يدخل سنوياً نحو مليون طالب جديد إلى المدارس في العراق.. فهل توفر الحكومة المباني المدرسية لهؤلاء؟ وهل يمكنهم الجلوس في صفوف لا يتلاصقون فيها؟ وهل يمكن للمعلم التعامل مع أكثر من 40 طالباً في كل صف؟
في 23 تشرين الثاني الماضي، وهو يفتتح من مكتبه في المنطقة الخضراء 790 مدرسة جديدة ضمن الاتفاقية الصينية لإنشاء ألف مبنى مدرسي، قال محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء، إن هذه المدارس ستسهم في معالجة مشكلة الاكتظاظ في الصفوف، والدوام الثلاثي للطلاب.
حاول السوداني أن يكون أكثر واقعية عندما اقتصر حديثه على “إسهام” هذه المدارس في القضاء على الدوام الثلاثي فقط، ولم يأتِ حديثه إلى إمكانية القضاء على الدوام الثنائي ومشكلات الاكتظاظ وغيرها.
آثار الاكتظاظ تتسرَّب إلى المنازل
يقصد بالدوام الثنائي والثلاثي في العراق، هو تعاقب مدرستين أو ثلاث مدارس، بكل طلابها وكادرها وإدارتها، على استخدام بناية واحدة مقسمة على ساعات النهار. أما الاكتظاظ، فهو تزايد أعداد الطلاب في الصف الواحد، حتى لو كان الدوام في المبنى المدرسي أحادياً، ولا تتشارك المبنى أكثر من مدرسة.
وتسببت هذه الظواهر بآثار سلبيّة واضحة على العملية التربوية والتعليمية في العراق طوال السنوات الماضية، فالاكتظاظ يزيد من الضغط النفسي على المعلمين والمدرسين وبالتالي ينعكس على أدائهم التعليمي، وحتى سلوكهم التربوي الذي تعكسه بشكل واضح حالات التعنيف والعنف المضاد بين الكوادر التربوية وتلاميذهم، وعائلات الطلبة مع الكوادر من جهة أخرى.
والدوام الثنائي والثلاثي يتسبب بضياع الوقت وعشوائية ترتيب أوضاع الأسرة وتوقيتات أداء الواجبات المختلفة، الأمر الذي يخرج أزمتي الاكتظاظ والدوام المزدوج من حدود المدارس، ويجعلها تتسرّب إلى المنازل بصورٍ مختلفة.
40 بالمئة من المدارس “مهجّرة”
منتصف عام 2022، بلغ عدد الأبنية المدرسية في العراق 16 ألفاً و600 مدرسة، أما عدد المدارس المسجلة،والعاملة بالفعل، فيبلغ 26 ألف مدرسة، أعلن هذه الإحصائية علي الدليمي، وزير التربية حينها.
وفق الأرقام التي أوردها الوزير، يبلغ عدد النقص الآني في الأبنية المدرسية 9400 مبنى على الأقل، أي أن هناك حوالي 10 آلاف مدرسة عبارة عن “اسم فقط” خاصاً بها، والحال هذا يشمل نحو 40 بالمئة من إجمالي المدارس في العراق، وهي إحصاءات يؤكدها الجهاز المركزي للإحصاء.
أبنية غير كافية
لا تُوفِّر مؤسسات الدولة في العراق إحصائيات وبيانات مُحدّثة، ولذلك، لا يُعرف على وجه التحديد عدد المدارس الجديدة في عام 2022 كانت هناك أصلاً مبان تم افتتاحها. لكن في نهاية عام 2023، أعلن المتحدث باسم وزارة التربية إنجاز 1460 مؤسسة تربوية، تنوعت بين افتتاح جديد وترميم وتأهيل، فيما ذكر أن أكثر من ألف مدرسة أنجزت ضمن خطة الترميم.
هذا يعني أن عام 2023 الذي وصفته الحكومة ووزارة التربية بـ”عام الأبنية المدرسية”، افتتح نحو 460 مدرسة جديدة فقط، وأن 2022 لم يشهد في أحسن الأحوال، افتتاح نصف هذا العدد من المدارس.
وبافتراض افتتاح 600 مدرسة خلال 2022 و2023، مع ما افتتحه السوداني مؤخراً والبالغة 790 مدرسة، ومن المؤمل افتتاح 210 مدارس حتى نهاية العام الحالي، سيكون العراق قد أنجز أكثر من 1600 مبنى مدرسي خلال 3 أعوام في واحدة من مراحل “الهبة” التي جاءت مقترنة بالاتفاقية الصينية، إذ أن بناء هذا العدد من المدارس ليس سياقاً ثابتاً في سير عمل الحكومات المتعاقبة أو في أدبيات الدولة وخططها.
ولا يمثل عدد الأبنية المدرسية المُفتتحة خلال 3 أعوام سوى 10 بالمئة من العجز بالمدارس.
مدارس جديدة.. والعجز ينمو!
