركة الفنانين وطلبة الفنون الجميلة في صدارة المشهد، وكانت الأكثر تأثيرا على زخم التظاهرات؛ حيث يؤكد بعض الفنانين هذا الرأي استنادا الى أهمية ونوعية الأعمال الفنية التي قدمت في ساحات الاحتجاج، والتي ولّدت بحسبهم تأثيرات على الصعيدين السياسي والاجتماعي، فضلا عن ارتقائها بمستوى الوعي.
ترحيب بالفنانين وأعمالهم
ويتحدث قصي الزهيري، طالب دراسات عليا في كلية الفنون الجميلة عن التأثير المتبادل الذي حدث بين المتظاهرين والفنانين الذين التحقوا بهم بعد أيام قليلة من انطلاق “أكبر انتفاضة شعبية شهدها التاريخ السياسي الحديث للعراق”.
يقول الزهيري لـ”طريق الشعب”، إن الأيام التحضيرية والترويجية التي سبقت الانتفاضة “لم نشارك فيها، لأننا لم نكن نعتقد بأننا مقبلون على حدث ثوري عظيم، فضلا عن عدم وضوح الرؤية بشأن التظاهر، لكن بعدما خرج المئات من الشباب وواجهتهم الحكومة بالقتل والأساليب الإجرامية والانتقامية، اعتبرنا أن الحدث يخصنا، وخرجنا في الأيام التالية”.
ويضيف الزهيري “انخرط في صفوف المنتفضين عدد كبير من الفنانين وطلبة الفنون الجميلة، ودفعوا ضريبة مكلفة نتيجة موقفهم الوطني المشرف. أنا كنت أحدهم، خسرت مقعدي الدراسي في الدراسات العليا لقسم التصميم الصناعي نتيجة موقفي السياسي من قوى نظام المحاصصة الطائفية، فبعد أن التحقت بالإضراب الطلابي ومساهمتي الاحتجاجية البارزة في خيمة طلبة كلية الفنون في ساحة التحرير، تم فصلي من الدراسة بسبب الغياب، وبعد أن رجعت بصعوبة لاحقا قام الموظفون الإداريون بمضايقتي، وبالتالي رسبت في دروسي لأسباب غير منطقية، بل هي جائرة. وقالوا لي ان هذا ما جنيته على نفسك بالتظاهر ضد الحكومة”، مبينا أن “الفنانين أعطوا الاحتجاجات زخما كبيرا، لأن ساحات الاحتجاج زينت بالرسوم والخطوط والتصاميم، فيما أصبحت العائلات تأتي من كل المدن لسماع الموسيقى والغناء والأعمال المسرحية والسينمائية”.
ويتابع المتحدث “رغم أني ما زلت أحاول العودة إلى مقعدي الدراسي بعد ترقين قيدي، وسواء تمكنت من ذلك أم أخفقت، فأنني فخور بما قدمته مع الفنانين في ساحات التظاهر. أعتقد أن أسباب الانتفاضة ما زالت قائمة، وستكون لنا صولة جديدة ضد قوى الفساد”.
وعي عال
وأبدى الشباب المنتفضون في ساحات الاحتجاج وعيا عاليا في كافة الجوانب، وتميزوا كثيرا بالفنون الهادفة التي كانت جميعها تدور حول إطار الفنون وموقفها السياسي والاجتماعي.
ومارس هؤلاء المبدعون نشاطات كثيرة حتى أضحت ساحات الاعتصام مكانا ثقافيا ومعرفيا من طراز فريد، وأظهروا أن العراق هو ذاته بلد الإبداع والقيم المعرفية.
ويقيم الفنان المسرحي، حمزة عسكر، تجربة الفنانين في الانتفاضة بـ”الايجابية والمؤثرة”.
