ترى أنه سيكون دورالمرأة أعظم وأكثر حضوراً إذا ما أشركت في الميادين التي تتأهل لها
حاورها علاء المفرجي
القسم الثاني
الدكتورة لاهاي عبد الحسين مختصة بعلم الاجتماع، ولدت في بغداد عام 1952. وهي من أسرة تنحدر من مدينة الديوانية في الفرات الأوسط.
حصلت على البكالوريوس في علم الاجتماع / كلية الآداب / جامعة بغداد عام 1977. والماجستير من جامعة ولاية يوتا مدينة لوجان الولايات المتحدة الأمريكية عام 1985، والدكتوراه في علم الاجتماع / جامعة يوتا / مدينة سولت ليك ستي / الولايات المتحدة الأمريكية / 1991. التخصص الدقيق التنظيم الاجتماعي. التخصص الثانوي : السكان.
قامت بتدريس المواد التالية : المدخل إلى علم الاجتماع، التنظيم الاجتماعي، علم اجتماع المرأة نظريات اجتماعية (جامعة يوتا منذ عام 1987 – 1990). المدخل إلى علم الاجتماع، حضارة وشخصية، نظريات اجتماعية مفاهيم ونصوص باللغة الإنكليزية (جامعة بغداد منذ عام 1992 – 1998). تصميم البحوث الاجتماعية، علم الاجتماع الصناعي ، تاريخ الفكر الاجتماعي.
لها العديد من المؤلفات في علم الاجتماع منها: الملامح الاجتماعية في أعمال عدد مختار من الفلاسفة العرب المسلمين ، ومقدمة في علم الاجتماع، ومصطلحات ونصوص اجتماعية باللغتين العربية والإنكليزية. نظريات اجتماعية (سوسيولوجية). نساء عراقيات.. وجهة نظلر إجتماعية، وترجمت عددا الكتب منها : العرقية والقومية.. وجهات نظر انثروبولوجية، وكتاب العلامة علي الوردي في علم إجتماع المعرفة، من الادب الى العلم.
في كتابك، نساء عراقيات: وجهة نظر اجتماعية، خضت في تجربة النساء في البلدان النامية التي لا تشبه بالضرورة تجربة النساء في البلدان المتقدمة، ما الأفكار الأساسية التي ينطوي عليها الكتاب؟
- يضم الكتاب مجموعة البحوث العلمية التي قمت بها عن المرأة حصراً بعد التخرج والعمل في قسم علم الاجتماع جامعة بغداد منذ تسعينيات القرن الماضي. وعليه، فالكتاب لا يقدم لموضوعة واحدة وإنْ كان يتبع نسقاً نظرياً ومنهجياً متساوقاً. وقد تصدرت الكتاب المراجعة النظرية لقضايا المرأة المشار إليها في السؤال والتي تعتبر تأسيسية لأي عمل علمي. يلاحظ فيها أنّ العلماء ربطوا بين ارتفاع مستوى التنمية الاقتصادية وتحسن المكانة الاجتماعية للمرأة كما يستدل عليها من خلال توفر فرص التعليم والعمل لقاء أجر خارج المنزل. فيما رسم عالم آخر (لنسكي) بين تحسن المكانة الاجتماعية للمرأة من جهة، والتطور التكنولوجي الذي يحققه المجتمع من جهة أخرى، مفترضاً أنّ هذا تطور يصلح لكل المجتمعات. بيد إنّ دراسات نقدية للدراسات المذكورة خلصت إلى أنّ تجربة النساء في البلدان النامية تختلف اختلافاً نوعياً عن تجربة النساء في البلدان المتقدمة بسبب تداخل عوامل اجتماعية تقليدية كالدين ومنظومة القيم الاجتماعية والأدوار العائلية. تؤثر هذه العوامل على النساء في البلدان النامية سلباً بدرجة أكبر مما تفعل في البلدان المتقدمة. وهذه مسلمة مهمة يتحتم على الباحث أخذها بالاعتبار قبل الشروع بأي دراسة علمية جادة. أما الدراسات الأخرى التي ضمها الكتاب فتتناول قضايا متنوعة تخص المرأة كما في الدور التكميمي الذي تمارسه الأنظمة الاستبدادية العربية على المنظمات النسائية العربية وقضية التمايز الجنسي في العراق التي ظهرت بحدة أكبر كواحدة من نتائج الحرب العراقية الايرانية (1980 – 1988). اختتمت الكتاب بدراسة ميدانية ساعدت الأمم المتحدة على القيام بها تتناول أوضاع النساء الناجيات من داعش في عدد من المحافظات العراقية المتضررة.
