تصادياً مع وقائع العدوان على غزّة .. كاسكيت وكلاشنكوف وربطة عنق وحاسوب
نشر بواسطة: mod1
الأربعاء 25-10-2023
 
   
لطفية الدليمي

غبارُ الحرب أيّة حرب يُعمي العيون ويُخرِسُ الألسن ويصدّ العقول عن التفكير الهادئ. الحشد التعبوي له الكلمة العليا التي لاتُردُّ وبخاصة وأنت ترى مشاهد القتل والتدمير الوحشي تطالُ المدنيين العزل.

للحرب ألف لون ولون وتبعاتُها اللامرئية أكبر بكثير ممّا تراه العيون وتلتقطه الكامرات. الموتُ قرين الحرب وتوأمها البشع؛ ومعا ينجبان معاناة بشرية رهيبة فيخفت الامل في إعلاء شأن الكرامة البشرية وتسقط مقولة أنّ الانسان أثمن الكائنات

* * *

ربما يتذكر بعضنا العبارة الافتتاحية في مسلسل (حافات المياه الذي كان يفرض علينا كلّما وُضِع العراق في فوهة المدفع (وماأكثر ماحصل) في العقود السابقات؟ كان هذا فحوى العبارة " قال الحكماء لاتستهِنْ بالافعى التي ليس لها قرون " فكيف الحال إذا كانت لها قرون وماذا لو كانت أكبر من أفعى بقرون؟ ماذا لو كانت تنّيناً متسلّحاً بأكثر ضروب الاسلحة تطوّراً وحداثة تقنية فضلاً عن غطاء سياسي ودبلوماسي واعلامي؟ أظنّكم عرفتم عمّن أتحدّث

شاعت في العراق اواخر السبعينات عبارةٌ منسوبة لأحد أكبر مسؤوليه في تلك الحقبة. مفادُها أنّ العرب يُعَدّون قرابة المائة مليوناً حينذاك وأنّ من المقبول – بل الواجب - التضحية بنصف هؤلاء سعياً لتحرير فلسطين، ولكي يعيش النصف الآخر بكرامة. تخيّلوا إستسهال الحديث عن الموت. خمسون مليوناً يموتون والمسؤول ماذا سيفعل؟ أظنّه سيكتفي بالفرجة ودور عدّاد جثث الضحايا. هل كان سيرتضي أن تكون جثث أبنائه بينها

ليس من سبب يسوغ هذه الخفّة والاستسهال عند الحديث عن الموت. ربما وَجَدَتْ هذه الخفّة سندا لها في المقولة التراثية التي ترى أننا قومٌ نحبّ الموت مثلما يحبُّ أعداؤنا الحياة، وأنّ هذه الحقيقة - مقترنة بسيف مشهر - هي جوهر القوة العربية التي سادت يوماً ما. نحنُ ضحايا القراءات التأويلية السيئة للموروث، وأحياناً نحن ضحايا الفهم المباشر لمالايمكن تأويله. هل من الواجب أن نسير على هدي المقولات التراثية تمثلاً مباشراً أو قراءة تأويلية؟ ولماذا لايكون التأويل نصرة للحياة ودفعاً للموت

* * *

وأنا أرى مشاهد العدوان المروعة على غزّة وأهلها العزّل وأطفالها تذكرت دراسة سويدية قرأتها قبل سنوات، رأى واضعوها أنّ المرء يحتاجُ ثلاث عشرة سنة ليتعافى عقلياً ونفسياً من كلّ سنة قضاها في الحرب. سنكتشفُ بعملية حسابية سريعة أنّ من قضى عشر سنوات في حرب طاحنة (وماأكثرهم في العراق يحتاج 130 سنة للتعافي؛ وعليه أن يستعير حياة إضافية فحياته ستكون مبتورة ولن تصلح لحياة هانئة. كم قاسيةٌ هي الحروب التي تبتلعُ البشرومن لم تبتلعه في لججها المظلمة تتركه كائناً معطوباً لايقوى على الاستمتاع بحياة سوية.

