800 أغنية مع الأخوين رحبانى
3 تجارب سينمائية
نقلة إبداعية في المسرح الغنائي العربي
الشعراء هرعوا ليكتبوا لصوتها
يحتفل محبّو فيروز«جارة القمر» بدخولها عامها الـ 90، وهي كما وصفها الشاعر الراحل محمود درويش: «الأغنية التي تنسى دائماً أن تكبر، هي التي تجعل الصحراء أصغر، وتجعل القمر أكبر».
إنها فيروز الصوت الذي ربما لم تعلم صاحبته أنها تمتلك كنزاً، فلم تحلم يوماً في طفولتها، أو صباها أن تكون مطربة مشهورة، بل إن أكثر ما تمنته أن تصبح «معلمة» تسكب العلم في عقول تلاميذها، فتفسح بداخله مساحات للنور، غير أن القدر الذي يعرف سرها، أخذها للطريق الذي رسمه لها، منذ أبصرت نور الدنيا في الحادي والعشرين من نوفمبر في العام 1935، فأطلق عليها والداها «رزق وديع حداد وليزا البستاني»، اسم «نهاد».
نشأت «نهاد» في بيت والديها الفقير في «زقاق البلاط»، ورغم ما يحدثه أبناء الزقاق من «جلبة» وشقاوة، إلا أن والديها لم يكونا يشعران بوجودها في تلك الغرفة الضيقة، إلا عندما يصيح أحدهما عليها، وفى كل مرة كانا يجدانها في مكانها المفضل، تجلس فوق «بطنية» الشباك، وقد أخرجت رأسها الضئيلة خارج أسياخه الحديد، في هدوء واستكانة، مستسلمة لصوت «المذياع»، يأتي من عند الجيران، بصوت الموسيقار محمد عبد الوهاب يتهادى بواحد من أغنياته.
لم تكن نهاد قد بلغت عامها الخامس، عندما وقعت في غرام الموسيقى وطربت لها، كما عشقت تلك الأصوات الساحرة التي تصاحبها، «الست» أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، أسمهان، ليلى مراد، وغيرهم من مطربين ومطربات زمانها، فلم يكن يجذبها لعب أو لهو أقرانها، بقدر ما يجذبها أن يأتي صوت أحدهم أو إحداهن عبر المذياع، حيث تقف تستمع إلى الغناء، فيما هي تقوم بمتطلبات البيت، فضلاً عن الاعتناء بأختيها هدى وآمال، وأخيها جوزيف، كونها الأكبر سناً.
إلى جانب الموسيقى والغناء، أصبحت نهاد شغوفة بالزهور، تمضي الكثير من وقتها في جمعها لدرجة أن أمها اعتادت على مضايقتها بفكرة أنها ستزوجها من «بستاني»، فيعمل الخجل على احمرار وجهها، وتؤكد بإصرار أنها لن تتزوج، فقد كانت تخجل حتى من الأصدقاء، غير إنها في الوقت نفسه كانت جادة، ومسؤولة في تعاملها، إلا أن المرات الوحيدة التي كانت تتغلب فيها على خجلها، خلال تجمعات الأصدقاء عندما يطلبون منها أن تغني، بعد أن اكتشفوا جمال صوتها منذ أيامها المبكرة.