هل بتقديرك وفي ظرف العراق الحالي حيث الخواء والجدب الفكري الذي يعم الكثير من المفاصل الاجتماعية، أنْ يكون للمرأة دور ما؟
- تمارس المرأة دوراً مهماً في العراق. وسيكون دورها أعظم وأكثر حضوراً إذا ما أشركت في الميادين التي تتأهل لها. المرأة كالوردة تتفتح في ظروف العناية والسقاية الحسنة، بلا افراط. وعليه، فإنني على يقين بأنّ المرأة العراقية ستظهر مواهبها وامكاناتها كلما زاد الوضع استقراراً وأماناً. المرأة مقاتل شرس ضد الفساد والتلاعب إذا ما أحسن اختيار من تتأهل لذلك من حيث الكفاءة المهنية والخبرة بمعية فريق مكافح ودؤوب. ستعود المرأة إلى طبيعتها عندما تطمئن على حقوقها ومكانتها. نتعلم من تجربة البلدان المتقدمة درساً جديداً كل يوم. فقد أظهر مثقفون أنّ الفروق البيولوجية بين النساء والرجال تظهر بوضوح في المجتمعات التي تتبنى سياسات مساواتية كما في البلدان الاسكندنافية. وهذا يعني أنّ المرأة ستعود إلى وداعتها ورقتها ولطفها عندما تطمئن إلى أنّ أحداً لن يتعرض لها سلباً كأنْ يتجاوز على حريتها أو ينتهك حقاً من حقوقها. وهذا استنتاج مبهر لظاهرة تزداد وضوحاً في البلدان المشار إليها الأمر الذي يسلط الضوء على المكاسب التي يحصل عليها المجتمع عندما يساوي بين أعضائه، نساءً ورجالاً، إناثاً وذكوراً.
هلا حدثتنا عن (المنتدى النسوي) الذي ترأسينه في الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، أهميته وأهدافه ودوره في الحياة الثقافية؟
- يعتبر منتدى الثقافة النسوية أحدث تشكيل دخل في منظومة الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق منذ تأسيسه عام 1959. اعتقد أنّ هناك قناعة بأنّ الاتحاد ربما تأخر في تمثيل المرأة على هذا الصعيد. لا يعقل أنْ تخلو منظمة نخبوية مثل الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق عن تشكيل من هذا النوع يهدف إلى تعزيز حركة المرأة المثقفة ودعم جهودها لتأخذ مكانتها اللائقة في المجتمع. المنتدى مفتوح لكل الأقلام النسوية التي تنصر قضية المرأة. وعندما أقول «نسوية»، فإنني لا أعني النساء فحسب بل وحتى الرجال الذين يعتقدون بحقوق المرأة باعتبارها جزء من حقوقها كإنسان. نركز في مرحلة التأسيس هذه على تأكيد الحضور الفكري لمثل هذه النخبة الداعمة لقضية المرأة العراقية على وجه الخصوص والانتصار لحقوقها ووقف الانتهاكات التي تتعرض لها وذلك من خلال العمل على اصدار كتاب نصف سنوي نحشد له موضوعات تكتب بأقلام نسائية ورجالية في قضية من قضاياها المعروفة كما في الجهد لوقف حملة العمل على تغيير المادة 57 من قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 الخاصة بحق الأم في حضانة الصغير بعد حصول الطلاق ومشكلة التحرش الجنسي التي صارت هماً مقيماً وبخاصة للفتيات الصغيرات سناً والنساء الشابات. هذا إلى جانب التعريف بنضالات المرأة العراقية وتقديم شخصيات نسوية متميزة ضمن زاوية «حوار العدد». ونعطي حيزاً لترجمة نصوص يمكن أنْ تساهم بتنوير المرأة العراقية. أكملنا العدد الأول وشرعنا بالعمل على الكتاب الثاني. نأمل أنْ نعقد لقاءً نقدم فيه أبرز الأقلام التي ساهمت في العدد الأول. يهمنا استقطاب الأقلام البحثية النسائية الشابة التي تتمتع بحس نسوي واعي ونشيط ونعمل على تشجيعها.