الحربُ هي الشكل الحديث لبقايا الحتميات الصراعية التي وجد فيها الانسان ذاته يتصارعُ مع بشر أوحيوانات ضارية للحفاظ على وجوده البيولوجي. هل يمكنُ نفي وجود الحقيقة الصراعية من حياتنا؟ أبداً. المضادات الحيوية هي نتاجُ صراعنا مع البكتيريا الممرضة، ووسائل التدفئة والتبريد هي نتاجُ صراعنا مع الطبيعة القاسية، وثمة منتجات كثيرة هي نتائجُ صراعية مع كائن بيولوجي أو كينونة طبيعية أو أفكار أو سياسات،،، إلخ. الصراع حقيقة وجودية قد تخفى أشكالها المتعددة علينا. أليس نهوضك في الصباح ومغادرة فراشك والمضي لعملك أو مدرستك عملاً صراعياً مع رغبتك الطبيعية في التكاسل؟

لنتفقْ إذن أنّ الصراع حقيقة لايمكن تجاهلها في هذه الحياة، وأنّ بعض أشكال الصراع تقودُ إلى إرتقاء الحياة البشرية على المستويين الفردي والجمعي، وأنّ بعض أشكال الصراع غير مرئية ولامحسوسة، وبعضها الآخر مرئي ونتائجه محسوسة، وقمّة تلك الصراعات هي صراعُ النوع البشري مع نظيره، وأحسبها تمثلُ رأس هرم المأساة البشرية في كلّ العصور والأزمان.

تتناولُ مراسلات فرويد – آينشتاين حول موضوعة الحرب حفراً فلسفياً في مسببات الحرب وجذورها الصراعية الطبيعية. مامِن دولة أنشئت في هذا العالم إلا وكان الجيش الوطني ذو القوة الضاربة ركناً مكيناً من أركانها، وتعترف الغالبية العظمى من البشر بأنّ تنظيم الجيش وتشريع قوانين الخدمة الالزامية فيه إنما تنبعُ من اعتراف صريح بوراثة القوانين الصراعية البدائية التي تسعى لتكريس حالة التفوق على الآخرين وسحقهم والاستئثار بمغانم وطيبات هذه الحياة من مصادر ثروات طبيعية، كلُّ هذا يجري تحت لافتة عريضة تُحشَرُ فيها كل الأورام القومية والدينية والعرقية ونزوعات العظمة والمجد المشتهى.

ربّما خفّفت التقنيات المتطوّرة من أعداد الضحايا والأجساد المشوّهة (هذا إذا لم تستخدم على نطاق واسع أو كأسلحة تدمير شامل)؛ لكن حتى هذه التقنيات المتطوّرة يراها بعضُ مؤرخي التقنية نتاجاً لمتطلبات الردع والتحضير لحروب مستقبلية متوقّعة

شاع في الغرب منذ عقود بعيدة مفهوم مناهضي الحرب Pacifists؛ لكن علينا أن لانخدع أنفسنا. لم يكن هؤلاء موضع ترحيب من قبل الحكومات أبداً. هل ننسى برتراند رسل وكيف سجن مرتين لمناهضته الحرب؟ لاأريد الإسهاب في أمثلة عن علماء عظام تمّ تهميشهم في أمريكا لأنهم أبدوا طروحات مضادّة للحرب، وفي المقابل صعدت أنجم سواهم إلى السماء السابعة لأنهم عملوا على تطوير أسلحة جديدة (إدوراد تيلر والقنبلة الهيدروجينية مثالاً.

لاأحد يذهبُ إلى الحرب بوجه مبتسم؛ فتلك إستحالة وجودية قبل أن تكون كذبة يروّجها بعضُ صانعي البطولات القومية الزائفة أو غيلانُ رأس المال المتوحّش، أو التوّاقون لخلق إمبراطوريات جديدة على أنقاض الخرائط الجيوسياسية القديمة

ربما لن نستطيع إبطال قوانين الصراع الحاد والمسلّح في أقلّ تقدير؛ لكن يمكنُ في كلّ الاحوال التبشيرُ بحياة زاخرة بسعادات صغيرة بعيدة عن حتميات الصراع التي تخلف أجساداً مشوهة وعقولاً معطوبة وأرواحاً متآكلة.

أن لاتذهب للحرب بوجه مبتسم: هذا أقلُّ ماتفعله روح بشرية تحتقر الحروب ومُشعليها المجانين، من ظهر منهم في المشهد ومن توارى في الكواليس الخلفية يديرُ خيوط لعبة القتل الشيطانية بدماء باردة

