ألبرت آينشتاين هو أحد ألمع المفكّرين الانسانيين والفيزيائيين الذين شهدهم التأريخ البشري الذي نعرف. تلك حقيقة لاأظنّ أنّ أحداً يجادل في مدى صوابيتها ؛
لكنّ هذه الميزة الاستثنائية التي حازها آينشتاين لم تأت من فراغٍ أو محض موهبة إختصتّه قوانين الوراثة البيولوجية بها دون سواه. كان آينشتاين في كلّ أطوار حياته قارئاً نهماً لم تفترّ شهيته للقراءة يوماً، وقد مكّنته هذه القراءة الحثيثة على التعلّم الذاتي من أفضل العقول التي عرفها التأريخ البشري.
يكادُ المرء يدخل متاهة لايستطيع فكّ مغاليقها كلّما جاء ذكر آينشتاين ؛ إذ برغم أنّ الرجل يعدُّ أعظم فيزيائيي القرن العشرين لكنّ كتبه لاتكشف الكثير عن عن خلفيته الفكرية والفلسفية فضلاً عن بساطتها الخادعة. ربما كتاباه ذائعا الصيت (معنى النسبية) و (النسبية: النظرية الخاصة والعامة) هما عملاه الأكثر شهرة، ونرى فيهما آينشتاين وهو يوظّف بعض التجارب الفكرية Thought Experiments - التي تبدو بديهية وشديدة البساطة – في نتائج فيزيائية غاية في الجرأة الفكرية. مَنْ يستطيع من الفيزيائيين أن يصرّح بثبات سرعة الضوء في الكون بصرف النظر عن حالة مرجعيات القياس؟ أما كتب آينشتاين في الميدان الفكري والفلسفي (مثل كتبه: العالم كما أراه، أفكار وآراء) فهي تشي بعقل فلسفي مركّب جال في مناطق شاسعة من ميدان التجربة الانسانية.
لن أنسى أبداً عندما قرأتُ أواخر سبعينيات القرن الماضي مادة دسمة نشرتها مجلة (آفاق عربية) العراقية بعنوان (مباراة العصر بين بور وآينشتاين). تمثلت الدسامة الفكرية للموضوع في أنّ بور وآينشتاين يمثلان تيارين فلسفيين متعارضين في الفيزياء الحديثة، وعلى أساس هذا التعارض المفاهيمي تمّ تشكيل بعض أعقد المفاهيم في نظرية الكم التي تعدّ حجر الاساس في الفيزياء المعاصرة.
* * * * *
في الكتاب المعنون (آينشتاين للقرن الحادي والعشرين: ميراث آينشتاين في العلم والفن والثقافة الحديثة) الذي نشرته جامعة برينستون عام 2008، وهو غير مترجم إلى العربية حتى اليوم، يكتب محررو الكتاب بيتر غاليسون وجيرالد هولتون وسيلفان شويبر أنّ مكتبة آينشتاين ضمّت الكثير من الكتب التي تعدُّ كتباً من كلاسيكيات العلم والثقافة والفلسفة، وأنها كانت تحوي بالتحديد مجموعات عظيمة من الكتب الألمانية. تردُ في هذه الكتب أسماءُ مثل: بولتزمان (فيزيائي نمساوي) ، بوخنر (كيميائي ألماني)، فريدريش هيبل (كاتب ومسرحي ألماني)، هاينه (شاعر وناقد وصحفي ألماني)، هيلمهولتز (فيزيائي وطبيب ألماني) ، فون همبولدت (دبلوماسي وفيلسوف ألماني، أسس جامعة عرفت بإسمه)، فضلاً عن أسماء فلاسفة كثيرين منهم: إيمانوئيل كانت، ليسنغ، نيتشه، شوبنهاور.
سيكون أمراً مشروعاً، بل وضرورياً، أن نتساءل: ماهي الكتب التي عدّها آينشتاين من مفضّلاته؟ ربما ليس من جواب وحيد بسيط لهذا التساؤل ؛ لكننا نعرفُ – بالتأكيد – الكتب التي لطالما ذكرها واضع النظرية النسبية في أعماله أكثر من سواها. الآتي خمسةٌ من الكتب التي كانت قريبة من ذائقة آينشتاين الفلسفية والفكرية العامة، وساهمت في تشكيل عقله البحثي الاستثنائي، وقد أشار لها موقع BIG THINK الألكتروني الرصين:
1. تحليل الإحساسات Analysis of Sensations: إعترف آينشتاين غير مرّة أنّ تطويره لنظريته النسبية تأثر كثيراً بأعمال إرنست ماخ Ernest Mach، الفيلسوف والفيزيائي النمساوي البارز في القرن التاسع عشر. قدّم ماخ في كتابه المهم (تحليل الإحساسات) أطروحة نوعية بشأن الطبيعة المخادعة للحواس البشرية، والتحولات العديدة التي تمتاز بها الأنا البشرية.
إحتوى عمل ماخ هذا نقداً لنظريات نيوتن حول الزمان والمكان ؛ الأمر الذي وظّفه آينشتاين وجعله أحد مصادر إلهامه في خلق أفكاره الشخصية ذات الطبيعة الثورية في العلم والفلسفة. على سبيل المثال، تعدُّ النظرية النسبية تطويراً لفرضية فيزيائية كان ماخ قد وضعها في هذا الكتاب، وأسماها آينشتاين لاحقاً « مبدأ ماخ «، واعتبرها حجر الزاوية في نظريته.