صدر لك مؤخراً كتاب عن الرواية العراقية، وأعتقد أنّها أول دراسة تتناول الرواية العراقية من وجهة نظر اجتماعية ... كيف تنظرين إلى تطور الرواية العراقية ... ما هو تصورك لمستقبل الرواية في العالم؟
- نعم هو الأول من نوعه من حيث الميدان الذي يدخل فيه. يعود الاهتمام بعلم اجتماع الأدب عموماً والقصة والرواية إلى سبعينيات القرن الماضي في العالم. بيد إنّ نهضة ملحوظة رصدت منذ عام 2015، وبدا لي أنّه قد آن الأوان لنخص القصة والرواية العراقية بدراسة تهدف إلى إظهار دور المثقف العراقي في متابعة قضايا المجتمع العراقي. يمكن أنْ يكون هذا العمل خطوة على طريق طويلة ينتفع منها الباحث من حيث إنّ القاص والروائي يتحرك ضمن ميدان واسع من حرية التفكير والكتابة التعبيرية. انشغل الباحثون المهنيون بموضوعات هيكلية تخص الدولة وبناها الكبيرة والمجتمع ومؤسساته التقليدية حتى إنّهم ابتعدوا عن الفاعل والصانع للحقيقة الاجتماعية، الفرد بتشكلاته الشخصية التفصيلية. تقدم القصة والرواية ما يلهم على هذا الصعيد وقد يساعد على تقديم بحوث ودراسات أكثر ارتباطاً بالواقع المعاش وصنّاعه الحقيقيين.
بدت لي القصة والرواية العراقية من خلال المائة عام التي درستها من خلال عينة مختارة لروائيين عراقيين معروفين أنّها مرت بسلاسة لتنتقل من مرحلة الوعظ والإرشاد المباشر التي عبر عنها بوضوح محمود أحمد السيد، إلى وثبة حققها عبد الحق فاضل وهو يحاول إعادة ابتكار المجتمع العراقي ويبصر مواطنين يتصرفون بمسؤولية ولا يكتفون بوظائفهم التقليدية ويشاركون بحماسة في الجدالات الاجتماعية ومنها السياسة والعلاقات بين الجنسين. أدخلنا غائب طعمة فرمان في سياق المشاهد الاجتماعية التي اهتمت ببسطاء الناس وفقراءهم ممن كانوا يتوقون إلى حياة أفضل حتى أطل شبح السلطة المستبدة التي لا تتورع عن استخدام أبشع الطرق لتقييد حرياتهم ومنها إساءة السمعة. وقد تميز فؤاد التكرلي في تعقب الواقع دون اغفال طريقة «ابتكار» المجتمع من خلال تناوله لعدد من المشكلات التي تعنى بالنساء المستضعفات حتى وإنْ كنّ متعلمات ومشتغلات. أولى التكرلي الحياة السياسية اهتماماً واضحاً وأسس لما يمكن أنْ نسميه تنامي آليات الاستبداد من خلال توثيقه لظهور شخصية «ضابط الأمن» سيئة الصيت في رواية «المسرات والأوجاع»، والعصف الذي أحدثته الحرب العراقية الايرانية التي تسببت في كوارث اجتماعية إنسانية معنوية ومادية يصعب معالجتها والاغتيالات التي تنسب إلى قاتل مجهول. يلاحظ أنّ الحرب العراقية الايرانية من أكثر الموضوعات اهمالاً في الدراسات الاجتماعية. حدث ذلك بسبب التعتيم السياسي على جوانبها الاجتماعية والمشاكل التي تسببت بها. استكملت العمل في تعقب فترة السبعينيات على مستوى الطلبة الجامعيين والضغوط التي كانت تمارس لضمهم إلى حزب الحكومة ومن ثم ظروف الشك والغدر والقضم التي رافقت فترة انعقاد ما سمي في حينها، الجبهة الوطنية والقومية التقدمية من خلال روايتي فلاح رحيم. وقرأنا في روايات انعام كجه جي عن مشاهد لم تسجل في دراسة علمية موثقة وصولاً إلى رواية «داعشتاين ...»، لجاسم المطير الذي وضعنا في أجواء كارثة احتلال الموصل وما جرته من ويلات على أهلها وساكنيها.
صدرت في الآونة الأخيرة كتابات تحلل منهج الدكتور علي الوردي، والبعض من هذه الدراسات هاجم منهج الوردي في علم الاجتماع ... كيف تنظرين اليوم إلى تراث علي الوردي وهل لا تزال فرضياته الاجتماعية واقعية؟
- لا خير فيمن يتهجم على علي الوردي دون أنْ يتمكن منه ويقرأه جيداً. دخل علي الوردي خانة قمم العراق الثقافية بعد مسيرة عظيمة تميز فيها بغزارة الإنتاج والحضور بحيث عد عربياً ودولياً عالم الاجتماع الأبرز في العراق وهذا مصدر فخر وليس مدعاة لإقامة حفلات السب والشتم له. لم يتوقف الهواة وأشباه المتعلمين من التهجم على علي الوردي وفي هذا بالذات شهادة على أهمية ما أنتجه. فأنْ تكون موضوعاً للنقد والتأمل وإنْ كان سلبياً أفضل من أنْ تكون ورقة منسية في رف من رفوف المكتبة. لم يتوقف النقد للنظرية الماركسية ولما أنتجه علماء الفكر الاجتماعي والإنساني إنّما على أسس علمية وليس مجرد إطلاق أحكام لا تقوى على الوقوف. فقد استمر التساؤل عما إذا كانت الطبقة الاجتماعية هي العامل الرئيسي في احداث التغيير أم منظومة الفكر والقيم الدينية والأخلاقية. وأنتج المتسائلون بدائل فكرية مهمة في مواجهة النظرية الماركسية كما في ماكس فيبر وإيميل دوركهايم وكارل مانهايم ورالف داهرندوف وغيرهم. بيد إنّ هذه الانتقادات لم تنل من مكانة كارل ماركس ومنجزه الكبير الذي بقي حجر الزاوية في أي نقاش علمي جاد. ولم تتوقف جامعات العالم عن تدريس كل هؤلاء العلماء المبرزون باعتبارهم أساسيين وليسوا طارئين على العمل العلمي.
