تفتقر غالبية المدارس الحكومية في العراق، وخاصة في القرى والارياف، إلى مرافق صحية صالحة للاستخدام، ما يضطر الطلبة والتلاميذ إلى اللجوء للمنازل المجاورة لقضاء حاجتهم. هذه المعاناة اليومية لا تتوقف عند حدود الإحراج أو عدم الراحة؛ بل تتسبب في أمراض خطيرة مثل التهابات المجاري البولية ومشاكل صحية مزمنة قد تلازمهم مدى الحياة.
وخضعت فاطمة، الطفلة ذات الثماني سنوات من الناصرية، لفحوصات طبية استمرت أيامًا بسبب آلام حادة في أسفل البطن، ليتبين لاحقًا أنها تعاني من التهاب حاد في المجاري البولية، مع احتمال إصابتها بفشل كلوي، نتيجة احتباس البول لفترات طويلة.
فاطمة ليست حالة فردية، بل تمثل حالتها جزءا من أزمة صحية، تهدد آلاف الطلبة في المدارس التي تفتقر إلى أبسط مقومات البيئة الصحية. هذا ما قالته التدريسية سميرة خضير.
وذكرت، ان "الحديث عن المرافق الصحية هو مجرد بداية، فالأزمة التعليمية تشمل نقص المدارس، وتردي المناهج، وغياب التدريب الكافي للمعلمين" مردفة ان هذه "المشكلة تتفاقم في المدارس التي تعمل بدوامات متعددة، حيث يؤدي الضغط الكبير على المرافق الصحية إلى انعدام النظافة وعدم القدرة على استيعاب حاجة جميع الطلبة والتلاميذ. فالفتيات في سن البلوغ يعانين بشكل خاص، حيث يدفعهن الوضع الصحي المتدهور للتغيب عن الدراسة".
وأشارت إلى أن هذه الظروف غير الإنسانية تنعكس مباشرة على صحة الطلبة والتلاميذ، حيث يتعرض الذكور لمشاكل مثل الإصابة بالتهابات الجهاز البولي. ومع ذلك، فإن الفقر وارتفاع تكاليف المعيشة يمنع الكثير من الأسر من التعامل مع هذه المشكلات الصحية بجدية، ما يؤدي إلى تفاقمها.
وتضيف: "للأسف، التعليم في العراق لم يعد ضمن الأولويات، ولا توجد خطط وطنية واضحة لتحسين البنية التحتية للمدارس".
وترى سميرة أن "الظروف السياسية والاقتصادية المتدهورة في البلاد زادت من تعقيد الوضع، ما أدى إلى ابتعاد الحكومة عن بناء المدارس وتجهيزها بالخدمات الأساسية".
وفي الوقت الذي تعاني فيه مدرسنا من تردي الخدمات، توفر المدارس الأهلية بدائل أفضل تشمل مرافق صحية ملائمة وبنية تحتية متطورة. لكن هذه المدارس تبقى بعيدة المنال بالنسبة لمعظم العائلات بسبب ارتفاع رسومها، التي لا تتناسب مع الأوضاع المعيشية في البصرة وغيرها من المحافظات.
القرى والأرياف منسية!
المشرف التربوي حيدر كاظم، أشار إلى أن "هناك تقصيرًا واضحًا في متابعة ورعاية الصحة المدرسية، وهو ما يزيد من التحديات التي تواجه الواقع التربوي في البلاد".
وأوضح، أن "المدارس تعاني بالفعل من مشكلات متعددة، منها تدهور البنى التحتية، النقص الحاد في الكوادر التربوية، قلة عدد المدارس، وارتفاع الكثافة الطلابية داخل الصفوف. إلا أن الجانب الصحي، الذي يُعد أساسيًا لضمان بيئة تعليمية آمنة، يشهد إهمالًا كبيرًا في معظم المناطق، لا سيما في القرى والأرياف ذات الكثافة السكانية العالية".
وأضاف كاظم لـ "طريق الشعب"، أن "السنوات الأخيرة شهدت انتشار أوبئة وأمراض معدية خطيرة، مثل جدري الماء وفيروس كورونا، الامر الذي يفتك بصحة الطلبة والتلاميذ في ظل غياب الرعاية الصحية الكافية في المدارس. وبرغم المناشدات المستمرة من وزارة التربية والمديريات المعنية لتقديم خدمات صحية أفضل، إلا أن الاستجابة من الجهات المعنية لا تزال ضعيفة، باستثناء بعض المبادرات المحدودة مثل فحص الأسنان والنظر".
وأكد كاظم "ضرورة مكافحة الأوبئة الانتقالية والفيروسات القاتلة من خلال تعزيز التوعية الصحية داخل المدارس وتقديم الإرشادات اللازمة لتجنب انتقال الأمراض بين الطلاب". كما دعا إلى تشكيل لجان مشتركة بين وزارتي التربية والصحة لضمان متابعة الخدمات الصحية المقدمة في المدارس بشكل أفضل، ولتوفير بيئة تعليمية صحية وآمنة لجميع الطلبة والتلاميذ.