في رسالة مؤرخة كتبها عام 1915 للفيلسوف النمساوي موريتز شليك Moritz Schlick، أبان آينشتاين عن الكُتّاب الذين أثّروا في تشكيل فكره وتنضيج نظريته النسبية. جاء في تلك الرسالة:
« لقد حدستَ بطريقة صحيحة هذا التوجّه في الفكر (يقصد الوضعية Positivism) الذي كان له تأثير عظيم على جهودي الفكرية، وأخصُّ بشكل دقيق في هذا الشأن إرنست ماخ وديفيد هيوم اللذيْن درستُ أعمالهما بمثابرة وتقدير قبل فترة قصيرة من وضع النظرية النسبية. يمكنني القولُ أنني من غير هذين العقلين الفلسفيين ربما ماكنتُ قادراً على بلوغ الصياغة الصحيحة للنظرية النسبية... “.
ربما من المفيد في هذا الشأن الاشارةُ إلى أنّ آينشتاين في سنواته الأخيرة إتخذ موقفاً فلسفياً مضاداً لفلسفة ماخ الوضعية لأنه رآها فلسفة تتمركز على المنطق الاحتسابي الصلب وتعدُّ الميتافيزيقا واللاهوت غير ذات شأن في أية فلسفة حقيقية.
2. دون كيخوته Don Quixote: ظلّ آينشتاين كلّ حياته عاشقاً لسرفانتس. ليوبولد إنفلد Leopold Infeld، وهو فيزيائي بولندي إشترك مع آينشتاين في تأليف كتاب عنوانه (تطوّر الفيزياء) نُشِرَتْ طبعته الأولى عام 1938، يكتب الأتي في سيرته الذاتية التي إختار لها عنوان (المسعى):
« إعتاد آينشتاين كلّ ليلة أن يستلقي في سريره مكتفياً بملابسه الداخلية، ثم يمضي في قراءة مقاطع من رواية دون كيخوته. كانت هذه الرواية هي العمل الذي أحب دوماً أن يقرأه عندما يسعى لنيل قسط من الاسترخاء.... «
3. الأخلاقيات Ethics: يوصفُ باروخ سبينوزا Baruch Spinoza، الفيلسوف الهولندي في القرن السابع عشر، بأنه صاحب الأعمال التي وضعت الأساس الراسخ لعصر التنوير الأوربي. ثمة اتفاق ناجز بين كلّ أعضاء الانتلجنسيا الأوربية والعالمية بأنّ كتاب سبينوزا في (الاخلاقيات) هو أحد الأعمدة الأساسية في تشكيل الفكر الغربي، وقد إجتهد سبينوزا فيه على تقديم صورة عن الواقع فضلاً عن السبل الكفيلة بعيش حياة أخلاقية رصينة.
توصف رؤية سبينوزا الروحانية في سياق مبدأ يسمى وحدة الوجود Pantheism، لها أنصار كثيرون (منهم، مثلاً، الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة). ظلّ آينشتاين مخلصاً طوال حياته لهذا المبدأ، وظلّت وحدة الوجود تشكل حجر الزاوية في رؤيته الروحانية للعالم.
4. مقالة في الطبيعة البشرية A Treatise on Human Nature : هذا أحد الكتب التي كتبها الفيلسوف الاسكتلندي ذائع الصيت ديفيد هيوم David Hume في القرن الثامن عشر. يعترفُ آينشتاين بأنه يرى في هذا الكتاب أفضل محاولة بشرية في الكشف عن العلاقة بين العلم والطبيعة البشرية، وأنه لعب دوراً كبيراً في تشكيل رؤيته فيما يخصُّ طبيعة السلوك البشري.
يرى آينشتاين مأثرة هذا الكتاب الفريدة من نوعها في أنّ هيوم إنتقل من فضاء الحدوسات الميتافيزيقية نحو دراسة واختبار الوقائع التي يمكن معاينتها، وهو مايمثلُ فكرة أشمل إعتمدها هيوم في كلّ أعماله ومفادها أنّ الوقائع لوحدها لاتصلح لفهم قوانين الطبيعة. لقيت هذه الرؤية التي ناصرها هيوم هوى في روح الفيزيائي الشاب آينشتاين، وكان لها وقع كبير في تطوير أفكاره المناقضة للحدس الفردي والبداهة العامة.
5. أعمال غوته: ربما كانت أعمال غوته، المؤلف والفيزيائي والشاعر والروائي والكاتب الالماني، هي الاعمال التي شغلت أكبر مساحة في مكتبة آينشتاين. ضمّت مكتبة آينشتاين الأعمال الكاملة لغوته في ستة وثلاثين مجلداً، بالإضافة إلى إثني عشر مجلداً إضافياً، ومجلّدين من عمله المسمى (علم البصريات)، والمراسلات الكاملة بين غوته والشاعر شيلر (كبير الشعراء الرومانتيكيين في عصره)، وطبعات عديدة من رواية غوته (فاوست).
وصف آينشتاين غوته في رسالة كتبها عام 1932 إلى أحد أصدقائه، مبدياً فيها إعجابه بالشاعر والفيلسوف الألماني:
« غوته شاعر لانظير له، وهو أحد أكثر الرجال ذكاء وحكمة في كلّ العصور. تستحقُّ أفكاره الرفيعة أن توضع في مصاف نظيراتها من الأفكار العظيمة ؛ أما أخطاؤه فليست أكثر من أخطاء أي رجل عظيم يضاهيه في المقام والمقدرة..... «
* * * * *
أحبّ آينشتاين كتباً أخرى كثيرة، منها: الأخوة كارامازوف، الرواية التي كتبها فيودور دوستويفسكي، و آيزيس من غير قناع Isis Unveiled، الكتاب الذي ألّفته الروحانية الروسية هيلينا بيتروفنا بلافاتسكي.