دعنا نتفق أنّ النقد يختلف عن التهجم. تستطيع أنْ تنقد باحثاً أو عالماً درسته وتمكنت من علمه وصار بإمكانك أنْ تقترح بديلاً لما يرى وتعترف حتى لو كان بديلك جيداً ويتمتع بالمصداقية أنّ الفضل يعود لمن سبقك بالإنجاز ومنحك فرصة التأمل والمحاججة. أما أنْ تنتقد في سياق أنّ الوردي حظي باهتمام أكبر من غيره أو أنّه نال شهرة أوسع وتفتري عليه بأنْ تنسب له ما لم يكن فيه فهذا تهجم وليس نقد. تستطيع أنْ تقارن عمل الوردي بنظرائه من الباحثين وليس بمن اختط طريقاً مختلفة. وعليك أنْ تكون دقيقاً بحيث لا تدعي أنّه أهمل ناقداً وأنّه تهجم على حدث معين كما في ثورة العشرين. ما فعله علي الوردي فيما يتعلق بثورة العشرين أنّه قدم أطروحة جديدة تدعو إلى استخدام المنهج العلمي الذي لا يقوم على مسلمات فكرية تقود إلى نتائج متوقعة. أي أنّ عليك أنْ لا تفترض أنّ علي الوردي لم يكن متميزاً وتقود العمل لتثبت ذلك. هذا خطل في العلم وقلة دراية بقواعد النقد العلمي. استشهد علي الوردي بما كتبه الباحث مؤيد الياس بكر في مجلة الجامعة الصادرة عن جامعة الموصل في عددها الصادر في تشرين الأول عام 1976، ووضع مقتبساً فيما يقرب من صفحة كاملة في كتابه مما كتبه الباحث، «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث». وشرح أنّ الباحث عاب عليه رأيه في ثورة العشرين لأنّه ذكر السلبيات وترك الايجابيات. رد الوردي على ذلك الرأي الذي جاء في مطلع الجزء الخامس من كتاب «اللمحات»، الصفحات (4 - 5) بكل احترام موضحاً أنّ العلم يتطلب حلولاً موجعة وأنّ كراهيتنا للإنكليز ينبغي ألا تحجب الحقيقة عن أعيننا. استشهد الوردي بعد ذلك بفقرات مستفيضة من أعمال عدد من الكتّاب والباحثين العراقيين المعروفين من أمثال رضا الشبيبي وعبد الرزاق الحسني وكاظم المظفر وعبد الشهيد الياسري ممن استخدموا الخطاب التعبوي التحريضي الذي يقف على الضد من المنهج العلمي الدقيق في النظر إلى ثورة العشرين وما رافقها من أحداث موجعة. أوجز الوردي في مقدمة الكتاب العوامل الرئيسية التي ميزت ثورة العشرين في النقاط التالية: إنّ الثورة أسست لتعاون غير مسبوق بين العشائر وأهل المدن إذ لم يحدث أنْ تعاون هؤلاء على صعيد مشترك في ظل الهيمنة العثمانية السابقة للاحتلال البريطاني وأنّها لم تكن بدوية الطابع بالمطلق كما أشيع عنها؛ تمثل العامل الثاني بمشاركة رجال الدين والعلماء ممن شجعوا عليها واعتبروها «جهاد في سبيل الله»؛ ساهمت الثورة بإشاعة مفاهيم سياسية جديدة في المجتمع العراقي من قبيل «الوطنية»، و»الاستقلال»، مما جعل منها مدرسة لتنامي الوعي الوطني الذي تزايد بعد ذلك؛ أنّها امتدت لتشمل العراق من أقصاه إلى أقصاه كما شهد على ذلك كتّاب ومراقبين عرب وغير عرب. ولعل القضية الأخرى التي لا تقل أهمية عن العوامل الأربعة المذكورة أنّ الوردي جرد الثورة من صبغتها الطبقية. فقد كانت ثورة العشرين بنظره ثورة شعبية اشترك فيها عموم العراقيين من شيوخ ورجال عشائر وسكان مدن وعسكريين وطلبة، إلخ. وكما عبر الوردي بكلماته فقد اشترك فيها أصحاب «العمامة إلى جانب الطربوش، والكشيدة إلى جانب اللفة القلعية، والعقال إلى جانب الكلاو، وكلهم يهتفون: يحيا الوطن».
