بعد تأخرها أياما بسبب عطلة رأس السنة، فرح المتقاعدون وموظفو بعض الوزارات بإطلاق رواتبهم الشهرية أول أمس الأحد، لكن الفرحة لم تدم، إذ وجدوا أن الدولة استقطعت ما نسبته واحد في المائة من الراتب، تبرعا إلى قطاع غزة ولبنان، وبأثر رجي لمدة شهرين بالنسبة للمتقاعدين.
وعاد الجدل مجددا حول قضية الاستقطاع التي أقرها مجلس الوزراء في تشرين الثاني الماضي، ثم تراجع وأكد أن التبرع ليس إجباريا، إنما هو طوعي واختياري. إذ يتسنى لمن يرفض التبرع الدخول على رابط خاص عبر "بوابة أور" الالكترونية وتقديم طلب بذلك، أو تقديم طلب إلى الجهة الإدارية التي يتسلم منها راتبه، بإعفائه من التبرع.
إلا أن الكثيرين من المتقاعدين كبار في السن ولا يجيدون التعامل مع الأنظمة الالكترونية، وبعضهم لا يجيد القراءة والكتابة. وبذلك يرى متابعون أنه كان الأولى بالحكومة أن تضع رابطا لطلب التبرع، وليس لإلغائه بعد أن تجعل عملية التبرع سارية بشكل إجباري!
واستغل العديد من أصحاب مكاتب الصيرفة والمكتبات موضوع الرابط، وصاروا يقدمون عروضا للمتقاعدين بإلغاء التبرع عبر المنصة، لقاء أجور!
وأثار الاستقطاع موجة غضب واستياء في صفوف الموظفين والمتقاعدين، الذين وصفوا هذا الإجراء عبر وسائل إعلام ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي بـ"الظالم وغير المتوقع". فيما رأى العديد منهم أن "هذه الاستقطاعات ستؤثر بشكل كبير على مستوى معيشتهم، خاصة أنهم يعانون أصلاً ارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع الاقتصادية".
وذكر عدد من المتقاعدين لـ"طريق الشعب"، انه "لا فضيلة لتبرع يُنتزع عنوة"، مؤكدين أنهم مع مساعدة الشعبين الفلسطيني واللبناني، ودائما ما يساهمون في تقديم المساعدات على قدر استطاعتهم "لكن أن يُخذ التبرع بهذا الشكل ودون إشعار من صاحب المال، أمر غير مقبول ويعد تجاوزا صارخا على مال الموظف والمتقاعد، لا سيما أن الكثيرين من المواطنين لا يثقون في التبرعات التي تتم عن طريق الجهات الحكومية، لأن الثقة بين المواطن والحكومة باتت شبه منعدمة بسبب تفشي الفساد، وكثرة الوعود الزائفة"!
استقطاعات أعلى من 1 في المائة!
مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة، طالب من جانبه الهيئة الوطنية للتقاعد بتدقيق نسب الاستقطاع من رواتب المتقاعدين والموظفين في ملف "التبرع الطوعي"، والتي استقطعت بأثر رجعي لمدة شهرين.
وأوضح في بيان صحفي أن "هناك حالات لعدد من المتقاعدين باستقطاعات أعلى من 1 في المائة لشهرين، ما يستدعي النظر من وزارة المالية وديوان الرقابة المالية"، مشيرا إلى أن "ذلك سينعكس سلباً على الأوضاع المعيشية الصعبة والرواتب المتدنية أساساً لهذه الشريحة، والتي لا تصل حتى إلى الأمن الغذائي".
وكان مجلس الوزراء قد قرر في جلسته الاعتيادية السابعة والأربعين المنعقدة في 19 تشرين الثاني الماضي، الموافقة على استقطاع وزارة المالية 1 في المائة من الراتب والمخصصات والراتب التقاعدي لمؤسسات الدولة جميعها "تبرعاً طوعياً" يودع في حسابات دعم غزة ولبنان بالتساوي أو على وفق الأولويات التي يحددها رئيس مجلس الوزراء.
وبسبب الرفض الواسع من شريحة الموظفين والمتقاعدين، عادت الحكومة فعدَلت عن قرارها السابق بشأن الاستقطاع، لينص قرارها الجديد على "الاستقطاع الطوعي" بنسبة 1 في المائة من الراتب والمخصصات، والراتب التقاعدي، لمدة 6 شهور فقط، ابتداءً من الأول من كانون الأول 2024.