في الحقيقة، يبلغ العجز بعدد المدارس اليوم أكبر مما كان عليه قبل 3 أعوام، فإذا كان في 2022 يبلغ نحو 10 آلاف مدرسة، وانخفض إلى حوالي 8 آلاف مدرسة بسبب ما تم افتتاحه من مدارس منذ 2022 وحتى الآن، فقد تنامى الطلب وارتفع العجز إلى أكثر من 5 آلاف مدرسة إضافية، ليكون العجز الكلي اليوم نحو 13 ألف مدرسة وبارتفاع بنسبة 30 بالمئة.
طلاب كثر وجدد
يبلغ عدد طلاب المدارس الابتدائية والثانوية في العراق نحو 13 مليون طالب، يتوزعون على حوالي 28 ألف مدرسة، ما يعني أن كل مدرسة تضم، بالمتوسط، نحو 450 طالباً، وهي حالة غير صحية وتعد اكتظاظاً.
والاكتظاظ واحد من مطبات رحلة التلميذ العراقي في التعليم وبيئته الصعبة، فقلة أعداد المدارس تجعل الكثير من التلاميذ الذين يعيشون في بعض القرى يحتاجون إلى قطع كيلومترات للالتحاق بمدارس في مناطق أخرى.
وإذا حالف التلميذ العراقي الحظ، وولد في منطقة تحتوي على مدرسة ربما تكون على الجانب الآخر من الشارع، سيكون معرضاً للموت والدهس بسبب سوء التخطيط وتجاهل التحذيرات المستمرة، كما حصل في البصرة في نيسان 2024، عندما قتلت وأصابت شاحنة مسرعة قرابة 20 طفلاً أثناء عبورهم الشارع، بسبب عدم بناء البلدية مجسرات عبور أمام المدرسة.
وإذا وصل التلميذ العراقي بسلام إلى مدرسته، سيجد الصف مهلهلاً، والحمامات غير صالحة للاستخدام، والمياه مقطوعة أو غير صالحة للشرب، إذ تقدر اليونسكو في مسح أجرته عام 2021، أن أقل من نصف المدارس في العراق فقط تصلها إمدادات المياه الصالحة.
بالمتوسط يدرس 450 طالباً في كل مدرسة، وبدخول مليون طالب سنوياً إلى الصف الأول الابتدائي، فهذا يعني أن العراق سيكون بحاجة إلى أكثر من ألفي مدرسة سنوياً، وهذا يعني أيضاً ارتفاع العجز بشكل مستمر.
وبينما أنجز العراق 1600 مدرسة خلال ثلاثة أعوام، فإن الحاجة الفعلية تبلغ إنجاز ألفي مدرسة كل عام.
وتقول وزارة التخطيط إن عدد المدارس المنجزة وقيد الإنجاز يبلغ حوالي سبعة آلاف مدرسة، وهذه من ضمنها المدارس الصينية الألف، فضلاً عن أكثر من 1470 مدرسة تابعة لمشروع وزارة التربية رقم 1؛ تشرح هذه الأرقام أن خلال العامين المقبلين ربما لن يشهدا إضافة أكثر من ألفي مدرسة جديدة من المدارس قيد الإنجاز، بينما سيكون العجز قد ارتفع لمستويات جديدة.
60 بالمئة اكتظاظ
حتى مع افتراض بناء 10 آلاف مدرسة جديدة بغضون عام، فإن أزمة الاكتظاظ في المدارس ستظّل قائمة، وتقدّر نقابة المعلمين حاجة العراق إلى 20 الف مدرسة للقضاء على تزاحم الطلبة في الصفوف المدرسية.
فوفق معايير اليونسكو، يتم احتساب الطلاب بمتوسط 25 طالباً لكل معلم كقاعدة أساس، إلا أن صفوف المدارس العراقية تضم ما بين 45 و50 طالباً، أي أن نسبة الاكتظاظ في العراق تبلغ 60 بالمئة.
تضع هذه المؤشرات العراق بالمرتبة 127 من أصل 177 دولة في مؤشر جودة التعليم العالمي، الأمر الذي يجعله ضمن بلدان الثلث الثالث والأخير في جودة التعليم.
تنامي الأزمات والنقص والعجز ظاهرة شائعة في معظم الملفات والأزمات العراقية، وعلى رأسها ملف الكهرباء، وهي ما تجعل الوعود بحلها أشبه ما يكون بـ”النكتة” لدى العراقيين بعد سنوات من النكبات والخيبات المستمرة. فإعلان حجم العجز في ملف ما سواء في المدارس أو الكهرباء أو الغاز، وإسقاط ما ستوفره المشاريع المعمول عليها على نسبة العجز هذه ثم الاعتقاد بأنه سيتم سد العجز والتبشير بذلك، يتناسى غالباً حجم الطلب المستقبلي الذي سيرتفع.
ففترة إنجاز المشاريع التي قد تستغرق ثلاثة أو خمسة أعوام، ستكون كافية لسد العجز المسجل قبل خمسة أعوام، لكن خلال الأعوام الخمسة سيكون هناك طلب جديد متراكم، سيتحول إلى عجز جديد، فلا استراتيجية ولا خطط واضحة تلبي العجز، وتكبح الطلب.