الإدارات عاجزة عن ترميم المدارس
تقول الناشطة التربوية هناء جبار شهيد أن "غالبية المدارس تعاني من نقص حاد في الخدمات الأساسية".
وقالت لـ "طريق الشعب"، أن "المجموعات الصحية في أغلب المدارس إما تحتاج إلى ترميم شامل أو أنها في حالة متردية للغاية، ما يجعلها غير صالحة للاستخدام".
وأضافت، أن "العديد من هذه المرافق تفتقر إلى أساسيات النظافة، مثل الماء والصابون، وحتى النظافة العامة التي تتوفر فقط في عدد قليل من المدارس التي تتمتع باهتمام أكبر. بينما في معظم المدارس، خصوصاً في المناطق الريفية والقرى، تكون المرافق الصحية في حالة سيئة للغاية، لدرجة أنها قد تكون غير آمنة للأطفال بسبب تدهور البنية التحتية وانتشار النباتات العشوائية في محيطها".
وأكدت، أن "المدارس التي شملتها مشاريع الإعمار والبناء الحديث قد تحسنت أوضاعها، لكنها تظل استثناءً. أما المدارس التي لم تشملها هذه المشاريع، فما زالت تعاني من ظروف متردية".
وسلطت المتحدثة الضوء على نقص التمويل اللازم لترميم هذه المرافق، موضحة أن المبالغ التي تُصرف على هذا الجانب لا تكفي لتغطية تأهيل المجموعات الصحية بشكل كامل. وأكدت أن هذا النقص يترك إدارات المدارس عاجزة عن تحسين الأوضاع، مما يؤدي إلى استمرار معاناة الطلبة والتلاميذ وأثرها السلبي على صحتهم وسلامتهم.
وختمت جبار بالدعوة إلى لتحسين المرافق الصحية في المدارس، خاصة في المناطق المحرومة، مشددة على أهمية ذلك لضمان بيئة تعليمية آمنة وصحية للأطفال.
غياب الاسعافات الأولية
نمارق جواد، طبيبة وناشطة في المجال الصحي من محافظة النجف، عبرت عن قلقها العميق بشأن غياب غرف الإسعافات الأولية والوقاية الصحية في المدارس والجامعات، خاصة في العراق.
وقالت جواد لـ "طريق الشعب"، أن "توفير الإسعافات الأولية جزء لا يتجزأ من أي مؤسسة تعليمية، حيث تلعب دورًا حيويًا في الحفاظ على صحة وسلامة الطلبة والتلاميذ والموظفين. للأسف، العديد من المدارس والجامعات تفتقر لهذه المرافق الأساسية، وتواجه تحديات عديدة".
الأسباب الرئيسة وراء هذا الإهمال تعود إلى عدة عوامل هيكلية ومالية، طبقا لجواد التي تشير إلى أن "شح الميزانيات المخصصة لتلك المؤسسات يلعب دورًا كبيرًا في هذا الأمر، حيث تواجه المدارس والجامعات نقصًا حادًا في الموارد المالية، ما يجعل من الصعب تخصيص الأموال لتجهيز غرف الإسعافات الأولية." وأشارت إلى أن الأولويات غالبًا ما تكون موجهة نحو المشاريع الأكاديمية والبنية التحتية، ما يقلل من الاهتمام بتخصيص الميزانيات لتجهيز هذه الغرف.
كما أكدت جواد على الأسباب الثقافية والاجتماعية التي تسهم في الإهمال، قائلة ان "التركيز الكبير على الجانب النظري في التعليم غالبًا ما يؤدي إلى إغفال الجوانب الصحية. هناك قلة في الوعي المجتمعي بأهمية الإسعافات الأولية وتأثيرها المباشر على صحة الطلاب".
إضافة إلى ذلك، تحدثت جواد عن الأسباب الإدارية والتنظيمية التي تؤثر في توفير غرف الإسعافات الأولية، مضيفة ان "نقص الوعي بأهمية الإسعافات الأولية لدى العاملين في المدارس والجامعات يعد من العقبات الكبيرة، حيث لا يتلقى الكثير منهم التدريب الكافي للتعامل مع الحالات الطارئة. هناك أيضًا نقص في الموارد البشرية المتخصصة للإشراف على غرف الإسعافات الأولية". وأكدت، أن غياب اللوائح التنظيمية الواضحة يجعل من الصعب تحديد مسؤوليات الجهات المختلفة في توفير الرعاية الصحية الطارئة، مشددة جواد على ضرورة بذل جهود مشتركة من قبل جميع الأطراف المعنية لتحسين مستوى الخدمات الصحية في المدارس والجامعات، من خلال تطوير وتوفير بيئة تعليمية آمنة وصحية: "يجب تعزيز دور غرف الإسعافات الأولية، وزيادة الوعي المجتمعي بأهمية هذه المرافق، لضمان بيئة تعليمية تتسم بالأمان والسلامة للجميع".