ويوضح عسكر لـ”طريق الشعب”، أن شريحة الفنانين في المجتمع كبيرة جدا، وتعاني نتيجة الإهمال في ظل حكم قوى رجعية وفاسدة لا تريد من الفنون سوى أن تكون أداة للسلطات والمتنفذين. وبعد أن شهد البلد زخما احتجاجيا هائلا، رفع مطالب جوهرية، انخرط بنات وأبناء هذه الشريحة في دوامته، وأعلنوا موقفهم الصريح بشأن ما جرى، خصوصا وأنهم يتفقون تماما مع رفض مظاهر الجهل والتخلف والعنصرية، وينطلقون من فهمهم الفني المعبر عن ذات الإنسان قبل أي انتماء”، لافتا إلى أن “الشباب المبدعين في مسرح الشارع قدموا أعمالا وأوصلوا رسائل سياسية واجتماعية مهمة جدا”.
أما الحضور النسوي، فيؤكد عسكر أنه كان بارزا في الاحتجاجات “وكانت هناك نقلة نوعية للموهوبات والفنانات اللاتي شاركن بقوة بلمساتهن وعبّرن بطريقتهن عن التكاتف مع المتظاهرين. إن المقولة الشهيرة (أعطني خبزا ومسرحا.. أعطيك شعبا مثقفا) تجسدت في انتفاضة تشرين، وشاهدنا الخبرات المسرحية والطاقات الشبابية الواعدة تقدم أعمالا عكست مأساة الجمهور الذي تلقف الرسائل بسرعة كبيرة”.
نقلة نوعية
وفي ما يتعلق بالمتغيرات التي فرضتها مجريات “تشرين” الفنية والثقافية، يشير الباحث في الشأن السياسي، أحمد جميل إلى أن الانتفاضة “مهدت الطريق لخلق نقلة نوعية في الوعي لمسنا بوادرها، لأنها مثّلت الطموح الوطني العراقي من أجل تغيير نظام المحاصصة.
ويؤكد جميل خلال حديثه لـ”طريق الشعب”، إمكانية “عودة الروح إلى الانتفاضة مجددا في ظل الفساد والقتل المستمرين، وأعتقد أن مؤشرات مشاركة الفنانين في (تشرين) كانت الضربة القاصمة للفاسدين، لأن البلد عانى قرابة العقدين من ترسيخ مفاهيم الطائفية والكراهية، وتلاشت جميعها بلحظة واحدة عندما وحّدت الفنون الرأي العام ضد قوى المحاصصة، وجعلت من القضية الوطنية هي الأساس في كل خطاب أو هتاف يردده المتظاهرون”.
أعمال فنية شبابية
ورغم الأسماء الفنية الكبيرة التي حضرت إلى ساحات التظاهر، إلا أن الفنانين الشباب كانوا في صدارة المشهد، وخطفوا الأضواء بسبب طموحهم الكبير بالتغيير. هذا ما يعتقد به الممثل الشاب محمد الموسوي.
ويضيف الموسوي لـ”طريق الشعب”، قائلا: “كانت مشاركتنا كفنانين شباب كبيرة وحماسية، لكن الأساليب الوحشية التي قامت بها حكومة عادل عبد المهدي وقمعها حرية التعبير واستخدامها السلاح الحي أسهم في عرقلة جزء كبير من أعمالنا التي لم تر النور”.
ويبيّن أن الأعمال اللا مهنية التي قامت بها فضائيات الأحزاب الفاسدة، واستخدام التلفزيون والمنصات المؤثرة ضد المتظاهرين، لم تصمد أمام شباب مبدعين عرضوا أعمالهم في الهواء الطلق، وبثوها عبر مواقع التواصل الاجتماعي”، منوها بأن “ضغوطا كثيرة تعرض لها هؤلاء الشباب، فضلا عن التهديد بالقتل والضرب المبرح، لكنهم نجحوا بشكل مبهر، وأسسوا لرؤية ثقافية وفنية عاشها الملايين من طلبة وشباب الانتفاضة اليافعين”.