النقد الأدبي ميدان منيع الأركان على من يروم الدخول إلى فضاءاته ولا يملك العدة الكافية لأداء مهامه والإلمام بمجالاته وكيفية التعامل مع مناهجه وتوظيف نظرياته والتعمق في معرفة خصائص مدارسه. وفاعلية النقد الأدبي تعني أداء الناقد لوظيفته التي بها تكتمل الناحية الأدبية وتغدو الغايات متحصلة بالرؤية المنهجية الواضحة ورصانة الاجتراحات المشفوعة بالنظرية والإجراء مع المواكبة بشكل حثيث وجاد لكل ما هو مستجد في عالم النقد والأدب.
ولعل أهم سمات النقد الحقيقي هو أن يكون متوازنا وبما يضمن للناقد النجاح في أداء وظيفته، فلا يشطح ولا يخفق ولا يتعالى ولا يهادن أو يتستر مدارياً ومحابياً. ولا يتحقق هذا التوازن ما لم يكن صاحب دراية نظرية وقدرة تحليلية، سواء وهو يقرأ المتون ويستغور التجارب أو وهو يستجلي أبعادها ويكشف عن مواطن جديدة أو مناح وخصائص فيها كشوفات تغني الإبداع. وأداته في ذلك الاستقراء والاجتراح ودقة التوصيف التي بها يصل إلى صواب الاستنتاج وموضوعية التحصيل.
ومتى ما بدا النقد الأدبي ثانوياً وفائضاً عن الحاجة، دلّ ذلك على فقدانه فاعلية دوره، أي أن يكون مكملاً الإبداع الأدبي، وحينها تتأكد ما لممارسيه من اختلالات وإشكاليات. ونذكر من هذه الاشكاليات مثلا: 1/ القصور في تحمل المسؤولية 2/ تهالك النظر واجترار الممارسة 3/ التهاون والاستسهال والركون إلى الانطباعية العاجلة 4/ البحث عن المصلحة الذاتية والعمل بمنطق الإخوانيات.. إلى غير ذلك من الاشكاليات التي معها تضيع أهمية النقد الأدبي وتضعف فاعليته فيكتسب طبيعةً تخالف ما عُهد إليه من مهام وأهداف.
ولقد أضحى النقد الأدبي اليوم مختلفاً بسبب الدخلاء والطارئين الذين يحسبون عليه، حتى كأن كل من امتلك التعبير والانشاء وحاز على خلفية قرائية أو تمتع بسمة أكاديمية يظن مع نفسه أنه مؤهل لأن يكون ناقدا وقادرا على الخوض في ميدان تحليل الادب وتشريحه وتفسيره، متوهما أن اللطش من الكتب أو استعراض محتوياتها هو نفسه نقد الأدب وتحليل نصوصه وتأويلها. وبهذا الشكل من الايهام والتوهم تتراجع الفاعلية النقدية في علمية مهامها وتخصصية مفاهيمها واصطلاحاتها التي هي متنوعة بتنوع ميادين النقد الأدبي النظرية والاجرائية.
وإزاء هذا الحال، فإن الغالب مما يُكتب ويُنشر، يؤكد الندرة الحاصلة في أداء الوظيفة النقدية. ومن الطبيعي بعد هذا أن ينزاح النقد الأدبي عن فاعليته، فيبدو ثانوياً، لا يغني بإثارته جديداً محفزاً ولا هو يشبع فقراً أو يعوض نقصاً ولا هو يقلب السائد أو يحرك الساكن أو يأتي بما هو مختلف.
واعتمادا على هذا الوضع، غدت أهداف (كتبة) النقد الأدبي متقاربة، بل هي تكاد تكون واحدة ومتساوية فالصنعة متشابهة والمبتغى متواضع والوسائل هي نفسها والميول متفقة ومطمئنة بوجه عام، والثقة بالفاعلية حاصلة سلفاً، هذا الى جانب التظاهر بالموسوعية بينما الحقيقة هي الجهل بمعنى المنهج واللاأدرية بمقتضيات النقد العلمية. وغاية مطلب( الكتبة) البحث عن الرضا واستحصال الود ونيل الاعجاب وسماع المديح على الطريقة المعهودة في وسائل التواصل الاجتماعي.