نهاد... والست
لم يكن هناك يوم في حياة الطفلة «نهاد»، أسعد من الخميس الأول من كل شهر، الذي تجلس فيه إلى جوار الكبار، وتستعد مثلهم في هدوء، للاستماع إلى صوت «الست أم كلثوم» في حفلها الشهري، والذي ما إن ينتهى، حتى تختلى بنفسها، وتكرر ما سمعته من غناء بصوتها، غير أن ذلك لم يلفت نظر والديها، أو أياً من المقربين منها، بل لفت نظر «محمد فليفل» أحد «الأخوين فليفل» اللذين قاما بوضع ألحان النشيد الوطني السوري، وهو في الوقت نفسه المشرف على النشاط الموسيقى بالمدرسة التي التحقت بها نهاد، فانتبه إليها تسير بمفردها في فناء المدرسة تردد مقطعاً من أغنية «سلوا قلبي» التي استمعت إليها في حفل أم كلثوم الأخير، وما إن سمع فليفل إلى المقطع بصوت نهاد، حتى خر على ركبتيه أمامها، منبهراً بصوتها غير مصدق ما سمعه من صوت ساحر، فتعهدها بالرعاية لتكون هي «قنبلة» الحفل المدرسي السنوي، الذي سيقدمه في نهاية العام الدراسي 1946، ليقف يوم الحفل معلنا عن اكتشافه الجديد الذي سيغير وجه الغناء، ليس في بيروت وحدها، أو لبنان وبلاد الشام، بل في الوطن العربي كله.
بعدها التحقت نهاد بالمعهد الوطني للموسيقى، الذي يرأسه وديع صبرة، مؤلف الأناشيد الوطنية اللبنانية، والذي رفض تقاضى أية مصروفات منها بعد أن سمع صوتها، لتبدأ تعلم أصول الغناء وقراءة النوتة الموسيقية على يد «فليفل»، لتتجلى موهبتها الغنائية وتبدي تميزاً واضحاً في سرعة التقاطها للألحان الموسيقية وجودة تأديتها، فكافأها فليفل بضمها إلى فرقة «الأخوين فليفل»، في فبراير من العام 1950، ليقدمها بعدها إلى لجنة الاستماع بالإذاعة اللبنانية، لإجازتها كمطربة معتمدة، والتي تألفت من حليم الرومي - والد المطربة ماجدة الرومي - رئيس القسم الموسيقى بالإذاعة، وميشال خياط، ونقولا المني، وخالد أبو النصر، وآخرين.
بمصاحبة عود حليم الرومي، غنت «يا ديرتي» لأسمهان، فأدهشت اللجنة، وذهل الرومي بصوتها، وبعدها غنت «يا زهرة في خيالي» لفريد الأطرش، وما إن انتهت حتى أخذها الرومي من يدها ويجرى بها إلى مكتب مدير الإذاعة فائز مكرم، وعرض عليه أن تغنى نهاد في «كورس الإذاعة»، فوافق على الفور مقابل أجر شهري قدره 100 ليرة.
تعهد حليم الرومي صوت نهاد، وأولى عنايته بمخارج الحروف والكلمات حيث اتضح له أن هذه الناحية لديها بحاجة ماسة إلى الصقل، فحرص على أن تتقن تجويد القرآن الكريم، وما إن تأكد من أنها أصبحت مهيأة لمواجهة الجمهور، عهد إلى الشاعر ميشيل عوض، بكتابة أغنية خاصة بها، فكتب «تركت قلبي وطاوعت حبك»، لتكون الأغنية الأولى التي حفظتها كمطربة خارج نطاق الأناشيد المدرسية، وأغاني الكورس، ويقرر بعدها اختيار اسم فني يليق بجوهرته الجديدة، فاختار لها اسم «فيروز».
في مطلع إبريل 1950 استمع الجمهور اللبناني إلى «فيروز» في أول أغنية لها من ألحان حليم الرومي «تركت قلبي وطاوعت حبك»، ثم أتبعها بأغنية «في جو سحر وجمال»، وما إن اطمأن إلى نجاح «فيروز» بشكل غير مسبوق، قرر أن يقف إلى جوار ابنة الخامسة عشرة أمام ميكروفون الإذاعة، ليغنيا معاً في «دويتو» من ألحانه «عاش الورد»، فحققت نجاحاً مدوياً، فاتبعها بأغنيتين الأولى «يا حمام»، والثانية باللهجة المصرية «أحبك مهما أشوف منك» وقد سجلتا على أسطوانات تجارية لشركة «بيضافون» في العام 1952، وتلا ذلك الكثير من الأغنيات الشعبية والخفيفة والراقصة، والقصائد الطربية، قام بتلحينها جميعاً حليم الرومي، غير أنه شعر بأهمية تنوع الأذواق والأشكال اللحنية التي لابد أن تقدمها فيروز، حتى لا يقيدها في مدار لحنى واحد، فكلف عدداً من ملحني الإذاعة بالتلحين لها، لتبدأ رحلة «فيروز» كمطربة لبنانية لها اسمها، ولم تكن بلغت الثامنة عشرة من عمرها.
زهرة المدائن والرحبانية
رغم التحاق عاصي الرحباني بوظيفة أمين سر شرطة بلدية «انطناس» وشقيقه منصور في «درك» البلدة، إلا أنهما عشقا الموسيقى والمسرح، فكانا حريصين على أن يقدما بعض الأنشطة المسرحية من خلال النادي الثقافي الرياضي بالبلدة، غير أنهما لم يقتنعا بهذا المصير، فحاولا الالتحاق بالإذاعة اللبنانية، لكنهما لم ينجحا في ذلك، فقررا الاستعانة بشقيقتهما «سلوى» لتأدية أغانيهما، وأطلقا عليها اسم «نجوى»، فوصلت أغانيهما إلى مسامع صبري الشريف رئيس قسم الموسيقى في «إذاعة الشرق الأدنى»، فاتصل بهما ودعاهما للتعاون معه في تقديم أغاني البرامج الترفيهية، فكانت ألحانهما في إذاعة الشرق الأدنى، طريقهما لدخول الإذاعة اللبنانية، كملحنين مبتدئين، فلمس حليم الرومي في ألحان عاصي الرحباني روحاً موسيقية مختلفة عن السائد، فقرر أن يكلفه بالتلحين لاكتشافه الجديد «فيروز»، بعد أن لحن هو لها وآخرون، منهم: مدحت عاصم وسليم الحلو ومحمد محسن، وغيرهم.
بدأ عاصي يتابع فيروز عن قرب، وسرعان ما اكتشف في صوتها تلك المناطق المجهولة التي لم تكن خرجت بعد، خاصة أن خامة صوتها الحديثة والمختلفة عن مغنيات تلك الحقبة، تطابق تماماً اتجاهه الجديد في الموسيقى، فوضع أول لحن لها بعنوان «غروب»، ثم أتبعه بأغنية «ماروشكا»، وبعدهما قدمها في أغنيتين حظيتا بنجاح كبير، هما «عتاب»، و«راجعة»، قبل أن يضع لها شقيقه منصور اللحن الخامس، لتبدأ رحلة «مثلث النجاح».
كان الاختلاف الرحباني مع فيروز على مستويات عدة، بداية من قصر زمن الأغنية، بحيث لا تتعدى دقائق معدودة، إضافة إلى الكلمات المشبعة بفولكلور تلك البيئة بمستوياتها الاجتماعية المختلفة، مروراً بلحنها الخفيف، الذي هو عبارة عن مزج عجيب لمصادر موسيقية متباينة، أضاف لها لهجة الأداء بالعامية اللبنانية، ينطق بها صوت ساحر بطبقات خافتة عذبة باعثة على الأمل، سرعان ما تألفه الأذن، ليقرر بعدها عاصي الارتباط بفيروز بشكل إنساني بعد الارتباط الفني، بعد أن ولدت بينهما قصة حب على أنغام الموسيقى، ليتم زواجهما في مساء الأحد السادس عشر من يناير سنة 1955، ليشكلا نواة لظاهرة فنية لم تتكرر إلى الآن.