* * *

بعد هذه المداخلة في موضوعة الحرب لنكنْ أكثر تخصيصاً ونتناول العدوان على غزّة مافعله الفلسطينيون لم يكن حرباً بل كان وسيلة تكتيكية لمحاولة أسر بعض افراد العدو بغية مبادلتهم لاحقاً بمعتقلين فلسطينيين. من المؤكّد أنّ هذا الاجراء إقترن بأفعال قتل متوقّعة في عملية من هذا النوع، وهو ماوفّر جانباً مكّن القوى العالمية من إستغلاله إعلامياً بالضد من الفلسطينيين. ماذا تتوقع في نهاية المطاف عندما تحشر شعبا كاملا في معسكر اعتقال بعد ان اغتصبت بيوتهم وأقمت مستوطناتك على أراضيهم و استوليت على مدنهم ثم حرمتهم من الخدمات وحاصرتهم في منطقة تسورها قواتك؟ ألم تتوقع انفجار الغضب ردا على الاذلال العنصري واغتصاب الارض والحياة

الجانب التقني في هذه العملية كانت له يد طولى ربّما خفيت عن كثيرين، وهذا الجانب سيكون تمهيداً لتغيير نوعي في شكل الحرب وثقافة الصراع التي تعوّدناها سابقاً. لم تعُد الحرب فعلاً من أفعال الرومانسية الثورية يخوضُها رجالٌ ملثّمون بالكوفيات ويحملون (الكلاشنكوف) ويسعون وراء الموت. الموت ليس القيمة العليا في هذه الحياة حتى وإن تطلّب الامر أحياناً بعض المخاطرة والمغامرة التي قد يكون الموت بعض نتائجها المتوقّعة. ثمة ترتيب وإعداد وتخطيط ذكي وتوظيف لقدرات تقنية متطوّرة

المشاهد المروعة التي نراها في قطاع غزة اليوم تحيلنا كلّ آن الى سيناريو هولوكوست فلسطيني يقترفه العدو بخطوات تبدو مدروسة ومتتابعة. لاأظنُّ النزعة (الشعاراتية) والحناجر المبحوحة في الاعلام والثقافة والحراك الشعبي ستكون ذات جدوى في صراع كهذا. لابدّ من مقاربات متمايزة نوعياً عن المقاربات التقليدية التي سادت المشهد العربي في جانبه الثقافي

لابدّ من تحديد خطّ الشروع في المقاربة الثقافية. دعونا نتّفقْ أولاً أنّ موازين القوة الستراتيجية (الصلبة تميل لكفّة المحتلين. صحيحٌ أنّ إيقاع الخسائر بهم حتى لو كانت محدودة ستكون مكلفة للغاية لهم بسبب محدودية الوجود البشري الذي يكوّن العمود الفقري لمجتمعهم؛ لكن علينا أن لا نتناسى الكلفة البشرية الهائلة التي سيلحقها جيش الاحتلال بالفلسطينيين مستغلا الاسناد اللوجستي والغطاء الاعلامي الاوربي والامريكي، وفي النهاية سندور في ذات الحلقة الاستعادية من تبادل أسرى وتحديد مناطق عبور آمن وإعادة ترسيم الخريطة الامنية

تكمن القدرة الفلسطينية في جانب القوة الناعمة Soft Power قد يبدو هذا الحديث غير مناسب لواقع الحال المتخم بالدماء والاشلاء والمعاناة البشرية الهائلة غير المسبوقة؛ لكن آجلاً أو عاجلاً لابدّ من مواجهة الاستحقاقات وعقلنة القدرة الفلسطينية وتفعيل جوانب القوة فيها. معروفٌ عن الفلسطينيين أنهم بارعون في القدرات الاكاديمية والمهنية، والنسبة الاكبر من حملة شهادات الدكتوراه المرموقة بين العرب إنما حازها فلسطينيون؛ لذا من الافضل ستراتيجياً العملُ من نقطة الشروع هذه: القدرة الفلسطينية الناعمة

لو بدأ الفلسطينيون بعملية ارتقاء وتحديث لواقع البنية التحتية الثقافية لديهم لصارت الثقافة قدرة حقيقية بوسعها تعديل بعض الاختلال في ميزان القوة مع المحتل من المجدي البدءُ بالبنية التحتية للثقافة (الرقمية تخصيصاً لأسباب عدّة، منها إنها غير باهضة التكلفة؛ إذ أنّ عناصرها الاولية لاتعدو شغفاً لايُبارى بالبرمجيات + جهاز حاسوب (عادي أو لوحي مع وصلة إنترنت ثمّ أنّ الثقافة الرقمية تفترض العمل الفرداني، وهذه واحدة من أهمّ خواص الفرد الفلسطيني الذي إعتاد الاعتماد على نفسه منذ بواكير حياته. الغاية هي الوصول إلى نخبة رقمية متميزة Digital Meritocracy شبيهة بنخبة الهنود الذين يقودون شركات عالمية كبرى في قطاع التقنية الرقمية.

الفلسطينيون شعب ذكي وصبور، ومجالدة الشدائد ليست غريبة على تكوينه النفسي والذهني والجسدي، وعندما تكون الاهداف العليا مؤشّرة لديه بكيفية واضحة لالبس فيها فأظنُّ أنه سيحقق منجزات أقرب لإنعطافات كبرى Breakthroughs على الصعيد العالمي

التعليم الراقي هو حجر الزاوية في تدعيم القدرة الفلسطينية. تخيّلوا معي فلسطينياً تعلّم منذ صغره لغة واحدة أو إثنتين من اللغات الاجنبية (إنكليزية أو فرنسية أو ألمانية مثلاً بطريقة كفوءةثمّ أضاف لها قدرات رقمية يسندها تميز في باب الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة. كيف سيكون مستقبله؟ سيكون مؤهلاً لإشغال مواقع أكاديمية مرموقة في كبريات الجامعات الغربية فضلاً عن مواقع تنفيذية مهمة في أعاظم الشركات التقنية الحاضرة أوالتي ستنشأ مستقبلا. العلم والتقنية بطبيعتهما يتغلغلان بطريقة ناعمة وهادئة في نسيج المجتمعات المحلية والعالمية، إلى جانب إنعدام المخاطرة البشرية التي تترتب عليها أكلاف هائلة.

لو أنّ قطاع غزّة والضفة الغربية حقّقا نموذجاً تنموياً مشابهاً في بعض جوانبه للنموذج الهندي فسيتحوّل إلى بقعة إشعاع جاذبة للإستثمارات، وسيحقق ناتجاً قومياً سنوياً يساهم في الارتقاء بحياة أبنائه ولايجعلهم نهباً للفقر والانصياع لرغبات وشروط الجهات المانحة للمساعدات حينها سيرضخ الجميع للتعامل مع الوقائع الحقيقية على الارض، وستختفي البروباغاندا التي تسعى لشيطنة الفلسطينيين وإلصاق تهمة الارهاب بهم. سيضطرّ الجميع للتعامل مع الفلسطينيين ببراغماتية منكشفة طالما أنّ مصالحهم تتطلّب ذلك. هذا جزء من التفكير الستراتيجي: أن تجعل عدوّك يدرك بأنّ مصالحه لاتتحقق إلّا بتحقيق مصالح مقابلة لك.

ليس السلاح هو الفائز دوماً في معركة الارادات وبخاصة مع عدوّ يتفوّق عليك بقدراته التسليحية النوعية. الافضل هو تحريك مكامن القدرة (الناعمة)، وفي هذا الشأن يمتلك الفلسطينيون منجماً كبيراً لاينضب من الارادات البشرية الطموحة والطاقات الثقافية الخلاقة

* * *

نقرأ كثيراً عن المعضلات التي يعانيها الغربيون وهي لكثرتها تجعلنا نظنّ أنهم قريبون من حالة الاضمحلال الحضاري الشامل لكنّ خصيصة مميزة فيهم تجعلهم محصّنين من ذلك الاضمحلال وأعني بها (حرية خيارك والمسؤولية الفردية عمّا تختار لاأحد يفرضُ عليك نمط عيش أو تضحية مجانية يريد من ورائها مجده الشخصي حتى لو أدّى هذا إلى خراب حالك

كفانا استعادة للمقولات القديمة القانون العام في السياسة العالمية ينقاد لفعل القوة الحاكمة وليس للحقوق والقوة ليست سلاحاً وتفكيراُ بالنيابة عن الناس حسب بل عقلٌ وقدرة تقنية وارتقاء بأحلام الناس نحو مستقبل واعد بالآمال وليس بالانطفاء السريع

لثامُ الرأس أو الكاسكيت ليسا نفياً ضرورياً وشرطياً لربطة العنق والكلاشنكوف ليس وجوداً مضاداً وطارداً بالضرورة لتقنيات الحاسوب والقدرة الخوارزمية المتفوّقة نتائج الفعل المرئي هي التي تحدّدُ الكيفية المثلى للتعامل مع أيّ رمز شعبي أو ثقافي أو تقني

الرومانسية الثورية لها ألوانٌ عدّة وليس من قوانينها الصارمة أن تجعلك تكره الحياة وتشتهي الموت وتنتهي مبكّراً في التراب

المدى

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced