التظاهُر خلف الشاشات: كيف غيَّرتنا تشرين، حقاً؟
نشر بواسطة: mod1
السبت 26-10-2024
 
   
ضي احمد - جمار

هل كانت رغبتي بالسير في شوارع نظيفة، بلا مضايقات، تؤدي إلى هلاك الدولة وقيمها؟ استعادة لانتفاضة تشرين وما تركته من أثر، علينا وعلى حياتنا..

حتى بداية تشرين الأول عام 2019، كان هذا الشهر يعني الخريف، وبداية الدراسة، وإعادة مشاهدة سلسلة “هاري بوتر”، وانتظار حلول الشتاء للخلاص من الصيف ولو لأشهر قليلة، ولكن، في ذلك العام اكتسب تشرين معنىً جديداً..

بداية الأمر كانت ضبابية. استمعت للآخرين وهم يذكرون بصورة عابرة “شوية شباب متجمعين بساحة التحرير”، لم يهمني الأمر، هل مر يومٌ على ساحة التحرير دون “شوية شباب”؟  

تابعتُ التطورات مثل الآخرين على منصات التواصل الاجتماعي، فالقنوات الرسمية لم تنقل الحدث، والحياة كانت وردية، وبرامج الصباح ما زالت تتحدث عن معنى أن تكون مولود الحوت، أو أي حقيبة تناسب فستانكِ الأحمر؟ وهل يحب العراقيون الكيمر فعلاً؟ وما هي الموضة الدارجة للخريف هذا العام؟ لا أحد يتحدث عن الدخانيات أو الخيم أو علب البيبسي، أو التكتك، أو الحاجة للطعام والأكل والقطن والأطباء والنقل والنقود وتغيير البرلمان والقضاء على البطالة، والرغبة بعيش حياةٍ عادية، لا تختلف عن حياة أناس في الدول الأخرى. لم ينقل هذه الرغبات أحد.

ثم انقطع الإنترنت.

اتسم العالم بالصمت لفترة، ما زالت القنوات تتحدث عن الفساتين التي لا أملكها، ومنصات التواصل ليست متاحة، والطرق، التي تتسمم بلون أسود بسبب حرق التايرات (عجلات السيارة) لا تخبرنا ماذا يحدث، وسيارة الجيش التي تقف عند كل زاوية شارع وتنظر لنا جميعاً باتهام، لم تخبرني ما الذي حل بالمتظاهرين.

“نزلوا VPN“

في اللحظة التي عاد فيها الإنترنت، شاع بين الجميع تحميل VPN. “بس هو يفتحلنا المواقع..”، أصبح الـVPN -وهو تطبيق يتيح تغيير موقع الجهاز بحيث لا يتسنى للحكومة التحكم في استخدامه لمنصات التواصل- هو أداة الاحتجاج الأولى، الأداة التي سمحت لي لأشهر برؤية من هم في عمري يُغمضون أعينهم للأبد، والدخان يخرج من القنبلة الدخانية التي توغلت في عظام رؤوسهم.

كان التليغرام (Telegram) المنصة الأبعد عن أيادي السلطة، على عكس الفيسبوك وتويتر والإنستغرام، وكان بعيداً عن التعتيم والحذف والتتبع والجيوش الإلكترونية التي تخبرك أن معرفة معنى برج الجدي فعلاً أفضل مما يحدث في كل ساحة من ساحات المحافظات.  

سرعان ما تحوّلت كل القنوات العراقية على التطبيق إلى قنوات تنشر ما يحتاجه المتظاهرون في كل ساحة. أمضيتُ أياماً وأنا أحول الرسائل لقناتي، رسائل عن الحاجة للبطانيات والأدوية والنظارات والأقنعة والمزيد من البيبسي، الحاجة لطبيب أو مسعف، الحاجة لإيجاد شاب يدعى أحمد أو مصطفى أو علي أو سجاد أو عمر أو ياسر، الحاجة للبحث عن عائلة هذا وذاك، الحاجة لكل شيء ولا شيء.

لستُ وحيدة!

لم أستطع الخروج للتظاهرات يوماً، حسدت الفتيات في عمري آنذاك (كنتُ 18 عاماً) في بغداد، تابعت صورهن وفيديوهاتهن وهن يساعدن الجرحى ويهتفن ضد السلطة بشغف. كنّ كل ما أردت أن أكونه حينها، ثائرة على كل ما يدفعني لتغيير موقعي على الإنترنت لكي أخبر أصدقائي في الخارج أنني بخير، ولكي أرى من يحتاج بطانية، أو مالاً، أو وطناً.

كنتُ أعلم أنني لستُ الوحيدة التي تتابع الوطن يُبنى ويُهدم عشرات المرات في اليوم نفسه عبر شاشة هاتفها. كان هناك الآلاف منا، الملايين ربما، البنات والأمهات، المغتربون، وغير القادرين على الخروج، الخائفون والمصابون، أولئك الذين كانوا أصغر من أن يأخذهم أحد بجدية، وأولئك الذين كانوا أكبر من قدرتهم على الركض إذا ما تطايرت الدخانيات بحديدها ودخانها في الهواء.

كان شقيقي (17 عاماً) يتسلل للتظاهرات دون علم والدنا، كل يوم، أمضي ساعات على الانترنت، أتأكد أنه ما زال حياً، وأنني لن أكون مثل تلك الأخت، التي وجدت أخاها مقتولاً صدفة على فيسبوك. كنتُ أعتقد أن الفرق بيني وبين شقيقي كبير، فهو يعود بعد ساعات وسُخام حرق التايرات يغطي وجهه، والبيبسي يجعل منه دبقاً، وصدره يصعد ويهبط من سرعة الركض هرباً من الطرف الثاني والثالث، وكل طرف يُسمح له بالدخول. لكنني أيضاً، كنت أركض، هذا ما أدركه اليوم.

أتذكر مصائر أولئك الذين تابعتهم على كل منصة لأرى ما يحدث في محافظاتهم، وأذكر حين فتحت حساب أحدهم فرأيت صورة له وهو في المستشفى، برأسٍ مفتوح، برصاصة تركت ثقبها هناك، وبالنص المكتوب على الصورة “علاوي بين الحياة والموت..”، علاوي هنا وعمر في الناصرية، وبينهما، أنا، وآلافٌ آخرون، نفكر: متى سينتهي كل شيء؟

القنوات الفضائية التي تاقت لإخبارنا لماذا يجب ألا نرتدي قميصاً برتقالي اللون إذا كانت الحقيبة خضراء، صارت تخبرنا أن مجموعة من “المخربين” يتجولون في الشوارع. مجموعة! آلاف الشباب صاروا مجموعة مخربة، لا شباباً مُرهقين ومُتعبين من الأمل الذي لا يتحقق.

مئات المقابلات أُذيعت يومياً عن مخربي تشرين، المدفوعين من السفارة الأمريكية واللوبيات الصهيونية والدول الخليجية والأجندات الداخلية والخارجية والماضوية والحاضروية والمريخية، يريدون هدم المجتمع والبنى التحتية، يريدون التسكع والهروب من المدارس -الطينية، التي ستسقط على رؤوسهم مع أول حبة مطر-، يريدون اللهو والعبث، والكثير منهم لا يملك إلا 250 ديناراً في جيبه.

تغيّر الخطاب بالكامل، ذهبت برامج الصباح ومذيعاتها، حل محلها التخوين، وإنكار القتل، والتحدث عن أطراف ثالثة ورابعة وإلى ما لا نهاية من الأرقام. أصبحت مقاطع القتل وسقوط الجرحى مقاطع “مُفبركة”، وكل نداءات تشرين ساذجة و”فايخة” (مُترفة أكثر مما يجب) لأن العراق بخير! والحكومة مذهلة! وجيلي، هو جيل جاحد ناكر لكل ما قدمته لنا الحكومة التي ما زالت تنظر لنا نظرة أبوية، رغم عقوقنا.

أحلام تشرين

أنظر اليوم إلى الأحلام التي قادت تشرين: ما الذي أردته حينها؟ وما الذي توقعته من تشرين؟ اعتقدت أننا سنمشي بالشوارع من دون خوف. لم أنتظر واقعاً سحرياً أو أن يتحول العراق إلى دولة متقدمة. لكنني ظننت، ولو لوهلة، أنه يمكن لنا التخلص من الحجاب الفاصل بيننا وبين الحرية، أن يكون منظر شاب وشابة يسيران في الشارع عاديّاً، دون خوف أو قلق. أن نقول لا، حين نريد، أن نتوقف عن محاولة ترك البلاد.

كانت الأحلام بسيطة، ما زالت بسيطة. صديق يرغب بالمشي رِفقة زوجته في شوارع نظيفة بلا مضايقات أو خوف، آخر يريد الحرية في الكتابة والحديث والتفكير، العمل بلا إتاوة وهدر الحقوق، شكوى نقدمها فتسمع، من يخالف يُعاقب، ومن يخطأ يُرحم ويدفع إلى الإصلاح وليس إلى أشد العقاب، عدالة بين الناس وأمام القضاء.

لكن حتى هذه الأحلام مثلت خطراً للسلطة. كان الرد قاسياً على أحلام لا تتجاوز المشي بالشارع والتفكير بحرية، وانتقاد السلطة دون أن تُلاحقهم السجون. صارت السلطة وخطابها الإعلامي ملغوماً بتحقير هذه المطالب، صرنا فاسدين، خارجين عن الدين والعُرف، نريد الخراب للبلاد، وغيرها من التهم التي تبدو لي اليوم سخيفة.

هل كانت رغبتي بالسير في شوارع نظيفة، بلا مضايقات، تؤدي إلى هلاك الدولة وقيمها؟

كيف أن لفظة “التشارنة” التي قبل خمسة أعوام لم تعنِ سوى شجاعة صاحبها، أصبحت تهمة تُلقى على كل صحفي أو ناشط ينتقد السلطة. كل امرأة تقول كفى، تصبح تشرينية، أم خيمة بالمطعم التركي، وكل ما يطيب من تهم.. صار التشارنة -حسب خطاب السلطة- عملاء وخونة، يتعاملون مع كل من يريد خراب العراق، يتقاضون 300 دولار لتدمير العراق وحكومته “المستقلة”، الحكومة التي لا تعرف من هو الطرف الثالث.

كل تشرين، أرى مئات إن لم تكن آلاف المنشورات والمقالات التي تقول إن تشرين غيرت الكثير والكثير في العراق، وإن تلك الثورة لا تُنسى.

إذا كانت لهؤلاء لا تنسى، فكيف بألف أمٍ فُجِعت بابنها أو ابنتها، عشرين ألف أمٍ ثانية، أو أكثر، فُجعن بأجساد أبنائهن العائدين من التظاهرات، بأعضاء مبتورة أو معطوبة برصاص السلطة وقنابلها وآلاتها وآلياتها؟

كل أولئك الذين تابعتهم لمعرفة أحوال ساحات التظاهر اختفوا. “علاوي” الذي صليتُ كثيراً لعودته، اختفى بعد عمليته بشهر أو اثنين، وفهمت من بعض أصدقائه أنه غادر العراق بسبب التهديدات. المصور الذي أحببت لقطاته للدخانيات اعتقلوه، وحتى اليوم لا أعرف إن كان سيمسك الكاميرا من جديد. الطبيبة التي كانت تشرح الإسعافات الأولية للمتظاهرين، اغتالوها. المُراسل الذي طمأن العراقيين المترقبين في منازلهم، قُتل أمام منزله، بلا عقاب لقاتِله حتى الآن.  

والقاتل، الذي كان فخوراً بقتله للتشارنة أبناء السفارة، أُطلِق سراحه قبل أسابيع، إذن، هل يختلف العراق اليوم عن العراق قبل تشرين الأول عام 2019؟

هل غيَّرتنا تشرين؟

رغم ذلك، غيّرتنا تشرين. تملّكنا اليأس بعد أن صُرعت حتى في المحاولة الثانية لاستعادتها.  

بعد العام الأول، سألت أقراني عن رأيهم بتشرين، وكان الجواب واحداً باختلاف الكلمات، “فقدت الأمل”، “رح أطفر (أهرب)” “هي خربانة خربانة”، “بس خساير”.

لبعض الوقت بغضت تشرين أيضاً. اعتقدت أننا خسرنا وهزمنا وانتهى الأمر.  

لكن اليوم، بعد خمسة أعوام على تشرين، أرى النساء على التلفاز، يتحدثن عن السياسة، والتشريع، والقوانين، وحقوق المرأة، والكثير منهن كان قد تشكّل وعيهن في تشرين.

أرى أبناء جيلي -الذي كان مُغيباً عما يجري قبل تشرين- يُراقب البلاد ويتابعها، بعد أن تجاهلها لوقتٍ طويل بسبب الإرهاق. أرى السلطة وهي تعاملنا بحذر، مثل قنبلة موقوتة، تخاف انفجارنا من جديد، ولذلك تزيد من قمعها والحد من حريّاتنا.

تشرين عرفتنا على بعضنا البعض. وكسّرت الكثير من حواجز الطائفة واللهجة والطبقة والمحافظة، فمتظاهرو البصرة في تشرين كانوا يطمئنون على متظاهري النجف، وأهالي المثنى كانوا يساهمون بنشر نداء البحث عن مفقود في واسط. والناصرية تصدّت لتكون عاصمة غاضبة، بينما تركت بغداد لدورها الرتيب بكونها العاصمة فقط، وصارت ملجأً للفن والحب.

أقنعة عديدة فرضتها علينا السلطات منذ عقود، زالت في تشرين. صرنا نعرف بعضنا البعض. العراق الذي كان أرضاً شاسعة نجهل باقي سكانه، صار منزلاً من غرف عدة، نعرفه، وإذا ضللنا الطريق فيه، فلا نخاف العودة، نعرف أن هناك من يساعد.

أردنا وطناً، يحدث فيه ما يحدث اليوم وما حدث أمس.

 
   
 



 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced