أصحيح أن سنوات عشراً مررن على رحيل الحبيب !؟
أصحيح أن وحوش الظلام الجناة مازالوا طلقاء .. وما من أحد يسمع نداءاتنا نحن المفجوعين بغياب قديس الثقافة والتنوير !؟
يا لهذا الحزن الذي لا يهجع .. يا للنادبات اللواتي يذيب نحيبهن الصخر .. ويا لهذه الحياة من أشواك تدمي أقدامنا ونحن نغذ المسير الى حلم كامل شياع !
* * *
في الذكرى الخامسة لاستشهاده تحدثت، من بين ما تحدثت، عن آخر لقاء جمعني بصديقي الحميم .. قلت:
"على مدى ثلاث ساعات في مساء رائق في حانة بحي هامرسميث غرب العاصمة البريطانية تحدثنا، من بين أمور أخرى، عن مقاله الساطع (عودة من المنفى)، حتى لكأننا كنا أمام هاجس موته .. لكنه كان، كما تجلى في محياه وفي روحه، هاجس التشبث بالضفاف.. غالباً ما كان يبدو رفيق أرق في مجابهة أسئلة الواقع وهو يجسد موازنة قلقة بين الهم اليومي والمرتجى الجمالي.
تجادلنا بشأن منهجنا الذي يحمل عنوان: إعادة النظر، بمعنى إعادة القراءة .. رؤية الماضي بعيون جديدة، والدخول الى نص قديم من وجهة نقدية جديدة. وما أزال أتذكر إنه قال: لا يمكن إنجاز مثل هذا الكشف الا عبر وعي مختلف جذرياً عن الوعي السائد الذي يصوغ الأفكار.. فأكملت قائلاً: لا يمكن اختراق النظام المغلق للثقافة السائدة الا عبر وجهة نظر ترتاب بقيم هذه الثقافة وافتراضاتها، سعياً لنقدها والاطاحة بها..
تحدثنا عن نظرة جديدة في نقد الرأسمالية في سياق مساهمة متواضعة في إعادة قراءة فكرنا الماركسي .. وتحولنا الى حديثنا الأثير عن جماليات الأدب والفن.. والتباسات ما بعد الحداثة .. والرواية التي كانت له نظرات عميقة فيها.. والموسيقى الكلاسيكية التي أحبها.. ما زلت أتذكر الى أي حد كان، في لقاء سابق، مرهف الحس، ونحن نستمع الى كونشرتو الكمان لباغانيني .. كان يصغي بالصفاء ذاته الذي يتحدث به: عميق الفكرة .. جلي العبارة .. رفيع اللغة .. شفاف الروح .. كثير التواضع .. وفيه فيض من ذلك الحياء الذي سمّاه ماركس عاطفة ثورية..
تواعدنا على اللقاء قريباً في بغداد لكي نكمل جدالنا حول المشروع الثقافي في العراق، وإعادة الاعتبار للثقافة ومبدعيها .. وكان هذا أحد محاور حديثنا اللندني .. وما كنت أظن أن لقاء مرتقباً يمكن أن يتحول الى كابوس.. من منا كان يظن أن بغداد يمكن أن تتحول من حلم الى كابوس ؟"
* * *
مع أن كامل شياع لم يكتب كثيراً، غير أنه كان كاتباً من طراز رفيع، قادراً على التأمل العميق، وطرح أفكاره الباهرة بلغة صافية .. ومن المحزن أن مشاغل الكفاح اليومي، وله فيه منجز عظيم، أخذته من عالمه الرحب، من فضاء الفلسفة والابداع الفني.
ومقاله المميز بمنهجيته الفكرية وقيمته الجمالية، الموسوم (عودة من المنفى)، نموذج للكتابة الابداعية. وقد طاب لي، مرة، أن أصف هذا المقال الساطع بأنه "نبوءة الضحية" .. كل مقطع فيه يكشف عن أفق أرحب، وتحليل يسبر الأغوار، وأمل مضيء لانسان قدّت روحه من بلور يسير في حدائق الروح، مجسداً الفكر النيّر، والوجد الصوفي، والألق الجمالي، في تعاشق مع الموقف السياسي الرفيع.
أما الاحساس بفجيعة فقدان هذا الانسان نادر المثال فينبغي أن لا يهدأ .. والأصوات الغاضبة يجب أن تظل متعالية، مطالبة بالكشف عن الجناة وانزال العقاب العادل بهم.
عندما أقدم الظلاميون على فعلتهم الشنيعة كانوا يتوهمون أنهم بذلك انما ينهون مشروعه الثقافي السائر نحو المستقبل، ونموذج التنوير الذي يقض مضاجعهم، ويهدد ثقافتهم، بل ووجودهم.
وما علموا أن مصرعه سيكون خطوة على طريق الاطاحة بعالمهم، وأن ناقوسه سيظل يقرع في الشوارع، يدل الحالمين على دروب التنوير والتغيير.
وقضية كامل شياع ليست قضية اغتيال مثقف أو سياسي، وانما هي ايذان بمرحلة جديدة تحتدم فيها المعركة على البديل المنشود ومصائر الثقافة ووجهة تطور البلاد.
* * *
كامل شياع هو معلّمنا في حياته وفي رحيله .. على كتفه نتكيء، ونثق أنه لن يتخلى عنا في المسير .. فقد منحنا يده، وقميص روحه العاشقة، وفكره المتدفق بأسئلة حارقة.
واليوم تحط يمامته على جنائن أرواحنا المهجورة، فتبعث فيها الأمل والحياة ..
صار كامل شياع درباً، ونحن صرنا السائرين .. وفي كل حين نحتفظ له بآخر الزهور، لأنه يحتفظ لنا بآخر الفراشات..
كامل شياع .. قل لنا: لماذا غابت شمسك قبل الأوان ؟ لماذا هجرت بيت رغباتك المضيئة، وتركتنا في ظلال من الأرق، وأنت تعلم علم اليقين ما يلزمنا من صدر أرحب نسند عليه أشواقنا حتى نحتمل كل هذه الأحزان؟ لماذا قلتَ: وداعاً، وأنت تعلم أننا لم نكمل حديثنا ؟
كامل شياع .. أنت الذي قتلوك لأنهم علموا أنك كنت تقود انقلاباً على شريعة الظلام ..
أنت الذي سيظل شبحك يجول في بغداد .. وعيونك الخزّر لن تنام .. وجمراتك تتقد تحت رماد الأيام ..
أنت القديس الحالم الذي خسر، باستشهاده، أغلاله، وربح قلوب العاشقين ..
أنت الذي تروّي عطش أيامنا، فتنساب نهّاضة لغاياتنا الساميات ..
أنت الذي بهدي مثالك المنير نمضي الى تلك الضفاف ..
أنت الذي تأمر الندى أن يبلل عشب أيامنا المقبلات ..
أنت خطوتنا .. وينبوعنا .. والمصباح .. والراية ..
كامل شياع .. تشفى الجراح .. لكن من يشفي الذاكرة !؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إحياء للذكرى الثانية عشرة لاستشهاد كامل شياع (التي تمر في 23 آب) أعيد نشر ما قدمته في الذكرى العاشرة، ونشرته في "طريق الشعب" بتاريخ 3 أيلول 2018