قد نتساءلُ في أحيان كثيرة : ماالحدّ الزمني الفاصل الذي يمكن فيه للفرد أن يرى نفسه كينونة مستقلة تستوجبُ الإحترام والتقدير الذاتي ؟
الجواب - كما تخبرُنا أدبيات علم نفس الشخصية البشرية – هو عندما يكون الفرد ممتلكاً لحرية إتخاذ القرارات التي تحدّدُ شكل حياته مع تحمّل كافة المسؤولية المترتبة على قراراته تلك. هذا هو المعيارُ الذي يجعلُ من كلّ فرد كينونة متفرّدة في هذا الكون وليس محض نسخة ميكانيكية عن آخرين.
قد يتساءلُ البعضُ أن ليس كلّ الافراد في هذا العالم هم ممّن يستحقون أن يكونوا كينونة متفرّدة تحوز الإحترام، ويوردون في هذا الشأن مسوّغاتٍ كثيرة، منها : الكسل الطبيعي الذي يعيشه أكثر الناس، وإفتقادهم لحرارة الشغف والرغبة في مساءلة العالم وإستكشاف أغواره الملغّزة، وانغماسهم في الحياة الروتينية التي يعيشونها إلى حدّ أفقدهم حسّ الاندهاش والمغامرة. كتب بيتهوفن مرّة في إحدى تدويناته الملهِمة : العبقرية ليست شيئاً هبط من السماء بل هي الانسان نفسه. كلّ فرد هو بذرة عبقرية متى ماامتلك مفاتيح الوصل إلى مكامن الثراء الحقيقية الكامنة فيه. ألمح معلّمي العظيم ( هرمان هسّه ) إلى هذه الحقيقة في روايته الرائعة ( دميان : قصة شباب أميل سنكلير ) عندما كتب قائلاً في فذلكة إفتتاحية قدّم بها الرواية :
« لم أكن أريدُ إلّا أن أعيش وفق الدوافع التي تنبع من نفسي الحقيقية ؛ فلمَ كان الأمر بهذه الصعوبة ؟ «
ثمّ أعقبها بتمهيد رائع نقرأ فيه هذه العبارات المشعّة بقبس من الخبرة الثمينة والمعرفة المعمّقة :
« حياةُ كلّ إنسانٍ هي طريقٌ نحو نفسه..... لم يسبق لإنسانٍ أن كان نفسه تماماً وبشكلٍ كامل ؛ لكنّ كلّ إنسانٍ يحاولُ ذلك : هذا بطريقة خرقاء، وذاك بطريقة بارعة، كلٌّ حسب مايستطيع. كلّ إنسانٍ يحملُ آثار ولادته ( لزوجة ماضيه البدائي وقشوره ) التي تظلُّ معه حتى آخر أيامه...... كلّ إنسانٍ يمثلُ مقامرة عبقرية من قبل الطبيعة لخلق إنسان. إنّ لنا جميعاً أصلاً واحداً هو أمهاتنا، وجميعُنا جئنا من الباب ذاته ؛ لكنّ كلاً منّا، وبخبراته الأولية، يجاهدُ لبلوغ مصيره. قد يستطيعُ كلٌّ منّا أن يفهم الآخر ؛ لكنّ أياً منّا لايستطيع أن يشرح نفسه إلا لنفسه..... «.
كان هذا تقديماً عاماً ذا جانب فلسفي لتأصيل موضوعة الفرادة الفردية وعدم جواز التفريط بها أو التعتيم عليها بأي شكل من الأشكال. أما في المادة التالية فسأتناولُ أمثلة تشخيصية مستلّة من وقائع يمكن لكثيرين أن عايشوها بأشكال وترتيبات مختلفة.
منذ صغره كان ( س ) معجباً بآينشتاين. وَجَدَ فيه صورة كاملة للبطل الأسطوري الذي يتناغم مع صورة البطل التي روّض نفسه ليكون على شاكلتها في المستقبل. قرأ كلّ ماوقعَتْ عليه عيناه وبلَغَتْهُ يداه من كتب في النسبية، الخاصة والعامة، ومنها تلك التي كتبها آينشتاين نفسه. صارت نسبيةُ آينشتاين هي الشفرة السرية التي ستتكفل بفتح مغاليق الكون أمامه. لم يقتصر الأمر على حدود الفكر بل تعدّاه للشكل والمظهر: صار صاحبنا ( س ) يطيل شَعْرَهُ على طريقة آينشتاين حتى بلغ به الأمر أن يشكّك في مقدرة أي فيزيائي مالم يجعل شعره مثل شعر آينشتاين. لم يصبح ( س ) في نهاية الأمر آينشتايناً آخر، والأهمّ من هذا أنه لم يصبح نفسه. خسر نفسه وصورة آينشتاين المستقبلي، وصار كائناً شبحياً يدمنُ الطواف في عوالم كثيرة ليس منها عالمه. عرف في عقده الخمسيني أنّ كثيراً من الفيزيائيين المجايلين لآينشتاين كانوا ذوي قدرات كبرى ربما تفوقت على القدرات الفكرية لآينشتاين، والأهمّ من هذا أنهم لم يكونوا يطيلون شعورهم، ولاأخرجوا ألسنتهم من أفواههم بمثل مافعل آينشتاين في صورة شائعة له. كانوا ذواتهم، ولم يخسروا أعمارهم في محاولة عبثية لخلق آينشتاينات جديدة.
الحالُ في الأدب لايختلف عن حال البعض في العلم. يسعى كثيرون ليكونوا نُسَخاً من بورخِس أو ميلان كونديرا أو أومبرتو إيكو أو دوريس ليسنغ أو تولستوي أو دوستويفسكي أو مارغريت آتوود،،،، إلخ. كان الواحد من هؤلاء عند البعض منّا أقرب إلى شخصيات أسطورية : صورة مضببة متعالية نشاهدها عن بعد، وليس من سبيل للمسها أو الاقتراب منها. ربما خفّت هذه الصورة المتطرفة عقب شيوع وسائل التواصل الاجتماعي التي وفّرت لنا إمكانية رؤية بعض هؤلاء المبدعين وهُمْ يتحدّثون إلى مخلوقات سواهم في إطار إنساني بعيد عن التفخيمات والاعتبارات المتعالية على عالم البشر.
إنّهُ لأمرٌ بالغ السوء أن يسعى بعضنا ليكون نسخة من فلان أو فلانة من مشاهير العلم وعظماء الادب، ومثلما هو أمر سيئ فهو أمرٌ ينطوي على مستحيلات موضوعية.
لماذا هو أمر سيئ ؟ لأنك عندما تعظّمُ شخصاً – مهما تعالت قدراته – فإنّك تعطّلُ قدراتك الشخصية وتبقى تدورُ في مداراته الخاصة. ستبقى مسكوناً بإنجازاته، ولن تكون أعمالك سوى تقليدٍ باهتٍ لأعماله، أو بعضِ رتوشٍ صغيرة في صورة كبيرة، هذا لو تحققت هذه الإنجازات، والغالب أنها لن تتحق.
يتمثلُ السوءُ في تقليد الآخرين وجعلهم مثاباتٍ عالية أمامنا في تعظيم مواهبهم على حساب تقزيم مواهبنا. هكذا هو الحال : لعبة قبيحة يتآكل فيها جُرْفُك وتضمحلّ قدراتك وتضيع هويتك. الغريبُ أن لاأحد من هؤلاء طلب إليك أن تفعل هذا بنفسك. أنت مَنْ فعلت وارتضيت أن تكون ظلاً شاحباً لأحدهم.
أما المستحيلات الموضوعية فيمكن تصنيفها في مستحيلات نفسية وثقافية وبيولوجية. يلعبُ الثلاثي ( العقل – الثقافة - البيولوجيا ) دوراً متفرّداً في صناعة كلّ منجز علمي أو أدبي. كيف تتصور أنّ بوسعك محاكاة الفعاليات العقلية لفلان من المبدعين؟ هذه الفعالية هي نتاجُ تفاعلات عصبية في بنية دماغية تشتبك خلاياها المليارية مع بعضها بطرق عصية على الاحتساب، ويمكن لأي تغيير بسيط في أحدها أن يُغيّر طبيعة الناتج النهائي الذي نسمّيه إبداعاً علمياً أو أدبياً. هل تتصورُ حجم هذه الاحتمالات؟ إنها تتجاوز عدد كلّ الذرات في الكون، ثمّ يأتي فلان أو فلانة ويتصوّر – ببساطة – إمكانية محاكاة التجربة الإبداعية لدى آخرين. هذه إستحالة علمية، ولو أضفنا لهذه الإستحالة تأثير الثقافات والترسيمات البيولوجية المتباينة لتضاعفت إمكانية هذه الاستحالة. كتب أحد علماء الأنثروبولوجيا الثقافية يقولُ أنّ آينشتاين لو كان وُلِد - على سبيل المثال - في قبيلة الزولو الأفريقية لقضى حياته وهو عاجز عن العدّ إلى العشرة على أصابع يديه.
* * * * *
سأتناولُ الآن أمثلة مشخّصة، وستكون في حقل الأدب ( الرواية ) لأنه ميدان اهتمامي وشغفي الذي يتقدّم على اهتمامات أخرى. شاع إسمُ بورخِس كاتباً وشاعراً وحتى ناقداً أدبياً في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وربما كان اهتمامه بسردية العرب الكبرى ( ألف ليلة وليلة ) محفزاً لهذا الاهتمام العربي الطاغي. حلّت بعد بورخِس حقبةُ البنيوية والدراسات اللسانية، وصارت طائفة من الفلاسفة الفرنسيين السائرين على درب عالِم الانثروبولوجيا البنيوية ( كلود ليفي شتراوس ) هي المثال الأعلى للمثقفين العرب على الصعيدين الأكاديمي والعام، ثمّ عندما هدأت فورة البنيوية قليلاً صعد نجم ( غارسيا ماركيز ) وأدب أمريكا اللاتينية الذي صارت عبارة ( الواقعية السحرية ) مثل تميمة ملازمة له تلازماً شرطياً. لم تَكَدْ ألاعيب الواقعية السحرية تخفت قليلاً حتى برقت نجوم روائية هنا وهناك في قارات العالم أجمع، وكلُّ نجمٍ منها راح يعزفُ لحنه الخاص مترسماً ملامح خريطة إبداعية تشتبك فيها شروط الحداثة الروائية بحيثيات من مابعد الحداثة في إطار فكري واسع سُمّي ( الرواية المعاصرة ). صارت النجوم الروائية تتلألأ كلّ حين وكلّ آن، وصارت عيون الكثر منّا ترقبُ الموضات الروائية والأسماء التي تلبث طويلاً تحت لافتة ( الكتب الأكثر مبيعاً ). صرنا منقادين إلى لعبة السوق وماتفرضه من ذائقة وماتسعى لتكريسه من رؤى.
صار العديد منّا يتطلّعُ جاهداً لمحاكاةٍ - شكلية أو أسلوبية أو موضوعاتية، حقيقية أو متخيلة – لكارلوس زافون أو دان براون أو إيلينا فيرانتي أو تشماماندا نغوزي أديتشي أو آلي سمث أو هيلاري مانتل. صارت ذائقتنا الأدبية وإحساسنا الجمالي رهينة بَخْسَةً لمحدّدات تقع خارج حدود سيطرتنا وموجبات نزاهة الضمير واستقلالية الرأي. صرنا نُكْبِرُ كثيراً في ميّزات إبداعية مدّعاة لم نختبرها بأنفسنا، وغدونا أقرب لمثال من يرى مالايرى بفعل الضغط الإعلامي والبروباغاندا. لم يعُدْ مثال الإمبراطور العاري يصلح معنا ؛ لأنّ الإمبراطور ذاته غدا كائناً مصطنعاً أوجدته عقول موهومة.
* * * * *
الإبداع يعني – في أحد تعريفاته الإجرائية الشائعة في أدبيات الإبداع والفعل الخلاق – وضع بصمتك على عملك بما يكفل جعله ميزة فردية لك وليست ميزة مشاعية لكثرة من الناس. الإبداع يعني التفرّد بالتأكيد. يحضرُني بشأن هذه الحقيقة مشهد رائع في الفلم السينمائي Copying Beethoven عندما أحضرت ناسخة أعمال بيتهوفن أوراقاً دوّنت عليها نوتة موسيقية لعمل كتبته وأرادت من بيتهوفن مباركته وإبداء رأيه فيه. راح بيتهوفن يعزف المقطوعة على البيانو بطريقة ساخرة ووصفها وصفاً قاسياً، ثمّ حصل بعد بضعة أيام أن عزف بيتهوفن المقطوعة ذاتها لكن بعد أن وضع لمسته السحرية عليها ؛ فتحوّلت من عمل موسيقي عادي إلى عمل جبار لايختلف عن الفخامة الموسيقية التي تمتاز بها كلّ أعمال بيتهوفن. هذا هو الفرق بين عمل عادي وآخر خلاق : أن توقّع عملك ببصمتك الممهورة بقدراتك الذاتية التي لاتشبه قدرات كائن آخر سواك. أخلاقيات التفرّد هي مايصنعُ الإبداع الخلاق ؛ أما أخلاقيات الاستعارة والمحاكاة فتنتج أعمالاً مشوّهة.
كلٌّ منّا نسيجُ وحدِهِ ونظيرُ ذاته التي لاتشبه سواها. حتى في أمثولاتنا التراثية مايفيدُ بتأكيد هذه الحقيقة ؛ فقد قيل لفلان ( وهو من أكابر اللغويين في زمانه، لاأذكر إسمه الآن ) : ماتقولُ في السيف ؟ قال : هو السيف. قيل له : فما تقولُ في المهنّد والحسام،،،،، إلخ، قال : أما هذه فصفات تحتملُ الكثرة، وأما السيف فموصوف واحد لايقبل الكثرة.
آينشتاين هو آينشتاين، وبيتهوفن هو بيتهوفن، وبورخِس هو بورخِس، وفيرجينيا وولف هي فيرجينيا وولف، وفيليب روث روث هو فيليب روث، وزافون هو زافون، وايلينا فيرانتي هي إيلينا فيرانتي،،،، إلخ، ولن يأتي يوم يكون فيه أحد هؤلاء مكافئاً للآخر أو لأي منا، مثلما لاينبغي أن نتطلّع لأن نكون أياً من هؤلاء. هكذا صنعتنا الطبيعة وقوانين الوراثة وطرازاتنا العقلية وموجهاتنا السلوكية. هكذا صنعتنا المعلومات المشفرة في منظومتنا الجينية التي أضفنا عليها خبراتنا وأخلاقياتنا لاحقاً.
ليس أمراً معيباً أن نُعْجَبَ بأحد المبدعين أو إحدى المبدعات في العلم أو الأدب أو أي نشاط معرفي ؛ لكنّ حبّ إبداع أحدهم يختلف نوعياً عن الذيلية والذوبان في كينونته وإغفال قدراتنا الشخصية. المسلك الأفضل هو أن نحترم ذواتنا ولانبخس حقّها في القدرة على الإنجاز، وننأى بأنفسنا عن الدوران في أفلاك آخرين. تلك لعبة خاسرة.
المدى