بعد أسابيع قليلة من الزواج، أرسلت إذاعة صوت العرب التي تنطلق من القاهرة، الإذاعي أحمد سعيد، ليتفق مع الثلاثي فيروز وعاصي ومنصور، على الغناء في الإذاعة المصرية، فشعر فيروز وعاصي، كأنما «القاهرة» ترسل لهما بهدية الزواج، وجاءا إلى مصر، وغنت فيروز، بل وشكلت ثنائياً غنائياً مع المطرب صاحب الصوت القوي «كارم محمود»، ثم غنت أهم أعمالها في هذه الفترة، قصيدة «راجعون»، ليعودا بعدها إلى بيروت وتنجب فيروز ثمرة حبهما الأولى «زياد الرحباني» في العام 1956، الذي كان ميلاده باعثاً لأمل جديد وعهد جديد، في حياة الثلاثي، سواء على المستوى الإنساني، أو على المستوى الفني.
في العام 1957 عاد الأخوان إلى المسرح الذي كان حلمهما الطفولي في «نادي انطلياس»، فأقاما أولى الليالي اللبنانية على «مدرج جوبيتر» في «بعلبك» مع صوت فيروز الذي بعث في المعبد مسحته الإلهية، وبعد خمس سنوات، ومن بعلبك أيضا انطلق صوت فيروز يدوي في أرجاء المعبد، من خلال أوبريت «جسر القمر» الذي ترجمت مقاطعه إلى خمس لغات هي: الفرنسية، الإنجليزية، الألمانية، الإسبانية والروسية، ليكتب عنها الناقد الفرنسي ادمون روستان قائلاً: «أصبح للشرق عمل فني يقدم على مسارح باريس وفيينا ونيويورك».
استمر الأخوان رحباني في التجديد، فألّفا الموشح والقصيدة بنبرات جديدة مع الاحتفاظ بالطابع القديم، كما أعادا إلى الحاضر الموشحات القديمة بألوان جديدة، فأخذا من الماضي ومزجاه بواقعهما المتجدد، فولدا منه إنتاجاً أضفى عليه صوت فيروز واقعاً جديداً، وقدموا معاً الأغاني الفولكلورية بإطار جديد وتوسع موسيقي، ثم وزع الأخوان الأنغام الشرقية ذات الأرباع الصوتية مثل «السيكا، والبيات»، حيث كانت الفكرة السائدة قبلهما أن هذه الأنغام لا توزع، فألّفا قطعاً على أصوات عديدة للجوقة، وكذلك للأوركسترا، حتى استطاعا بلورة الشخصية الموسيقية اللبنانية، أما على المستوى المحلي فقد أضحى للأخوين مدرسة ذات طابع مميز، بدا التأثر بها يظهر في مختلف الأعمال الغنائية، سواء كانت حوارات مسرحية، أو أغاني مستقلة، حيث وضع الأخوان تسع عشرة مسرحية غنائية، من تأليفهما وتلحينهما، وبصوت وتمثيل الساحرة فيروز، ليصنع الثلاثي مملكة من الجمال، بعد أن ترك عاصي نفسه تذوب في فيروز، وارتضت هي أن تكون له قيادة السفينة، إلى أن رحل عاصي في 21 يونيو عام 1986، لتخوض فيروز بعده تجارب عديدة مع مجموعة من الملحنين والمؤلفين، ربما أبرزهم فليمون وهبة وزكي ناصف، وغيرهما، غير أن المرحلة الأهم في حياتها الفنية، والتي تضعها فيروز في مقابلة مع مرحلة الأخوين «عاصي ومنصور»، كانت مرحلة الابن «زياد الرحباني»، الذي شرب من نبع والديه، فقدم لها مجموعة كبيرة من الأغاني أبرزت قدرات لديها، ربما لم تكن فيروز تعرف عنها شيئاً، من خلال خلقه نمطاً موسيقياً خاصاً به استقاه من الموسيقى اللبنانية والعربية والشرقية، إضافة إلى الموسيقى الغربية.
