"تك..تك..تك" إنها دقات الساعة العتيقة التي تعود إلى زمن الأجداد.. المعلقة على جدران غرفة الشابة المصرية "جينا" وإلى جوارها بورتريه بألوان "الباستيل" لـ "جارة القمر"، وأمام المرآة تقف "جينا" ترتدي قرطها الدائري المرسوم عليه وجه "فيروز" بجانب قمر مكتمل وتدندن: "فيه ناس كتير لكن بيصير ما في غيره"... وتتذكر أنها: "كانت ومازالت تنتظر".
أما في مدينة "بني غازي الليبية" تتلاقى أمواج البحر أمام عيني"منصف" الذي يجلس متأملا متذكرا قصة حب عاشها منذ خمس سنوات وكيف كانت أغنية "نطرونا كتير" والبحر رفقاء له وقت الانتظار.
"منصف" و"جينا" ورغم المسافة التي تفصلهما جغرافيا واختلاف النوع والمجتمع يتقاسمان ثنائية توافقا معي على تسميتها "فيروز والانتظار" بل ويتشاركان كذلك تساؤلا جوهريا: "هل الانتظار في الحب أمل أم ألم؟.. حرية أم سجن؟".
شفاء
"صوت فيروز يحمل الشفاء لقلب كل حبيب ينتظر" هكذا يقول الدكتور شوكت المصري مدرس النقد الأدبي الحديث بأكاديمية الفنون الذي يؤكد أن "الانتظار" هو أحد أهم المشاعر التي يستخدمها الفن والأدب والإبداع والفلسفة والموسيقى وعلم النفس لتجسيد "حالة إنسانية مشتركة عابرة للزمان والمكان..كلنا ننتظر".
"من ينتظر قلبه معلق بالزمن وتحديدا بالمستقبل"، ولذلك يقول "علماء النفس" إن العلاقة بين الانتظار والزمن جعلت من "الخوف" و"الفقد" و"الأمل" أساسيات لحالة الانتظار في الحب.
الانتظار يحوي في جذوره حالة "خوف من المجهول" حتى أن المعالجة النفسية السورية التي تعيش في لبنان "هناء نيازي" تقول: "الحب والانتظار يرتبطان بداخلنا لأنه عندما نمتلك مشاعر لأحد فلا بد أن نبحث عن تأكيد على صدق الطرف الآخر..لذا ننتظر العهد والوعد".
تتشارك المعالجة النفسية هناء حب أغنية "أديش كان في ناس" مع الدكتور شوكت وخصوصا الجملة الأشهر: "صار لي شي مية سنة عم ألف عناوين مش معروفة لمين".
فتقول هناء: " إن المرأة لها القدرة على الانتظار ثلاثة أضعاف الرجال أي أنها أكثر صبرا" أما الدكتور "شوكت" يصف مدة "مية سنة" بأنها "تعظيم" لحالة الانتظار في الحب قائلا: "عندما تقول فيروز إنها قضت مائة عام تنتظر وكأنها تدعو كل عاشقيها للصبر على المحبين.. فالانتظار قوة حتى ولو كان مؤلما".
ومن تنتظر بهذه الروح المليئة بالسكينة والصبر يمكنني أنا أمنحها لقب: "فيروز.. سيدة الانتظار".
"فيه ناس كتير لكن بيصير مافيه غيره" هي الأقرب لقلب "جينا" لأنها تجسد قصة حب عاشتها منذ سنين عديدة : "مهما مر أناس بحياتي ومهما انتظرته بغض النظر سيأتي أولا..سيبقى..ما في غيره..هذا هو الحب". عندما سألتها: " وهل هذا انتظار حلو كالحرية أم مر كالألم؟!" أجابت: "انتظار فيه مشاعر متضاربة..فيه حرية لأني أنا من أقرر وأيضا فيه خوف لأني لا أعرف هل حقا سيأتي ومتى سيأتي حبيبي؟".
أما "منصف" فيقول متنهداً مسترجعاً ذكريات قصة حب كان بطلها "الانتظار": "كنت أمشي في شوارع بني غازي بلا وجهة..لا أعرف أين أنا.. ورنة صوت فيروز تملأ أذني وهي تقول نطرونا كتير..وهنا قلبي يدق.. وأتذكر أنني حينها كنت أنتظر ردا بالموافقة أو الرد على فتاة اعترفت لها بحبي ولكنها تفاجأت وطلبت مهلة للتفكير وكانت دهرا من انتظار مؤلم".
الفقد
"الفقد" من أشهر المشاعر النفسية وأعمقها التي ترافق الانتظار في الحب، في نظري، أخشى ما يخشاه المنتظر المحب هو الفقد.. أن يكون مكان "الحبيب" فارغا لا أنس به ولا ونس هو "انتظار" يمهد السبيل لنا إلى "الوحدة". والإنسان منذ عصر "الإنسان الأول" وهو يخشى "الوحدة" باحثا خارج كهفه عن شريك لتفاصيل حياته ولمواجهة الخوف من العالم معه.