أن تحول( أولوية) النقد الأدبي إلى (ثانوية) ستؤدي بمرور الزمان الى انحدار النقد الأدبي نحو هوة، قد تفقده أمر ثانويته أصلا، فيصبح بلا قيمة أو نفع. ولعل من بوادر تجلي ثانوية النقد الادبي ما صار الأدباء يتندرون به على هؤلاء الكتبة، مقتنصين من كتاباتهم كلمة هنا وعبارة هناك أو متصيدين أسطرا هنا وصفحات هناك، هازئين بها وهم يشخصون فيها أخطاءً أو يؤولونها بتفكه أو يعلقون عليها بسخرية لاذعة.
وسبب ذلك مرده إلى الابتعاد عن النقد وتأدية ما لا علاقة له به بل ممارسة دور موظف الاستعلامات والتشريفات. ولعل مراجعة بسيطة لما يكتبه هؤلاء سيضعنا أمام حقيقة هذا المسلك الذي به سيفارق النقد أغراضه الجمالية. وسيحل هؤلاء الكتبة محله كتاباتهم حيث لا تنظير ولا منهج، إنما هي تدبيجات من هنا وهناك مع كثير من الفذلكات والتنطعات والانشائيات الفارغة. وهذه بمجموعها صارت من كثرة ما نلحظه فيها ونرصده منها بمثابة ظواهر سلبية تكشف عن مدى استسهال الكتبة للنقد الادبي فما من إضافة ولا استزادة ولا تجديد، بل سخط وتنكيد.
هكذا نشأت لدينا طبقة من كتبة النقد تكبر يوما بعد يوم، مضرة بحالها كاشفة عن جهلها بالنقد غير ساعية الى تطوير نفسها بالإفادة من النقاد الفاعلين بل هي بالعكس تتوخى الحذر منهم.
إن ما نشهده من ممارسات في ما ينشر ورقيا أو الكترونيا على مواقع ومنصات ثقافية، يؤكد غلبة الانطباعية العاجلة التي ستؤدي الى تراجع دور الناقد الادبي مقابل صعود دور العرضحالي، لا يضع النقاط على الحروف ولا يعترف بطارئيته، ولا هو يغني نفسه بالقراءة فيتربى ذوقيا اكثر، بل هو يعتمد على الانطباع الذي به يداري على جهله. وبسبب ذلك كله صار العرضحالي أشبه بالتاجر يعرض بضاعة كاسدة بكل استسهال، متمنيا أماني العصافير أن يكون حقا ناقدا أدبيا.
وما من تجارة أردأ من المتاجرة بالقراء والمراهنة على جهلهم مع استغفال الواعين منهم والتعامل معهم وكأنهم بمستوى ذوقي واحد. وفي هذا تغدو الخسارة خسارتين، خسارة العرضحالي البائع لصدقه مع نفسه وخسارة القارئ المشتري. ومع الاثنين تكسد بضاعة النقد. إذ بتراكم العرض والعزوف عنه تنتفي أهمية النقد ولا تعود له أية وظيفة أريد منه أن يؤديها، وكأن القرائح جدبت والأذهان كلت، فأصيب النقد بعدوى ما في السياسة والاقتصاد من تدليس وفساد وانتهازيات. ولم يعد مطلوبا ممن هم( نقاد) سوى أن يكونوا (كتبة) يعرضون انطباعاتهم عرضاً انشائياً من دون ان يتعبوا أنفسهم. وليس مهما بعد ذلك التفكير في جدوى أن يكون في ما يقدمونه دفع لعجلة الحياة الادبية نحو الأمام.
إن استمرار هذا الحال سيفقد نقدنا الأدبي جديته وسيطيح بمنجزات، قدمها ويقدمها الوعاة من النقاد الذين فيهم امتداد للرعيل الرائد. ومن ثم يكون واجبا علينا التصدي لهم، وإلا فإننا لن نتفاجأ وقد فارق نقدنا فاعليته بوجود (كتبة) ينظرون إلى النقد على انه كتابة. ويعدون أنفسهم نقادا وهم لا أهلية لهم، ينفِّرون ويسفهون ويضيّقون ويوسّعون بحسب مشتهياتهم وما تميله عليهم أمزجتهم، يبحثون عن الصيت ويريدون الالتحاق بالكبار من دون تجشم عناء الرصد والمدارسة، إنما هو الاتكال بكثير من الكسل والاتباع على ما في تراكم واندرس وهُضم واجتُر، رافضين بعد ذلك كله أن يُوجه إليهم انتقاد أو تسدى إليهم نصيحة ما.