الشاشة الكبيرة
رغم ضخامة الإنتاج الغنائي والمسرحي لفيروز والرحبانية، إلا أن هذه المؤسسة الفنية لم تقدم لفيروز سوى ثلاثة أفلام سينمائية فقط، كان دورها تكريس نجومية فيروز في السينما«الشاشة الكبيرة»، إلى جانب النجاحات التي حققتها في المسرح، لذا لم تكن سينماهما بعيدة عن أعمالهما المسرحية، فالأفلام الثلاثة التي قدمها الرحبانية، كانت مأخوذة من أعمالهما المسرحية، التي غالباً ما استحضرا شخصياتها وعلاقاتها وأدوارها، من عالمهما الخاص، سواء من الضيعة، أو القرية، أو حتى لبنان بشكل عام، حيث حرص الأخوين دائماً على تقديم فيروز في شكل بطلة الأساطير والحكايات الشعبية الشهيرة «ساندريون»، التي تساعدها «الجنية الطبية» وانتشالها من معاناتها، ومن بين الأعمال التي تدور في هذا الإطار، قدمت الفرقة في العام 1964، من تأليف الأخوين رحبانى، مسرحية «بياع الخواتم»، وحققت نجاحاً كبيراً، وتصادف زيارة المخرج الكبير يوسف شاهين، لبيروت في هذا العام، وشاهد المسرحية، وأعجب بها، فعرض عليهم تحويل المسرحية إلى فيلم سينمائي، وعهد بكتابة سيناريو وحوار الفيلم إلى السيناريست شريف صبري، فيما قام يوسف شاهين بكتابة المعالجة السينمائية والإخراج، ويتم إنتاجه في العام التالي لظهور المسرحية 1965، وقامت ببطولته فيروز، وشاركتها شقيقتها هدى حداد، والفنان نصري شمس الدين، وعدد كبير من أبطال فرقة الرحبانية.
نجاح الفيلم شجع الرحبانية على تكرار التجربة، فقدموا في العام 1967، فيلم «سفر برلك» تأليف الأخوين رحبانى، سيناريو وحوار كامل التلمساني، وإخراج هنري بركات، وشارك في بطولته أمام فيروز زوجها عاصي الرحباني، أما التجربة الثالثة والأخيرة فكانت فيلم «بنت الحارس»، وهو مأخوذ عن مسرحية قدمها الأخوان، فكتبه الأخوان عاصي ومنصور، وأخرجه هنري بركات أيضاً، وشارك في بطولته إلياس رزق، صلاح تبزاني، رفيق سبيعي، سمير شمص، أحمد خليقة، ليلى كرم، على دياب، مارسيس مارينا، ليز سركسيان، ونصري شمس الدين، وجوليا ضو.
خصوصية المسرح
لم يأت مسرح فيروز والرحبانية صدفة، بل نتيجة وامتداداً طبيعياً لكل من أسهم وألهم في بناء المسرح الغنائي العربي، ليس لأنه كان نقلة إبداعية من فن واحد إلى جملة من الفنون، جمعت ما بين الأدب والتمثيل والغناء والرقص والموسيقى والديكور والإخراج، بل لأنه أراد أن يقدم للناس مسرحاً ينقل همومهم ويدافع عن الحرية المسلوبة والقيم الإنسانية المهدرة، حيث اعتمد مسرح الرحبانية منذ ظهور نهاية خمسينيات القرن الماضي، على شخصيات مثالية تبحث عن النقاء وتؤمن بالمثل العليا سلوكاً وممارسة، لكن ذلك لم ينفصل بحال من الأحوال عن رؤية الجوانب السلبية في مجتمع ليس هو مدينة فاضلة، وهو ما أكده الرحبانية في أعمالهم مثل «بنت الحارس»، أو «بياع الخواتم»، كما ناقشوا في مسرحية «جبال الصوان» معنى مقاومة الطغيان من الداخل، وفى مسرحية «الشخص» بلغ النقد السياسي أوجه في كشف مظاهر الفساد وانتهاك حقوق الفقراء، وفى عملهم «يعيش... يعيش» الذي قدم مطلع سبعينيات القرن الماضي كشفوا من خلاله ألاعيب الانقلابات السياسية في الوطن العربي، كذلك مسرحية «جسر القمر»، وفى كل هذه الأعمال ألح الرحبانية على فكرة الحرية، دون الاتكاء على خطاب سياسي أو شعارات تحريضية، كما لم تنقطع علاقتهم بالقضية الفلسطينية منذ بداية الفرقة، عندما قدموا مسرحية «راجعون» التي سجلت في صوت العرب بالقاهرة عام 1955، بعدها قدموا أحد عشر عملاً عن القضية الفلسطينية والقدس، عبروا فيها عن مفردات شتى واختزلوا فيها صوراً ووقائع وأحداثاً بطريقة مجددة أهمها التشرد واللجوء وحلم العودة.