وهنا مزيج "الفقد والوحدة والانتظار" وكأنه الوجه الآخر لما تغنت به "فيروز" بصوت وموسيقى أشبه بـ "الصراخ": "أحترف الحزن والانتظار..أرتقب الآتي ولا يأتي.. يسكنني الحنين والرجوع".
"الخوف والفقد والوحدة والألم... إلخ" مشاعر تحياها الإنسانية بأسرها ولكن ماذا لو كانت في مجتمعات كمجتمعاتنا العربية التي يغلب على أناسها "افتقار القدرة على التعبير عن المشاعر" و" احترام الصحة النفسية للشريك في العلاقة" بل هي مجتمعات لا ينتهي فيها أبدا الجدل عن الرجل والمرأة في الحب..وأيهما أفضل؟!.. أو بالأحرى أيهما له السطوة في جعل الآخر ينتظر؟!.
ولا توجد دراسات نفسية أو اجتماعية دقيقة عن مدى قدرة الرجال عربيا على تقدير مشاعر الانتظار مقارنة بالنساء، لكن في مجتمعات توصف بـ طابع "السلطوية" أو "الذكورية".
يوجد خلل ما في العلاقات يجعل الرجل مدفوعا بأن يجعل المرأة في "انتظاره عادة" لأنه وكما تؤكد المعالجة النفسية هناء نيازي: "الخلل في توازن العلاقات عربيا هي علاقة الرجل بأمه.. لأنه لم ينشأ مستقلا عن أمه بل اعتماديا وهذا يؤدي إلى فجوة بين الرجولة والذكورة..الرجل المستقل يحترم شريكته غير مدفوع بإحساس من السيطرة والصراع بل يتشارك معها مشاعرها..لا يجعل من انتظارها أملا فارغا أو فقدا آتيا لا محالة".
إذا كان الرجل عربيا يتمتع بشيء من السلطة في علاقة الحب فلماذا في المقابل تختار النساء الانتظار حتى ولو كان مؤلما؟ تجيب "هناء": "النساء عربيا يغلب على حياتهن دوامة الانتظار والألم لأنهن ينظرن للرجل باعتباره فارس الأحلام أو بعبارة نفسية أكثر هو المنقذ أو المخلص سواء من سيطرة الأهل أو المجتمع".
وتقارن المعالجة النفسية السورية بين النساء عربيا مقابل المرأة "الغربية" التي هي "مكتملة" و "محبة لذاتها" لا تنتظر الرجل لتكتمل بل هي "تحبه لأجل الحب" وتختاره وهي في موقع القوة لأجل أن يشاركها الحياة ولا يصارعها بالانتظار.
الألم قوة حتى لو كان ناتجه هزيمة لأنه يعتمد أساسا على أمل في المستقبل" هكذا يقول الدكتور شوكت الذي يصف أغاني فيروز بأنها مزجت بين الانتظار والأمل وليس بين الانتظار والحزن..جارة القمر انتظارها شجي وليس انكسارا".
"أحيانا أجد السيدة فيروز قوية منتصرة في انتظارها وأحيانا أخرى تكون مهزومة" هكذا يرى "منصف" حالة الانتظار لدى جارة القمر و تصف "جينا" الانتظار "فيروزيا" بأنه لا يصنف إلى قسمين بل هو "كل متكامل" حتى ولو كان متناقضا فهو انتظار فيه حرية وألم ..أمل وخوف.. تماما مثل أي "خبرة إنسانية نفسية". "ليس عيبا ولا تناقضا أن نكون بين انتظار مؤلم وآخر حر".
أما أنا باعتباري كاتبة لهذه السطور ومشاركة لـ "جينا" و"منصف" قصصهما في "الحب والانتظار"، فأرى أن جملة فيروز "من يومها شو عاد صار ع مدى كذا نهار ما صار شي كتير كل الي صار وبعده بيصير ..الله كبير" هي الأكثر تجسيدا لدلالة الانتظار في الحب، والإشكالية ليست في الانتظار بقدر ما هي صورتنا عن أنفسنا والعالم، تقديرنا لأنفسنا كطرف في علاقات عديدة.
لذا فالانتظار في الحب سواءً كان يحوي ألما أو أملا، الأهم ومن منظور الصحة النفسية أن يمهد السبيل أمام الإنسان إلى الحرية، حرية من الخوف وحرية من حب يفتقر إلى التوزان والتقدير والاستحقاق.
جارة القمر "سيدة الانتظار" يا من صوتك مملوء بالنعمة مفرح للقلوب مخلص من ألم الانتظار، كل عام وأنتي طيبة الروح والقلب والصوت.