بالنسبة لي فقد نشرت خمس دراسات علمية موثقة عن انجاز الوردي بدأتها بدراسة حملت عنوان «علي الوردي في الميزان»، نشرت عام 2012 في مجلة «إضافات» وشاركت بدراسة حملت عنوان، «الوردي من منظور نقدي»، في المؤتمر الذي أقيم في بيروت من قبل الجامعة الأمريكية وجامعات أخرى عالمية عام 2013 لمناسبة مرور مائة عام على ولادته، وأخرى بعنوان «منهجية علي الوردي في مجال علم الاجتماع». سيكون ناقصاً كل عمل لا يأخذ بنظر الاعتبار ما كتب وقيل في الوردي من قبل نظرائه ودارسيه الجادين. كما إنّه ليس مسؤولاً عن الشهرة والشعبية التي حظي بها بالمقارنة مع آخرين. الشهرة سيف ذو حدين يمكن أنْ تعلي ويمكن أنْ تخفض وكان من نصيب الوردي أنّه نال التقدير والاحترام بسببها لأنّه خاطب عقول العراقيين وتناول مشكلاتهم الملموسة وهزّ قناعاتهم بالسائد والمقبول. وعليه، إذا كانت هناك صنمية فقد كان علي الوردي هو الذي شرع بهدمها ومهد لطريق مختلفة في النظر إلى شؤون الحياة الاجتماعية. عبرت في أكثر من مناسبة عن الرأي في أنّ الازدواجية قد لا يكون لها وجود اليوم في العراق بسبب التقارب الذي تحقق نتيجة نظام التعليم الشمولي وسياسات الحكومات المركزية ووسائل الاعلام التي ساعدت على الادماج وليس التمايز أو الازدواج بحسب مفهومات الوردي. بيد إنّ هذا لا يعني أننا صرنا مجتمعاً متحرراً من المشاكل التي يذكيها اليوم التعصب الديني والمذهبي الذي خاض فيه الوردي. سبق للوردي أنْ أكد في أكثر من كتاب ومحاضرة وحديث عن إنّ ما يقوله اليوم قد لا يصح غداً وهذا جزء طبيعي من عملية التغير الاجتماعي الذي يمر بها المجتمع. معروف في ضوء أبجديات العلم الاجتماعي أنّ الإنسان بطبيعته حالة متغيرة وغير ثابتة. أما موقف الوردي من المرأة فتشهد عليه ملاحظاته المستمدة من أرض الواقع في ستينيات القرن الماضي حيث رصد باعتزاز كبير الأعداد المتزايدة من الفتيات اللواتي يقصدن المدارس والنساء اللواتي ينتشرن على نحو متزايد في مؤسسات الدولة. كان علي الوردي نصيراً مخلصاً للمرأة وخصماً للنظام السياسي السائد منطلقاً في ذلك من موقفه كمثقف وعالم يحترم الحيادية والموضوعية ويمارسها.
قدم علي الوردي مثلاً ممتازاً على ملكته للنقد بصيغته العلمية الصحيحة والتي تقوم على الدراسة والتقصي وليس التعبير عن الرأي والمزاج الشخصي أو التعصب لأحد دون آخر. وهذا ما فعله في أطروحته للدكتوراه حيث انتقد الفيلسوف البريطاني آرنولد توينبي لوصفه ابن خلدون بأنّه خرج من «لا شيء». أوضح في هذا المجال أنّ ابن خلدون كان ثمرة تطور معرفي تاريخي يجري في صلب المجتمع الإسلامي آنذاك مما تم التعبير عنه في عديد من حركات الفكر والجدالات التي هضمها ابن خلدون واستخدمها لتطوير فلسفته في التاريخ ونظريته في المجتمع. كما تصدى الوردي لرأي عميد الأدب العربي طه حسين الذي وسم أفكار ابن خلدون بالغموض. وكان بكل هذا سباقاً ودقيقاً وأميناً ومؤتمناً على الرسالة العلمية التي حملها.