مبدعون في ركاب الجوهرة
في الوقت الذي وجدت فيه موهبة فيروز نفسها مع أشعار وموسيقى الأخوين رحباني، وخلالهما وبعدهما زياد رحباني، إلا أن معظم الشعراء العرب المبدعين هرعوا ليكتبوا لصوتها بعد انتهاء مرحلة الرحبانية، فكتب لها عمر أبو ريشة، قبلان مكرزل، نزار قباني، ميشيل طراد، سعيد عقل، بدوي الجبل، الأخطل الصغير، أبو سلمى، أسعد سابا، جوزيف حرب، طلال حيدر وشعراء آخرون معاصرون، كما غنت أيضاً أعمالاً لجبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، إلياس أبو شبكة، هارون رشيد، وبولس سلامة، كما هو الحال بالنسبة لشعراء عرب من العصور القديمة مثل ابن دريق البغدادي، وابن جبير، كما اتسعت قائمة من لحنوا لفيروز لتضم، حليم الرومي، أول من لحن لها، توفيق الباشا، خالد أبو النصر، جورج ضاهر، نجيب حنكش، محمد عبد الوهاب، محمد محسن، إلياس الرحباني، زكي ناصيف، وفليمون وهبة، الذي يعد من أبرز من لحن لها بعيداً عن الأخوين رحباني، حيث تميزت ألحانه بروحها الشرقية الواضحة.
وعلى الرغم من قلة عدد القصائد التي غنتها فيروز نسبة إلى إجمالي أغانيها، إلاّ أن القصائد تعتبر من أجمل أغانيها، مثل «خذنى بعينيك، الآن الآن وليس غداً، تناثري، سكن الليل، زهرة المدائن، أناجيك في سر، أعطني الناي وغنى، أحب من الأسماء، ولما بدا يتثنى».
أثمر التعاون بين فيروز والأخوين رحبانى لمدة عقدين ونصف من الزمن عن ثروة إبداعية لم يسبق لها مثيل في العالم العربي، فقدموا معاً 800 أغنية، قدمت الكثير منها في مسرحياتها الغنائية، وأفلامها الثلاثة، وبضعة اسكتشات موسيقية، فضلاً عن الحفلات غير المعدودة، والجولات الإقليمية، والظهور المتعدد على امتداد الوطن العربي والعالم، ليخاطب صوت فيروز، قلب وعقل كل إنسان عربي، فغنت للبلدان، للمدن والشعوب، للحب، للفرح والحزن والأمل والتفاؤل، غنت للشعب الفلسطيني ولقضيته، غنت للأمهات في الأرض، غنت للسماء والنجوم والقمر، للأطفال، للأب والأم، للأخ والأخت، للبنت والابن، غنت لقلبها ولوطنها الحبيب لبنان، حيث قررت خلال الحرب الأهلية اللبنانية البقاء في بيروت على الرغم من أنها كانت تملك المقدرة المادية لتعيش في أفخم الأماكن في أي بلد بالعالم، لكنها لم تغادر بلدها، حتى بعد إصابة بيتها بصاروخ، وهو الموقف الذي تعيشه اليوم، وهي على مشارف التسعين من عمرها، برفضها مغادرة بيتها، رغم الاعتداء الإسرائيلي السافر على الجنوب اللبناني!