وسبق أن عبر العديد من موظفي الدولة عن امتعاضهم من قيام الحكومة باستقطاع 1 في المائة من رواتبهم بشكل اجباري غير متوقع.
أحد أوجه الفساد!
المئات من الموظفين ناشدوا الجهات العليا التدخل لإيقاف الاستقطاع الاجباري من رواتبهم، واصفين الأمر بـ"احد اوجه الفساد"!
وذكر العديد منهم في حديث صحفي، أن "وزارات الداخلية والدفاع والاتصالات، اضافة إلى دوائر حكومية اخرى، رفضت اي توجيه بإلغاء نسبة الاستقطاع البالغة 1 في المائة من رواتب الموظفين لدعم غزة ولبنان".
وأضافوا القول أن "القرار الحكومي كان ينص على ان يكون الاستقطاع بشكل طوعي، ومن لا يرغب في ذلك يمكنه ترويج طلباً ادارياً لايقاف الاستقطاع، الا ان هذا الامر تمت مواجهته بالرفض المطلق من قبل تلك الوزارات والعديد من الدوائر".
ولفت الموظفون إلى أن "نسبة الاستقطاع مع مبلغ الجباية الذي يُدفع للمنفذ فضلاً عن المصرف، جميعها قد تؤثر على أصحاب الدخل البسيط منهم"، مشددين على "ضرورة ان يوجه مجلس الوزراء قراراً فوريا بمنع اجبار الموظف على دفع نسب مختلفة من راتبه".
وتابعوا القول أن "هذا الامر، يعد احد اوجه الفساد، لرفض بعض الوزارات ان يكون التبرع بجزء من رواتبهم بشكل شفاف دون اجبار احد على ذلك".
مخالفة دستورية
من الناحية القانونية، رأى الخبير القانوني طاهر الطائي، في حديث صحفي سابق، أن "استقطاع الرواتب بهذا الشكل يمثل مخالفة دستورية وقانونية رغم محاولة الحكومة تقنين تلك المخالفة عبر إضافة كلمة (تطوعيا)".
وأوضح أن "المادة 28 من الدستور نصت على (لا يمكن فرض أي ضرائب أو رسوم إلا بموجب قانون) بينما الاستقطاع لم يكن عبر قانون إنما بقرار من مجلس الوزراء"، مضيفا أن "الحكومة، ومن أجل تلافي حقيقة القرار باعتباره مخالفة دستورية، أضافت عبارة (تطوعية). حيث قالت ان من يرفض التبرع، عليه تقديم طلب لإعفائه منه".
ولفت الطائي إلى ان "المسائل المالية المتعلقة برواتب الموظفين والمتقاعدين تخضع للقوانين النافذة، مثل قانون الموازنة العامة، وقانون رواتب موظفي الدولة"، مبينا أن "البرلمان هو الجهة المخولة بالموافقة على أي تغييرات مالية من خلال تشريع القوانين".
فيما نوّه إلى أن "بعض الاستثناءات تخول مجلس الوزراء تقديم مقترح لإجراءات تقشفية أو إصلاحات مالية في حال وجود أزمة اقتصادية أو عجز مالي، لكن هذه المقترحات يجب أن تُعرض على البرلمان للموافقة".
مبلغ الاستقطاع
وفقا لعضو مجلس النواب ماجد شنكالي، فإن مبالغ الاستقطاع من رواتب الموظفين والمتقاعدين تبلغ أكثر من 800 مليار دينار.
وأوضح شنكالي في لقاء متلفز، أن "مجموع رواتب الموظفين والمتقاعدين في العراق يصل إلى نحو 80 تريليون دينار سنويًا، وبالتالي فإن استقطاع 1 في المائة من هذا المبلغ يعادل حوالي 800 مليار دينار، أي ما يفوق 600 مليون دولار سنويًا".
استقطاع وليس تبرعا!
إلى ذلك، رأى الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي أن هذا القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء، يمثل استقطاعا من الراتب وليس تبرعا بجزء منه.
وقال في منشور له على "فيسبوك"، أن "نشر هيئة التقاعد الوطنية الرابط الإلكتروني للرافضين استقطاع الرواتب، يؤكد عزم الحكومة على الاستقطاع رغم أنف الموظفين والمتقاعدين" - حسب وصفه.